كميل داغر *
بعد شهرين، أو أكثر قليلاً، تكون سنوات ثلاث قد مرّت على التظاهرتين الجبّارتين، اللتين أطلقت تسميتاهما على الحركتين الأساسيتين المتصارعتين، منذ ذلك التاريخ، على السلطة في لبنان. وذلك في مرحلة من تعمُّق الانشطار الوطني إلى حدود تقارب الكارثة. حيث إنّ هذه الحفنة من الوهاد والتلال والجبال على شاطئ المتوسّط، التي لا ندري إذا كان يمكن أن نقول إنّها كافحت على مدى قرن لتكوّن وطناً، فشلت، أيّاً يكن، في بلوغ هذا المبتغى. فضلاً عن ذلك، ها هي تعيش الآن، وسيف مُصْلَتٌ فوقها يهدّد بقطع الروابط التي كثيراً ما بقيت تَشُدُّ أجزاءها. وبالطبع، ليس العجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلا واحداً من تجلّيات هذا الواقع، وليس الأخطر بالتأكيد. الأخطر هو العجز عن التلاقي حول القضايا المصيرية الكبرى لهذا البلد، ولهذا الشعب. وبين أهمّها الموقف من القوى المعادية لأبسط تطلّعاتنا إلى التقدم والتحرر والسيادة، ولا سيما الإمبريالية الأميركية وإسرائيل؛ وفي الوقت نفسه الموقف من المعوّقات الأشد جسامة لوحدتنا، كما لممارستنا لديموقراطية حقيقية، ألا وهي البنى القديمة المتحجرة، وعلى رأسها البنية الطائفية، التي لا تشوِّه حياتنا السياسية فحسب، بل تخترق كل مناحي حياتنا الاجتماعية أيضاً وتحجز تطوّرنا الاقتصادي إلى أبعد الحدود.

تظاهرات الأمس واليوم

لم أشارك في أيّ من تينك التظاهرتين، وعادت بي الذكرى إلى عمر آخر، وأحلام وأفكار من نوع مختلف تماماً، هي تلك التي كانت تراود الآلاف مثلي، ذات أيام ٍ من أواخر الستينيات، وأوائل سبعينيات القرن الماضي. تلك الأحلام والأفكار بالذات، التي جعلتني، مع كثيرين غيري، نجد أنفسنا، مراراً، نقاطاً في بحر تلك الجماهير التي شيَّعت، مثلاً، خليل عز الدين الجمل، أول فدائي لبناني يسقط في صفوف المقاومة الفلسطينية، يوم كانت توحي في كل مكان، تقريباً، بأنها حالة ثورية ليس فقط في مواجهة إسرائيل، بل كلِّ المظالم عبر العالم، أيضاً؛ أو تلك التي اعتصمت، وصامت، وانتفضت ضد خنوع السلطة اللبنانية، بعد قصف إسرائيل مطار بيروت الدولي وتدميرها أسطولنا التجاري الجوي؛ أو تلك التي خاضت بعد أشهر من ذلك الحين، وبالتحديد في 23 نيسان 1969، معركة مفصلية ضدّ السلطة عينها، في ساحة بقيت تُسمَّى باسم ذلك التاريخ سنواتٍ طوالاً، قبل أن تشيخ الذاكرة الجماعية، وتنسى، بنتيجة الحرب الأهلية، اللاحقة، التي كان بين أهدافها الأساسية تصفية الباقي من تلك الأحلام والأفكار؛ وصولاً إلى تظاهرات السنوات الخمس التي سبقت تلك الحرب، مباشرة، وكانت تجمع إلى تحركات فلاحي الجنوب المخضّبة بدم نعيم درويش وحسن الحايك وأمثالهما، وانتفاضة عمّال غندور المغمَّسة بدماء فاطمة الخواجا ويوسف العطار، فضلاً عن التحركات العمالية في المكلّس وسلعاتا وباقي أنحاء لبنان: تحركاتٍ طلابية متواصلةً رفعت شعارات التغيير الجذري، في شتى المجالات، من المدرسة ودور المعلمين والجامعة، إلى الصعيد الوطني العام، من دون أن تغفل قضايا المنطقة العربية ككلّ، وفي الوقت نفسه قضايا التحرّر والثورة عبر العالم، امتداداً إلى تشيلي، في أقصى جنوب القارة الأميركية.

«الشبح» من جديد

لم نكن وحدنا، أي ذلك الجزء المتجذَّر من شبيبة تلك الحقبة، من لاح له الشبح نفسه الذي «تسلّط على أوروبا»، بحسب البيان الشيوعي، قبل ذلك بمئةٍ وبضعة أعوام. كانت فكرة الثورة تحوم في كل مكان تقريباً، في باريس كما في براغ عام 1968، وفي إيطاليا المجالس العمالية عام 1969، وفي الشرق الأقصى، وأميركا اللاتينية، وعلى صعيد قطاع واسع من الشبيبة عبر العالم. حتى كمال جنبلاط، الزعيم اللبناني الوطني الراحل، ذو الأصول الإقطاعية، وكان في سن الكهولة، كان يهجس بها، معترفاً في الكتاب الصادر له بالفرنسية بعد الوفاة، بعنوان Pour le Liban (من أجل لبنان)، بأنه كان يرى في بدايات الحرب الأهلية، ولا سيما خلال صعود مقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية إلى أعالي صنين، أن الأحداث التي كانت تجري آنذاك، وبالتحديد «أحداث 1975 ــــــ 1976»، «وهي نسخة ــــــ حسبما كتب ــــــ عن أحداث 1859*، هي لنا نوع من ثورة 1789**، ولكن على الطريقة اللبنانية، حيث تمتزج الفظاعة بالبطولة».
هذه الثورة ــــــ التي رأى القيادي المذكور أن مقدماتها الأساسية ناضجة، ليس فقط على صعيد الواقع الموضوعي (الفساد المعمَّم، والظلم الاقتصادي والاجتماعي، وتفشي أحزمة البؤس...)، بل كذلك على المستوى الفكري والنفسي، ورأى أنها، على الرغم من العقبات الكأداء التي تقف في طريقها، سواء بسبب الفكر الطائفي المحلّي أو تدخّلات الرجعية العربية المرتعبة مما قد يترتب على انتصارها المحتمل من ارتدادات على المستوى العربي العام، «سوف تنتصر عاجلاً أو آجلاً» ــــــ هذه الثورة، سرعان ما سيتمّ إغراقها في دوّامة الاقتتال الطائفي. هكذا، كان يتكرّر، بالتحديد، مصير ثورة الفلاحين لعام 1859 في الجبل اللبناني، التي أجهضت سيرورتها، وما كانت تحبل به من تمخّضات ذات منحىً تقدّمي شامل، أحداثُ عام 1860 الطائفية وما تلاها من تدخلات أجنبية لتحديد مستقبل هذه البقعة الصغيرة، لكن المهمّة والحيوية جدّاً، في الجسم المترهّل للسلطنة العثمانية.
وبالطبع، لا يمكن تجاهل الجانب الجسيم من المسؤولية عن ذلك المصير، الذي يقع على الحركة الوطنية بالذات (وحلفائها في المنظمات الفلسطينية آنذاك)، حيث إنها فوَّتت فرصة تاريخية للتغيير الجذري، «فرصة أن نحوِّل أخيراً ــــــ بحسب النقد الذاتي المرير من جانب رأس تلك الحركة في كتابه المذكور أعلاه ــــــ مؤسّسات مطيَّفةً ومتصدّعة إلى مؤسّسات علمانية وديموقراطية حقّاً»؛ وأن يتمّ استقطاب حركة جماهيرية كاسحة، عابرة للطوائف، على أساس برنامج اجتماعي متقدّم، بحيث يصعِّب ذلك إلى أقصى الحدود، مهمّة جيش النظام السوري، المرسل لإنقاذ النظام اللبناني المتعفّن، وقد يمثّل منطلقاً لتغيير ثوري عابر للحدود. وذلك بدلاً من الرضوخ للحسابات البائسة لممثلي منظمة العمل الشيوعي آنذاك في المجلس المركزي للحركة الوطنية، الذين لفت أحدهم انتباه رئيسها، بحسب اعتراف الأخير في كتابه «من أجل لبنان»، إلى أنّ «إصلاحاً لمعدّل الإيجارات وفرضاً للسعر العادل قد يحرمنا دعم كل أبناء بيروت، وهم في غالبيتهم الساحقة من الملّاكين، لا من المستأجرين» (ص 246 من الكتاب في أصله الفرنسي). علماً بأنّ تحليلاً من النوع عينه، من المريع والمخزي أن تكون المسؤولة عنه أحزاب يسارية ضمن المجلس المركزي المذكور، بحسب القيادي المنوّه به، هو الذي حال دون إجراء إصلاح زراعي، وتوزيع الملكيات الكبرى للأرض والعقارات المبنية، في وقت كانت فيه الحركة الوطنية تسيطر فيه على 82 في المئة من التراب الوطني!
هذا وقد جاء الاجتياح الصهيوني في صيف عام 1982 ليُحدث تغييراً عميقاً في موازين القوى السياسية والاجتماعية في لبنان لمصلحة صعود القوى المذهبية إلى واجهة السيطرة العسكرية، مع ما أنتجه ذلك من إطالة للحرب الأهلية، بالتلازم مع المزيد من التعفّن في الحياة السياسية اللبنانية، ومع المزيد من إباحة الأوضاع المحلية للتدخلات الخارجية، ومن ضمنها تدخل الرجعيات العربية الخانق وعلى رأسها بوجه أخص المملكة العربية السعودية، التي سيُعقد فيها بعد سنوات قليلة مؤتمر الطائف المشهور، مع ما سيصدر فيه من مقررات باتت تُحكم هيمنتها على دستورنا، كما على الحياة الدستورية في البلد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.

من الطائف إلى الاستعصاء الخطير الراهن

منذ التعديل الدستوري الكبير الذي أعقب اتفاق الطائف، يتبارى السياسيون المحليون، من شتى المشارب والاتجاهات، ومن الخنادق المتقابلة، في إعلان تمسّكهم شديد النفاق بهذا الاتفاق، وينشد فيه العديدون منهم قصائد المديح. علماً بأن كل طرف يأخذ منه ما قد يرى فيه تناسباً مع مصالحه، وفي الغالب الظرفية منها، فيما ينكر على خُصومه الاستفادة مما يلائمهم فيه. وعلماً أيضاً بأن لكل من الأطراف المتصارعة في الشريحة السياسية، الممثَّلة إلى هذا الحدّ أو ذاك في السلطة القائمة، تفسيراته الخاصة به لبنود هذا الاتفاق، وتجلياتها في الدستور الحالي. وذلك في مرحلة من غياب خطير للمحاسبة الشعبية، الذي يتيحه واقع النظام الطائفي السائد إلى الآن، وبالتالي من الالتحاق الجماهيري القطيعي بهذا الطرف أو ذاك، مع عواقب ذلك التي قد تؤدي بالبلد بأجمعه إلى الكارثة، في تاريخ لاحق.
وفي الواقع، قد تكون الفضيلة الوحيدة، أو الفضيلة ونصف الفضيلة، لنكون أكثر دقة، إنما تتمثّل في الحالة الأولى بوقف الحرب الأهلية، وفي الحالة الثانية بإيجاب إلغاء الطائفية السياسية، نظرياً، هذا الإلغاء الذي لا يزال ينتظر منذ سبعة عشر عاماً ونيف تقريباً، وعبثاً، الانتقال إلى التنفيذ!
أمّا ما عدا ذلك فالاتفاق، عدا ما يكثر فيه من الالتباسات، يكرّس عملياً، وحتى نظرياً، البنية الطائفية للبلد ومخاطرها القاتلة، ويؤدّي فضلاً عن ذلك إلى إحداث حالة شلل حقيقية في السلطة، وأكثر أيضاً في عملية بناء الدولة والمؤسّسات. ولعل أخطر ما يدفع في هذا الاتجاه إنما هو الأحكام الواردة، سواء في مقدمته (البند «ي») أو في متنه (المادة الـ95)، التي يستند إليها المتصارعون في الشريحة المذكورة أعلاه للحديث عما يسمّونه ديموقراطية توافقية يقوم عليها، في رأيهم، المجتمع والدولة اللبنانيان، علماً بأنهم لا يتفقون في الأخير على مفاعيل هذه «الديموقراطية» المزعومة، الخاصة بلبنان! وأبلغ دليل على ذلك اختلافهم على شرعية حكومة السنيورة أو عدم شرعيتها في وضعها الراهن، ومنذ استقالة الوزراء الشيعة، بوجه أخص. وهو اختلاف لا يلغي واقع أن دستور الطائف واضح تماماً في جزمه بلا دستوريتها، وفي الوقت نفسه في كونه يتيح هكذا، على الأقل لممثّلي كلٍّ من المذاهب الأكبر الثلاثة (الماروني والشيعي والسني)، إدخال البلد بكامله في استعصاء سلطوي خطير، ساعة يشاؤون، مع ما قد يفضي إليه ذلك من ارتدادات سلبية.
هذا ومطلب الثلث الضامن، أو المعطّل، لا فرق، إنما يندرج في الإطار عينه «للديموقراطية» المشار إليها أعلاه، ويؤدّي في الواقع، في حال اعتماده، إلى الاستعصاء نفسه، ويخدم، تالياً، شلل الدولة، مع ما يهدّد به ذلك على صعيد قضية الاستقرار والسلم الأهلي. علاوة على ذلك، فهو سيفٌ ذو حدَّين، وإذا جرى تشريعه الآن، في وجه جماعة الموالاة الحاليين، فسوف يتيح هذا لهؤلاء، إذا أصبحوا في المعارضة بعد الانتخابات النيابية القريبة القادمة، أن يستحصلوا هم أيضاً عليه حينئذٍ، وهكذا دواليك...!! والخاسر في كلتا الحالتين إنما هما ذانك الاستقرار والسلم الأهلي، وفوق كل شيء مصير أوسع الجماهير الشعبية التي تزداد افتقاراً وبؤساً ويأساً، وتهاجر نسبة عالية من خيرة كادراتها العلمية وأكثر أفرادها قدرةً على العطاء، وذلك تحت غطاء صراع الديوك في السلطة كما في المعارضة، وفي الغياب شبه التام ليسار ثوري فاعل، واتحاد عمالي كفاحي مستعدين للمواجهة ومجهزين بأدواتها النضالية، وبالبرنامج الاجتماعي المتقدّم، ومن ضمنه بوجه أخص المطالب المعيشية الأساسية، على صعيد ضمان العمل والأجر العادل والصحة والشيخوخة، فضلاً عن تلك المتعلقة بحماية القطاع العام والتصدي بنجاح لبرنامج الأكثرية الحاكمة الحالية الاقتصادي القائم على نهب الثروة الوطنية (بدءاً بالخلوي، ومروراً بالكهرباء، وماذا أيضاً؟!)، وتكبيل البلد بالديون، والشعب الكادح بالضرائب، فضلاً عن تسليم زمام اقتصاد البلد وإمكاناته المالية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمصارف والشركات الرأسمالية المعولمة.
هذا الغياب يجب وضع حدٍّ له، ذلك أن هناك خياراً آخر ليس الالتحاق بأي من المعسكرين المتصارعين، وليس في الوقت نفسه اليأس الذي يغرق فيه الكثيرون، في القاعدة الجماهيرية الواسعة ولكن أيضاً على صعيد من ينضوون عادة، في الفكر الشعبي، تحت لافتة النخبة أو الطليعة، الذي يعبّر عن نفسه إجمالاً بالاستنكاف والقرف، سواء مع تبرير هذا الموقف أو من دون تبريره.

أجل، ثمة خيار آخر!

في نص جميل، على قتامته وانسداده، بعنوان القربان، كتب الأستاذ أنسي الحاج، في عدد 24 تشرين الثاني الماضي من هذه الصحيفة، الكلام التالي:
«ولو كان هناك أمل بثورة شعبية عامة تغيّر الواقع لهانت الآلام. ولكننا ممسوكون على نحو من الجهنميّة بحيث لا مجال معه في المدى المرئي لانتفاضة جماعية إلّا تحت طائلة تحويلها فتنة طائفية أو مذهبية».
هذا ولا ينطلق الأستاذ الحاج من الفراغ، بل يستند إلى التجربة الفعلية لهذا الوطن الصغير على امتداد قرنين من الزمن. لكننا نعتقد أنْ لا شيء في هذا العالم، ولا سيما مع القفزات الهائلة التي بات يعرفها في العقود الأخيرة، يخضع لقدر مكتوب سلفاً. لا حتميات قاتلة أمام عقل الإنسان وإرادته اللامتناهيين. وعلى رغم السقطات العميقة والتراجعات التي شهدها بلدنا في الثلاثين سنة الماضية، فلقد اجترح أبناؤه أيضاً معجزات حقيقية في الفترة نفسها، ولا سيما في مواجهة قبضايات هذا العالم وطغاته وسفّاحيه، من واشنطن وصولاً إلى تل أبيب. وخرجت جيوش هاتين مدحورةً من أرضنا وموصومة بالعار، أكثر من مرة، منذ عام 1983 حتى الصيف ما قبل الماضي. وذلك بانتظار أن تخرج أيضاً كل منوّعات الفكر المتخلف، أكان طائفياً، أو سلفياً، أو ملتحقاً بأكاذيب رأس المال المعولم وأساطيره، ومعها كل هذه المافيات المالية التي أتاحت لها السيطرة على مفاصل السلطة وثروات الوطن والشعب حربٌ أهلية طويلة وتدخّلاتٌ لا تتوقف من جانب الغرب الإمبريالي والرجعيات العربية على اختلافها، أكانت تنتعل الأخفاف الخليجية أو الجزمات الديكتاتورية، وسواء كانت تتربّع على السلطة في دمشق، أو في القاهرة والرياض.
ذلك أن أعداداً غفيرة من الفتيات والشبّان، يقدَّرون بعشرات إذا لم يكن بمئات الآلاف، تخرّجوا ولا يزالون يتخرجون من الجامعات، فيما توصَد دونهم أبواب العمل، ويضطر كثيرون منهم إلى الهجرة، وقد كان بودِّهم لو يتمكّنون من العثور على الحياة الكريمة في الوطن، وعلى مقربة من الأهل والأحباء. وعاجلاً أو آجلاً، قد يكتشف غالبية بينهم أسباب المآزق التي يتخبط فيها وطنهم، ومسؤولية القادة الحاليين للمذاهب والطوائف والشركات عنها، أكانوا في مواقع السلطة أو خارجها. علماً بأنه يمكن تسريع ذلك، بقدر ما تنجح الشروط الموضوعية لأزمة النظام الطائفي الرأسمالي المتخلف، وجهود الأكثر وعياً وإخلاصاً في تجربة اليسار المحلي، في تسهيل سيرورة تجمُّع يسارٍ ثوري حقاً وديموقراطي حقاً حول برنامج يدمج المطالب الوطنية ـــــ وفي طليعتها إنتاج مقاومةٍ مسلحةٍ شاملة يلتقي في صفوفها الإسلاميون كما العلمانيون الديموقراطيون، سواء بمواجهة إسرائيل أو بمواجهة الإدارة الأميركية وحلفائها ـــــ بالمطالب الاجتماعية والديموقراطية، وفي واجهتها الأمامية مطلب إلغاء الطائفية السياسية وإرساء قانون مدني للأحوال الشخصية والإرث، على أساس المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. فضلاً عن السعي لإجهاض التوجهات المعلن عنها حالياً، لدى كلا طرفي الصراع لدينا، إلى إقرار قانون للانتخابات النيابية على أساس القضاء، وبالتالي الاقتراع الأكثري، واستبدالها بالتوجه إلى انتخابات جمعية تأسيسيّة على أساس التمثيل النسبي ولبنان دائرة واحدة، يكون في مقدمة اهتماماتها تحقيق خطوات جدية على طريق تجاوز البنى الطائفية المتحجرة. ذلك أنه بقدر ما نتقدم أكثر نحو العلمنة الشاملة للمجتمع والدولة اللبنانيين، بقدر ما ينضج عندئذ إمكان تجاوز ذلك «القَدَر» البائس، المتمثّل في تحوّل الثورات سريعاً لدينا إلى حروب أهلية طائفية، والقدرة على إنجاز ثورة حقيقية على المستوى اللبناني البحت قد تؤدّي دوراً حاسماً ليس في تغيير الصورة الراهنة لهذا الوطن الصغير فحسب، بل كذلك في تعميم هذه الصورة على كامل الوطن العربي، وهو ما يخشاه أشد الخشية شتى الملوك والرؤساء العرب، الذين أبدى العديد منهم هلعه إزاء صمود لبنان في وجه عدوان تموز ـــــ آب 2006، الإسرائيلي ـــــ الأميركي.
إن ثورة 1789 اللبنانية التي لم تتم إلى الآن، يمكن ويجب أن تتم. ومثلما أنتج الأصل الفرنسي ارتدادات هائلة على امتداد أوروبا بأسرها، يمكن أن يفعل الشبيه اللبناني المنشود بدوره الفعلَ نفسه في محيطه العربي.
* كاتب ومحامٍ لبناني