إعداد: مايا جاموس وعبد الوهاب عزاوي
سمع معظمنا بالدعوى التي أقامها السيد فخري كريم على مجلة «الآداب». وصُدمنا لتعرّض هذا المنبر، بإرثه العريق والتقدمي، لحملة تسعى إلى تحويله إلى متهم أمام القضاء اللبناني... وكأنّ تاريخ «الآداب»، وذاكرةَ القراء، وأحلامَهم توضع في دائرة الاتهام.
رغبنا في أن يكون الملف استطلاعاً لآراء مجموعة واسعة من المثقفين السوريين من دون أيّ توجيه من طرفنا. لكنّ الكثير منهم رفضوا المشاركة. فمنهم من اعتذر بسبب موقفه السياسي المتعارض مع توجه «الآداب» الذي ينحاز للطرف الآخر ولا يودّ الإفصاح عنه. وبعضهم ـــــ كما نعتقد ـــــ يخشى ضمناً خسارة العلاقة مع مؤسسة «المدى» القوية اقتصادياً. وآخرون عزلوا أنفسهم عن الحياة، أو اكتفوا بخلقها داخلياً ضمن إبداعاتهم. وهناك من لا يملك أيّ اهتمام بالموضوع، ويعتقد أنّ الصراع بين المثقفين أمر يجب الابتعاد عنه. ورفض قسمٌ آخر المشاركة، لأنه صديق لكل من سماح إدريس وفخري كريم. والاعتذار الوحيد المبرر الذي وجدناه كان من شاعرة رفضت المشاركة في مهرجان المدى الخامس في أربيل، لكنها لا تريد أن تهاجم الذين شاركوا. وقد قدم العديد ممن يرفضون المشاركة موقفاً سلبياً من السيد كريم، مبنياً على عدد من ممارساته ومواقفه.
ومعظم الآراء التي حصلنا عليها سياسي في جوهره، متعلّق بالموقف الرافض للمشروع الأميركي وأعوانه. وهناك مَن كتب من منطلق الوفاء لـ«الآداب» لكونها من أهم الرموز الثقافية العربية. وما سبق يتقاطع مع وجهة نظرنا، نحن معدّي الملف، الذين نرى أنّ جوهر الصراع سياسيٌ يتجلّى في هجمة المشروع الأميركي في إطار ما يسميه المفكر عزمي بشارة «الليبرالية الجديدة المتوحشة» على المشروع القومي العربي بشقه اليساري تحديداً. وقد مثلت «الآداب» طوال عقود حاملاً لهذا الفكر عبر مشروعها التنويري والنقدي، وبالتالي يأتي تعاطفُنا من باب الدفاع عن الذات والهوية، وليس تعاطفاً مع سماح إدريس بشخصه رغم أهميته أو مع مجلةٍ ودار نشر فقط. ولابد أن نؤكد أنّ احتجاجنا على السيد فخري كريم وما يمثله من منصب سياسي لا يؤثر إطلاقاً على احترامنا وتقديرنا البالغين لمجلة «المدى» أو دار المدى ومن عمل أو يعمل فيهما، ومن بينهم أصدقاء حميمون وشعراء أسهموا في تكوين ذائقتنا الجمالية؛ ونخصّ بالذكر الشعراء: نزيه أبوعفش وبندر عبدالحميد وسعدي يوسف الذي وقف بشكلٍ صارخٍ ضد الاحتلال الأميركي وعملائه وضد الطالباني بوصفه «مجرم حرب».
أعدّ هذا الملفَّ شبابٌ في سورية مازالوا قادرين على الحلم، وما زالوا مؤمنين بذلك التاريخ النضالي الذي تعرض للكثير من الطعنات والتشويه. فقد أسهم ذلك التاريخ في الحفاظ على القليل من ملامحهم وقدرتهم على النطق ضمن جيلٍ مهمشٍ. ومن ثم، فإنّ الوفاء لهذا التاريخ هو وفاءٌ لأرواحهم وقدرتهم على الخلق والتطوير والنقد والدفاع عن الهوية في مواجهة المشروع الأميركي. ونقول كما قال مارسيل خليفة ذات يوم: «الثقافة حصننا الأخير»، ولهذا ندافع عن «الآداب» بنبض أرواحنا

يوسف عبدلكيمن له اعتراض على كلام سماح ادريس، فالمكتبات مليئة بالأوراق والأقلام، والصحف في كل مكان وعلى قارعة كل رصيف.
منذ عقود مع انحسار المشاريع القومية واليسارية، والحوارُ يتراجع في المجتمع وفي السياسة وفي الثقافة، وتنتشر أفكارُ الحزب الواحد، والسلطة الواحدة، عسكرية كانت أو مَلَكية دينية، وتملأ الساحات منفردةً. في هذا المستنقع إذا رميتَ حجراً يهتزّ السطح وتنتشر الروائح السقيمة لابسةً ثوبَ المحاكم. فعندما يُمنع حوار المواطن مع المواطن، والمثقف مع المثقف، والمواطن مع الحاكم، لا يبقى من جواب على الكلمة إلا هزّ العصا في وجهها.
لا يمكن شراء كل المثقفين كل الوقت، يا سيد فخري كريم. وكلام سماح ادريس لسانُ حال الآلاف منذ عقود ممن يفكرون كما يفكر، ويقولون في أحاديثهم ما يقول، ولكنهم لا يملكون الشجاعة لنشره كما فعل.
شكراً سماح ادريس.
فنان تشكيلي

محمد حمدان

يمر الواقع العربي بحالة تردٍّ شديد على الصعد السياسية والاجتماعية والفكرية، مع تراجع المشروع القومي العربي وانحسار الحركات الممثلة له. وتأتي مقالة سماح إدريس ضرورةً ملحّةً في هذه المرحلة بالذات، لفضح ممارسات النموذج الذي يمثّله فخري كريم، الذي يبدّل سلاحَه بحسب مصالحه الانتهازية. إنّ المعركة الحقيقية الآن هي في فضح التيار الليبرالي الجديد العميل للمشروع الأميركي، الذي جاء أفرادُه من مرجعياتٍ مختلفة يسارية وقومية، ولكنهم حافظوا على العقلية الانتهازية. من المخزي أن يتحول شيوعي بين ليلةٍ وأخرى إلى ليبرالي، إذ أيُّ فكرٍ كان يحمله في ما مضى، وأيُّ فكرٍ بات يحمله الآن؟! ولا بدّ من الإشارة أخيراً إلى أن أمل هذه البلاد ما زال يقوم على إحياء المشروع القومي العربي وتطويره، لتصبح المواطَنة بديلاً من الانقسامات الطائفية والعصبيات القبلية.
شاعر

قاسم عزاويوبالنسبة إلى الدعوى، هناك نقطتان أساسيتان:
الأولى: أنّ الدعوى تقسم إلى حق شخصي باسم فخري كريم، وهذا أمر لنا أن نختلف فيه... وإلى حق عامّ دفاعاً عن الطالباني بوصفه رئيسَ دولة عربية، وهذه ظاهرة خطيرة ومريضة ومخجلة على الثقافة العربية. والأسخف أن يربط فخري كريم اسمه بشكلٍ مباشر ووقح باسم الطالباني، المجرم المشارك في العديد من المؤامرات والمذابح بحق الجميع، بمن فيهم الأكراد. والثانية: جاء في نص الدعوى أن ترخيص «الآداب» يقوم على أنها مجلة ثقافية، وبالتالي ممنوعٌ أن يُكتب فيها أيُّ مقال ذي صبغة سياسية. وهذا فكر سلطوي قمعي، ويقدّم أحطَّ التفاسير لكلمة «ثقافي» لأنه يعزلها عزلاً مطلقاً عن البنية السياسية.
النقطتان السابقتان وحدهما كفيلتان بالوقوف ضد فخري كريم وعملاء الاحتلال الأميركي من ورائه، بغضّ النظر عن احترامنا البالغ لـ«الآداب» واقتناعنا بموقفها.
شاعر وطبيب وعضو في المؤتمر القومي العربي


محمد جمال باروت

الدعوى المقامة على مجلة «الآداب» دعوى سلطوية غاشمة، مسلّحة بالمال، وبعلاقاتٍ مشبوهة مع محتلين، على منبر الكلمة المستقلة الذي تمثله مجلةُ «الآداب» بوصفها آخرَ مجلة ثقافية مستقلة بالاسم والفعل في الثقافة العربية.
ناقد وكاتب


نذير جزماتي

فخري كريم اتّبع الغدر سبيلاً للارتزاق والاغتناء. ومن فضائحه إبعاد الرفيق المناضل الكبير ميشيل كامل لأسباب شخصية عن هيئة تحرير مجلة «النهج» التي حوّلها فخري إلى ملكٍ شخصي بالنيابة عن الحزب الشيوعي العراقي، الذي باعته قيادتُه إلى الأميركيين المحتلين. وسبق لميشيل أن كشف في الجلسة المعقودة في موسكو في 26/10/1989 (انظر مجلة «النهج» عدد 29عام 1990) عن حقيقة فخري الذي اتخذ قرار الإبعاد في جلسة سابقة دون علم الرفيق ميشيل وربما دون علم اللجنة: فهو كان ينوب عنها في كل شيء، وبالدرجة الأولى في قبض الأموال وتحويلها إلى حسابه الخاص. كما كشف ميشيل عن المناهج الستالينية البيروقراطية، وقرارات التكفير والتحريم، وبيّن أن فخري كان رئيساً لمجموعة من الذين استمرأوا بدعة انتزاع شرعية الممثل الأوحد للماركسيين في هذا البلد أو ذاك، بالإضافة إلى سرقة أموال الحزب في المرحلة السوفياتية. وبالتالي فهو أحد مظاهر الأزمة الموغلة التي تجتاح البلدان الاشتراكية والحركة الأممية وأحزابها. ويبدو أن مثل هذا الفساد المطلق ضروري لرئاسة الجمهورية العراقية التي عينت فخري كريم كبيراً لمستشاريها.
كاتب ومترجم



محمد سيد رصاص

تعلّق سيمون دو بوفوار (في «قوة الأشياء») على محاكمة روبير برازياك، الذي كان رئيس تحرير صحيفة موالية لحكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع الاحتلال الألماني، وتتوجت بالحكم عليه بالإعدام وتنفيذه لاحقاً: «لقد كانت سيمون وايل تطالب بأن يَمثل أمام المحكمة أولئك الذين يستعملون الكتابة ليكذبوا على الناس. وإني أفهم موقفها. فهناك كلمات أشدّ قتلاً من غرفة غاز، وكلمات سلّحت قاتلَ جوريس، وكلمات دفعت سالنغرو إلى الانتحار. ولم تكن القضية في أمر برازياك قضية جريمة رأي، فهو بوشاياته وبنداءاته للقتل والإبادة قد تعاون تعاوناً مباشراً مع الغستابو».
للأسف، لا نجد عندنا حالة مشابهة لتلك الفرنسية تجاه عهد فيشي، بل يبدو من تجربة السنوات الخمس السابقة من عمر الاحتلال الأميركي للعراق أنّ هناك تطبيعاً ذهنياً مع ظواهر مثل أحمد الجلبي. فلا يرفّ جفنُ أحد ـــــ في الفضائيات والصحف العربية ـــــ عندما تلفظ عبارات مثل: «رئيس الوزراء المالكي» أو «الرئيس الطالباني»، وكأنّ هذه المسميات أو الألقاب تعبير عن سلطة فعلية!
لا يشمل هذا كثيراً من العراقيين فقط، بل يمتدّ إلى أغلب المثقفين العرب والكثير من الساسة المعارضين، وإن كان أغلب هؤلاء مما يسمى «التيار الليبرالي الجديد»، مع أنّ معظمهم لا يعرفون شيئاً عن الليبرالية، ولم يسمعوا بلوك ومِل؛ فالأمر ليس أكثر من ركوب موجة عالمية، تماماً ـــــ وأحياناً عند الأشخاص أنفسهم ـــــ كما كان الأمر مع الماركسية السوفياتية بين عامي 1945و1975.
في ظل وضع كهذا، يجد الناشر والسياسي العراقي فخري كريم نفسه في حالة وضع هجومي تجاه إنسان عروبي معادٍ للاحتلال الأميركي مثل الكاتب سماح إدريس؛ فيما كان المتعاون الفرنسي مع الاحتلال الألماني في وضعية المنكسر النفسي أمام المقاوم الفرنسي للاحتلال، حتى في ذروة انتصارات الألمان.
لا يأتي هذا الوضع عند كريم من قوة الجنرال بترايوس في بلاد الرافدين فقط، بل أيضاً من أولئك الكتَّاب العرب الذين احتشدوا عنده يومها في ذلك المهرجان بأربيل، والذين يمثّلون أسماء لامعة في الصحافة والثقافة عند العرب... هذا إذا لم نتحدث عن الكثيرين من الذين لم يذهبوا (أو لم يتح لهم ذلك) إلى هناك ويتملّكهم «الاتجاهُ الأميركاني»، وهم يحتلون الآن واجهات السياسة والثقافة والأدب في أكثر من عاصمة عربية.
المفارقة في هذه القضية تتجاوز حدود الشخصين، لتصل إلى حدود الفرق بين بغداد (والعرب) تحت الاحتلال الأميركي، وأوضاع الفرنسيين تحت الاحتلال الألماني، وكل شعب تحت الاحتلال في العصر الحديث: لقد حان الوقت لكي ينظر العرب إلى أنفسهم من خلال المرآة!
ملاحظة شخصية: المسألة عامة وتتعلق بالآراء. ولكي لا أُفهم خطأً، فإني أسجّل هنا أنّ تعامل الناشر فخري كريم معي، من خلال مجلة «النهج»، كان أفضل من تعامل الناشر سماح ادريس عبر مجلة «الآداب».
كاتب

حسيبة عبد الرحمن

إن التعاطي مع المسألة المثارة بين السيدين إدريس وكريم يعيد السؤال القديم عن المثقف ودوره وعلاقته بالسلطات الحاكمة، ذلك لأن كريم يؤدي دور المستشار للرئيس الطالباني (وأنا لست بمعرض انتقاد سياسة الطالباني أو غيره)، فخسر حياديته تجاه الانتقادات التي توجه «للسلطة الحاكمة» تحت ظل الاحتلال الأميركي. وأنا لم أكن أتمنى له أو لغيره من المثقفين الالتحاق بالنظم الحاكمة، وذلك لكي يبقى المثقف عيناً راصدة للأخطاء وضميراً للناس.
ومن المستغرب أيضاً ردة فعل السيد كريم العنيفة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يثار اللغط حول اسمه، وقد سبق وقرأنا كتابات متعددة في الإنترنت عن كابونات النفط، وأموال الحزب الشيوعي العراقي (وعلى الحزب الشيوعي أن يقول رأيه)، فلماذا إثارة الدعوات القضائية بوجه د. إدريس، والسيد كريم يستطع الرد؟ وأظن أن الأمر أصبح يستحق بذل الجهد منه لتبيان الوقائع إذا كانت التهم تزعجه، أو تجاهلها وكأنها لم تصدر.
روائية

فاتح جاموس

من العبث الهرب من هذه المعركة السياسية ـــــ الثقافية مهما كانت الأسباب؛ فلا معارك ثقافية صرفة أبداً. وما كتبه إدريس هو في جوهر هذا العنوان، كما أن المهرجان الذي جرى في أربيل ينضوي بامتياز تحت هذا العنوان. ولا يحق لإدريس أن يستغرب لجوء كريم إلى «القضاء اللبناني» مادام كريم شخصاً سياسياً أولاً، ويعمل في الثقافة ثانياً، ويريد أن يطور معركته مستخدماً كلَّ «أسلحته».
كثير من القوى، وخاصة اليسار الجديد الذي اكتوى طويلاً بنار الاستبداد والعدوان الخارجي، كان يتمنى في كثير من اللحظات أن تكون مثل هذه المعارك في حينه واضحة. لكن العلاقات التحالفية، باسم «الحاجات السياسية»، للعديد من القوى، وبخاصة الشيوعية (الرسمية)، جعلت مثل هذه المعارك محدودة وملتبسة. الكثير من هذه القوى التجأ إلى نظم استبدادية وطلب معونتها ولم يمارس أيّ عملية تضامن مع العديد من القوى التي مورس عليها القمع من هذه الأنظمة، بل كنا نتمنى أيّ مستوى من العلاقة بين بعض هذه القوى في سورية ومنظومة قوى المعارضة العراقية التي لجأت آنذاك إلى سورية. الآن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وقيام «رب أرضي» هو الإدارة الأميركية، يُراد مرة أخرى أن تكون مثل هذه المعارك ملتبسة وغامضة.
كم أتمنى أن تُطرح كل المسائل للجدل السياسي الثقافي. وكم أتمنى على من يعرف الحقائق المتعلقة بالتهم والشكوك المثارة الآن أن يدلي بدلوه ما دام الأمر قد فُتح وغدا أمام القضاء اللبناني.
ناشط سياسي وكاتب