ناهض حتر *
رغم أن سنة 2007 كانت السنة الأكثر فداحة في خسائر الأميركيّين البشرية والميدانية في حرب العراق، إلا أنّ الأشهر الثلاثة الأخيرة منها شهدت، بالفعل، تراجعاً ملموساً في العمليات العسكرية الموجّهة ضدّ المحتلّين، الذين خفضوا من جهتهم عمليات الاشتباك مع المقاومين. وما حدث أن الطرفين شُغلا بقتال «القاعدة» وأنصارها، في سياق هدنة ناجمة عن تفاهم سياسي، مباشر أو ضمني.
ولعلّ منظّمات المقاومة العراقية لم تكن، منذ انطلاقها عام 2003، أقوى مما هي عليه الآن من الناحية العسكرية. ولكنها من الناحية السياسية تسير نحو الاندراج في الحالة العراقية القائمة. وفي رأيي أن هذا المآل كان متوقعاً. فحين ندقّق في حجم الخسائر العسكرية الأميركية في حرب العراق، سوف نتوصّل إلى استنتاج رئيسي مفاده أن استمرار الاحتلال حتى الآن ناجم عن المعادلة السياسية العراقية الداخلية والإقليمية، لا عن القوّة العسكرية التي استطاع المقاومون العراقيون شلّها كلياً، بعد سنة واحدة من هزيمة النظام، أي في نيسان 2004.
لا يلحظ الكثيرون معطيات حرب العراق بسبب الدعاية الكثيفة المضادة للمقاومة العراقية، وبسبب الادعاءات الأميركية المتكرّرة، والغشّ في الأرقام التي لا يريد أحد من التيار السياسي والإعلامي الرئيسي في الولايات المتحدة الكشف عن حقيقتها.
عدد القتلى الأميركيين لم يبلغ بعد، رسمياً، أربعة آلاف، بينما يموت العراقيون بلا عدّ، ما يجعل الصورة النهائية، ضبابية. ذلك الرقم العنيد، متغيّر بالطبع، حسب التصنيف الإداري للموت. فإذا استخدمنا مثلاً التصنيف الآتي: «حالة وفاة ناجمة عن أداء مهمة في العراق»، فإن الرقم ذاك سوف يتضاعف أربع مرات، حسب تحقيق أخير لشبكة «سي بي أس» الأميركية التي رصدت، فقط، حالات الوفاة الناجمة عن الانتحار في صفوف القوّات الأميركية أثناء الخدمة في العراق، وبعدها.
غير أنّ المقاربة الأكثر دقّة لنوعية الخسائر الأميركية في العراق، لا تكمن في عديد القتلى، ولكن، بالأساس في عديد الجرحى، الذي تجاوز رسمياً الخمسين ألفاً (آذار 2007). وهؤلاء الجرحى هم عسكريون «تعرّضوا للقصف أو الحرق أو فقد الأطراف أو المرض البدني أو النفسي».
وهكذا، فإنّ نسبة الجرحى إلى القتلى، حسب المعطيات الرسمية الأميركية، هي 16 إلى واحد، بينما كانت في فيتنام في حدود النسبة التقليدية، أي 3 إلى واحد. ونحن لا نتحدّث هنا عن حالات طبية خفيفة أو مؤقّتة. فهذه الحالات بلغت مئتي ألف حالة متكرّرة (والرقم يشمل أفغانستان). ولكننا نتحدّث عن جرحى أصيبوا إصابات بالغة أو متوسّطة، وسُحبوا من الميدان نهائياً، أو جزئياً.
ويلحّ الأميركيون في هذه الحرب على توظيف التقدّم الحاصل في اللوجستيات والعلاج الميداني في إنقاذ الجنود من الموت. والهدف من وراء ذلك ليس «إنسانياً» بل وسيلة للخداع والتضليل حول حجم الإصابات الحقيقية. فواشنطن لا تريد قتلى، وتركّز على إسعاف الجرحى حتى لو بقيت منهم أشلاء مرمَّمة تعاد إلى الولايات المتحدة كي تواجه الإهمال واليأس والانتحار.
خسر الأميركيون حرب العراق من الناحية العسكرية. وهذا واضح من استمرار الوضع القتالي لقواتهم منذ 2003 وحتى الآن، دون أيّ أمن، ودون القدرة على تنفيذ أية خطة سيطرة، بل فقط خطط القتل العشوائية على واسع النطاق، باستخدام أسلحة محرّمة أو عصابات الشركات
الأمنية.
وعلى هذه الخلفيّة، فالأفضل هو أن نقرأ الهدنة بين الاحتلال والمقاومة في السياق السياسي العراقي الداخلي. لقد انتصر قانون البقاء ـــــ وهذا طبيعي ـــــ على قانون القتال بالنسبة لمجتمع المقاومة وحاضنته من العشائر العربية السنية، التي قاتلت بضراوة وشجاعة منقطعتي النظير لمدّة أربع سنوات، من دون إسناد خارجي وفي ظروف استثنائية، على ثلاث جبهات. فبالإضافة إلى العنف الاحتلالي الإجرامي، واجهت ما يمكن وصفه بأنه حرب تصفية، بل حرب إبادة من قبل قوّتين داخليتين، هما الميليشيات «الشيعية» المرتبطة بإيران، وميليشيات «القاعدة» المرتبطة بقوى إقليمية أخرى، من بينها ـــــ للمفارقة ـــــ إيران أيضاً. الأولى ضربت الحضور السنّي في العاصمة بغداد وجوارها، والثانية استبدّت بالسنّة في مناطقهم ذاتها. وظهر بالتالي تيّار عربي سنّي عريض يدعو إلى الحفاظ على الذات، ما تطلّب القبول بالهدنة مع المحتلّين المنهكين بدورهم حتى الإعياء.
غير أن العامل الرئيسي الذي حوّل منظّمات المقاومة العراقية إلى ميليشيات علنية للسنّة، هو افتقارها، منذ انطلاقتها، إلى رؤية سياسية عراقوية جديدة تتطابق مع احتياجات البلد في مرحلة التحرّر الوطني. وأشير مثلاً إلى شعار «المقاومة هي الممثّل الشرعي والوحيد للشعب العراقي». وترجمة هذا الشعار عند العراقيّين الشيعة والأكراد هي «استعادة السلطة للسنّة العرب»، أي إنه في السياق العراقي الملموس، لم يكن شعاراً ثورياً بل طائفي. ولم تستطع أي من منظمات المقاومة، بسبب طابعها الديني والمذهبي، أن تقدّم رؤية وطنية داخلية جامعة، بينما رفض البعثيّون المبادرة إلى النقد الذاتي ومراجعة أخطاء الماضي، مصرّين على منهج استعادة السلطة، وهو ما أدّى بهم إلى عزلة خانقة، لا فقط عن المجتمع العراقي، بل أيضاً عن مجتمع
المقاومة.
إلا أن أسوأ ما حدث هو خطيئة احتضان «القاعدة» التي افتتحت المذابح المذهبية، وانحرفت بخطاب المقاومة إلى الشحن المذهبي، وانتهت إلى فرض «دولة» طالبانية استبدادية سوداء على مناطق المقاومة بالذات.
نستطيع أن نطرح استنتاجنا الرئيسي من تجربة المرحلة الأولى من المقاومة العراقية، وهي أن الأيديولوجيات القومية والدينية لا يمكنها أن تقود حركات التحرّر الوطني إلى نصر ناجز. فالمقاومة ليست فقط بندقية، بل استراتيجية بناء وطني متكاملة. وإذا كان هذا «القانون» الاجتماعي ـــــ السياسي يصحّ دائماً، فإنه في حالة العراق المتعدّد الأديان والمذاهب والقوميات، يغدو قانون المقاومة بالذات.
المرحلة الأولى من المقاومة العراقية انتهت بوصولها إلى سقفها السياسي، وهو اضطرار المحتلين إلى تغيير استراتيجيتهم جذرياً، والاعتراف بثقل ونوعية المكوّن السني في البلد، والذهاب إلى تسوية تقوم على المناصفة السنية ـــــ الشيعية بدلاً من المثالثة مع الأكراد الذين سيعودون الآن إلى حجمهم الطبيعي في المعادلة العراقية والإقليمية، ولن يشكّلوا، بعد، فدرالية توسّعية (قضية كركوك مثلاً تسير نحو الحلّ على أساس عراقية المدينة لا
كرديتها).
إنجازات المقاومة العراقية في مرحلتها جبّارة. فهي أنقذت العالم العربي كلّه من الانحلال تحت وطأة هزيمة جرى الردّ عليها بسرعة خارقة غير مسبوقة، بقتال ضار غير مسبوق من المقاومات عبر التاريخ. وقد عرقل هذا الردّ العاصف، المشروع الاستعماري الأميركي في العراق والمنطقة، ووجّه إليه ضربات موجعة جدّاً.
البنية العراقية، مثلما قلنا دائماً، مستعصية على الاستعمار، بمعنى أنّ شروطها الداخلية هي أقوى من الشروط الخارجية. وهذه هي المعادلة التي كانت وراء سرعة انطلاق المقاومة العراقية وحجمها وقدرتها على إيقاع خسائر جسيمة في صفوف جيش الاحتلال وشلّه عسكرياً وأمنيّاً. وإذا كان العراق هدفاً حتمياً لهم، فإنّ اصطدام هذا الاستهداف بالحتمية العراقية المضادّة، برهن على الفشل التاريخي لاستراتيجية المحافظين الجدد القائمة على إمكان تغيير البنى الوطنية بالقوة العسكرية. هذه الاستراتيجية أصبحت من الماضي الآن.
استطاعت المقاومة العراقية، بمجرّد ظهورها القوي وفاعليتها واستمرارها، أن تعيد ترتيب موازين القوى الإقليمية لمصلحة الدول والقوى المحلّية في المنطقة، كل منها وفقاً لطاقته وقدرته على الاستفادة من المأزق الأميركي في العراق. وأكبر الرابحين هم إيران وسوريا والمعارضة اللبنانية وحركة «حماس».
وعلى المستوى العالمي، شكّلت السنوات الأربع الفائتة من غرق الأميركيّين في حرب العراق، فرصة ذهبيّة للصين وروسيا للتحوّل إلى قطبين دوليّين، ولليسار الأميركي اللاتيني للنهوض وتسلّم السلطة في عدة بلدان في «الحديقة الخلفية» للاستعمار الأميركي، على حساب النفوذ والمصالح الأميركية بالذات.
وعلى مستوى موقع أميركا الشمالية في المنافسة الدولية، خسرت واشنطن حرب المنافسة في كل المجالات، ما عدا واحداً هو المجال العسكري. ولا يمكن أن تستمر دولة عظمى في الهيمنة الدولية بقدرات البلطجي وحده، من دون قدرات اقتصادية وثقافية وأيديولوجية ناجحة. وقد خسرت واشنطن في حربها على العراق كل شيء تقريباً، من السيطرة شبه الشاملة على قطاع النفط الدولي، حيث قضمت روسيا والصين والهند حوالى ثلث هذا القطاع، إلى قوّة الدولار. وبرز في التجارة الدولية منافسون أقوياء في كلّ حقول الصناعة والتقانة. لكن الهزيمة الكبرى التي لحقت بالإمبراطورية الأميركية هي هزيمة أيديولوجيتها وثقافتها التي ارتبطت في العقل الجمعي للبشرية بالبربرية والحرب والدماء والاستغلال والإمبريالية. لقد تغيّر العالم بالفعل منذ 2003، ولكن بالاتجاه المعاكس لإرادة الولايات المتحدة.
لا نعرف متى سوف تنطلق المرحلة الثانية من المقاومة العراقية، ولكنها ستأتي في المدى المنظور على شكل ثورة وطنية شعبية مضادة للمذهبية والإسلام السياسي والنفوذ الإقليمي وخصوصاً الإيراني. وسوف تعصف هذه الثورة بالاحتلال وبنفوذ الأميركيّين في المنطقة والعالم. وسوف يدهشنا العراقيون مثلما فعلوا دائماً.
لم يقاتل أحد من العرب بشجاعة العراقيّين وقوتهم ومثابرتهم. وهو ما سيتحول لاحقاً إلى رصيد لهم في شرعية قيادة العالم العربي. قدر العراق أن يقاتل حتى النهاية، وقدر الإمبراطورية الأميركية أن تتهشّم في العراق.
* كاتب وصحافي أردني