علي السوداني*
قبل شهر مسخم (1) من زمنكم الذي تحيون، حطّ على عمّان رجل مشهور يشتغــــــل في إذاعة عالمية أشهر منه، وقد اهتدى إلى هاتفي فهاتفني وجاء إليّ بحديث الهجرة والشتات واللجوء والمنافي، وما بينهما وحولهما، وقال إنّه بداعي عمل تقرير إعلاني إعلامي تفصيلي عن حال رعيّة العراق المـزروعين في الشتات، فقلت له لبّيك، فلديّ ما تطلب وتتمنّى وإنّ غداً سيكون بيننا وما عليك سوى حمل عدّتك وأسئلتـك ورؤيتك إلى مقهى السنترال ومقترباته، التي منها الرصيف المواجه له، إذ تنشتل منذ أزيــــد من عقد عجوزاً عراقية تدفع بضاعتها الملتبسة من سجائر وعلك وأعواد بخــور وفرش أسنان.
دفعاً يجعلك تشتريها حتى لو كنت تخيّم على باب سرطان.
أطلّ اليوم التالي فتأخّر الرجل المذيع المشهور المتلبنن صوته ساعة من الوعد، وأخرى رنّ على منتهاها هاتفه معتذراً، متلكّئاً، محرَجاً، مؤجّلاً اللقاء إلى حين، فهو الساعة جالس في دائرة عائلة عراقية تمطر عليه من هطيل قصص الوجع ما يشيب له قلب ورأس تلاميذ أغضاض يسعون على مقاعد الصف الثاني الابتدائي ومعلّمهم رجل طيّب حميم لن يستخدم عصاه حتى لو بال الجمع في حضنه.
من هذا المذيع المعروف الذي أعادني صوته البانورامي إلى حرب الجارة إيران، يقطر على عمّان وأخواتها دمشق وبيروت والقاهرة العشرات، منهم من تخفّف من أحماله وقصرها على قلم وورق، ومنهم من شال جهاز تسجيل صغيراً، وثالث جاء بكاميرا كي تكون الملهاة العراقية مرئية ومسموعة وملوّنة تعوّض المشاهدين الكرام عن حرون فضائيات وأرضيات العرب في مسألة عرض الفيلم الهندي المفتقد.
للقادمين المتخفّفين والحاملين أثقالاً، طرز وأمنيات واشتراطات وسيناريوهات، فمنهم من يروم اللقاء بعائلة هاجرت بعد احتلال بغداد وسقوطها تحت أقدام الهمج الأميركيين، ومنهم من يريد لاجئين معتقين من زمان صدام حسين، وآخر يشترط مسوّغات طائفية أتت بهم إلى المهاجر، ورابع يفتّش عن أسباب فكرية للجوء، وخامس يبتغي قصصاً نسائية فقط، وسادس تخصّص في السبب الاقتصادي للهجرة.
أمّا السابع والثامن والعاشر فلقد عزموا وتوكّلوا وفصّلوا سيناريوهاتهم وقصصهم الإخبارية على أجساد الأدباء والفنّانين والكتّاب، وهؤلاء قوم غالباً ما تتمّ محاورتهم ومجادلتهم في بطن حانة رخيصة أو صالة رسم معلّقة فوق جدرها وحوائطها لوحات تشكيلية سريالية معناها في قلب الرسّام، مشفوعة بطقطوقة مؤثّرة هدفها كسر وحشة الغاليري، وقد غنوجتها البنت المذهلة نانسي عجرم بمطلع دال يصيح «شخبط شخابيط لخبط لخابيط مسك الألوان ورسم عالحيط»!
في باب التسمية، لا يخفي عراقيون ممّن في جيوبهم وخزائنهم تلّة ذهب وجبل فضة انزعاجهم من مسمّى لاجئ، ويقترحون في هذا المقام مفردة «جالية». وانزعاجهم المثير هذا يشبه إلى حدّ بعيد ذلك الحزن والنفور الذي تنام عليه مليونيرة سريلانكية تتبختر في شوارع قاع عمون، لكن النظارة والجمهرة ــــــ جلّها ــــــ ترى إليها على أنها مدبرة منزل أو مربية أطفال قد تسهم تالياً في مؤامرة اعوجاج ضادّ الأمّة!
الحلول شحيحة، ويد الأمم المتحدة قصيرة، ومشهد اللجوء في الداخل وفي الخارج يتّسع وينتفخ حتى ليخيَّل للرائي أنّ البلاد كلّها قد سوّدت ورقة بيضاء عملاقة تطلب فيها اللجوء بتوصيفاته كلّها حتى لو كان المنفى جحيماً!
(1) مسخّم باللهجة العراقية من سخام وهو الغبار الأسود للدخان
* كاتب عراقي