عبد الله حرمة الله *
بغضّ النظر عن حجم الحركة الإسلامية في موريتانيا، فإنّ تاريخها يعدّ محاولة سيزيفية للتوحّد، حيث ألفتها تيارات متباينة، تعايشت سلمياً كالسلفيّين التقليديّين والجهاديّين والإخوان المسلمين إضافة للترابيّين، ثم الأئمّة البيروقراطيّين. وتتّفق كل هذه التيارات على ضرورة تغيير المجتمع بربط وثيق بين حياته المادية والروحية من خلال تطبيق حرفي للإسلام. تعوّدت الأنظمة المتعاقبة على السلطة في موريتانيا توظيف الإسلام وسيلةً لتقوية الدولة المركزية في وسط لم يعرف من قبل أي شكل من أشكال الممارسة السياسية على أراضيه الشاسعة والبالغة أكثر من مليون وثلث مليون من الكيلومترات المربّعة. من ناحية أخرى، أدّت أموال الخليج المتدفّقة على الإسلام السياسي إلى تغيير جذري للمنظومة القيميّة. فالعاصمة نواكشوط التي لم تشهد في العقد الأوّل من الاستقلال، إلا تشييد مسجد واحد، انتشرت فيها المساجد بسرعة مذهلة، حيث بلغ عددها في الثمانينات 25 مسجداً لتصل في 2002 الى 617 مسجداً، موّل أكثر من نصفها بأموال الهيئات الخيرية الخليجية. تتجسّد هذه الأسلمة الجديدة في المدن من خلال انتشار مسلكيّات لم تكن معهودة عند الموريتانيّين كتأدية الصلاة في المساجد والتشدّد في صوم رمضان. لكن غياب التيار الإسلامي عن المشاركة في الحياة «الديموقراطية» منذ التسعينات، وانفجار المشهد السياسي الجزائري، وتدويل العنف الديني، كلها عوامل عجّلت في تأليف أول نواة للإرهاب في موريتانيا قد تنذر بإجهاض استقراره السياسي.
للتذكير، فالمجتمع الموريتاني بمختلف مكوّناته العرقية يعتنق الإسلام بمذهبه المالكي مع مسحة تسامح أضفتها طبيعته الصحراوية البدوية، التي تعطي للمرأة مكانة لا تحلم بها مثيلاتها في المجتمعات الشرقية، وتتولّى فيها الحركات الصوفية إدارة عالم الغيبيات. لم تلاق أفكار السلفيّين مع بداية ظهورها في البلاد القبول نفسه الذي لاقته في بلدان أخرى، حيث مثّلت ربما ردّ فعل على محاولات التحديث المباغت، ورأت فيها المجتمعات ملجأً يجنّبها عنف الصدمة الحضارية الحتمية. فقد رأت النخب الموريتانية، حتى اليسارية منها، الإسلام موروثاً ثقافياً أكثر منه إيديولوجيا تحاول تنظيم حياتهم.

استيراد الإسلام السياسي

يعود تاريخ الإسلام السياسي في موريتانيا إلى مطلع السبعينات، عند عودة الدفعات الأولى من الطلاب الموريتانيين الذين درسوا في مصر وتونس، وخصوصاً من الأوساط المترفة، حيث استغلّوا أفكار الإخوان المسلمين كردّ فعل على الحركات التقدّمية، والماركسية منها بالذات. فأوّل تنظيم إسلامي رأى النور في موريتانيا كان في سنة 1974 في نواكشوط وحمل اسم «الجمعية الثقافية الإسلامية». إلا أنّ أصحاب هذه المبادرة سرعان ما التحقوا بصفوف النظام لما كانت الوظيفة العمومية تمثّل من إغراءات آنذاك. أصبحت هذه النخبة الدينية الحديثة في موريتانيا من أكبر حلفاء الرئيس العسكري ولد هيدالة (1980- 1984)، يقرّرون له طريقة تطبيق الشريعة في المجال الجنائي والأحوال الشخصية، بتعايش ديماغوجي مع القانون الوضعي الذي اعتمدته الدولة منذ ميلادها. كذلك حاربت الممارسات الربوية من خلال إنشاء بنك إسلامي (البركة) تهاوى معه النظام المصرفي بسبب التمويلات الزبائنية للجماعات القبلية المسيطرة... ولترسيخ هذه التحوّلات تمّ اكتتاب تلامذة المدارس القرآنية كقضاة وإداريّين ومدرّسين.

مسيرة التعثّرات

إثر هذه المشاركة في السلطة، ثارت القاعدة الشبابية للحركة مطالبة بالابتعاد عن النظام والشروع في العمل الحركي كي تتّسع قاعدة الحركة في الأوساط الطلابية والنقابية، لينتهي بها المطاف إلى الانفصال عن الحركة الأم وإنشاء الحركة الإسلامية في موريتانيا التي أصبح ملخّص اسمها «حاسم»، والتي مثّلت فدرالية للتيارات الناشطة آنذاك: منظّمة الجهاد في موريتانيا، منظّمة المسلمين في موريتانيا، نادي مصعب بن عمير، منظمة نور، حيث تميّز خطابها السياسي بالتنديد بالغبن الاجتماعي وفساد الطبقة السياسية، مع تبنّيها رفض العنف، والتمسّك بالشرعية الدستورية، والتعدّدية الحزبية، على غرار المواقف المعلنة للتونسي راشد الغنوشي، مؤجّلةً في الوقت نفسه قضية تطبيق الحدود إلى ما بعد. وحاولت توحيد صفوفها من خلال مشروع حزب «الأمة» الذي رفضت السلطات الاعتراف به تطبيقاً لقانون الأحزاب الصادر سنة 1991، الذي يمنع انفراد التشكيلات السياسية بحمل لواء الإسلام. بعد هذا التعثّر، تمكّن النظام من استقطاب قادتهم داخل الحزب الحاكم آنذاك، «الحزب الجمهوري الديموقراطي الاجتماعي»، لتلتحق قاعدتهم بحزب المعارضة الرئيسي، «اتحاد القوى الديموقراطية» وحزب آخر متناه الصغر هو «حزب الوسط الموريتاني الديموقراطي». لكن نظام ولد الطائع، الذي تمكّنت أجهزة أمنه من اختراقهم، قرّر اعتقال قادتهم سنة 1994 بتهمة التدبير لعمليات إرهابية، وقام ببثّ اعترافاتهم عبر التلفزيون، ما أفقدهم الصدقية التي كانوا قد بدأوا كسبها لدى الرأي العام الوطني.
نشاط الحركة في إطار المعارضة مكّنها من السيطرة على بعض المجالس البلدية في ضواحي العاصمة نواكشوط لتباشر العمل الاجتماعي من خلال تجنيد الشباب العاطلين عن العمل من حملة الشهادات، واستغلال الوضع الدولي (فلسطين، العراق) والداخلي (التطبيع مع إسرائيل) لاستعطاف الرأي العام. لكنّ نظام ولد الطائع فقد أعصابه سنة 2003 بعد ضلوع الحركة في عدّة محاولات انقلابية مع جماعة من الضبّاط الناصريّين والقبليّين («فرسان التغيير») ليعتقلهم من جديد بتهمة التحريض على الإرهاب داخل المساجد وعبر شاشة الجزيرة. لكنّ غياب الأدلّة هذه المرّة جعل النظام مرغماً على إطلاق سراحهم، الأمر الذي رفضه أعضاء الحركة المعتقلون، ما جعل السلطات تلجأ إلى القوة لإخراجهم من السجون، ليستعيدوا ثقة الرأي العام ويخرجوا من هذه المعركة منتصرين إعلامياً على الأقل.
وخلال المرحلة الانتقالية، جدّدت السلطات رفضها الاعتراف لهم كحزب سياسي، ما جعلهم يشاركون في الانتخابات البرلمانية للفوز ببعض المقاعد إثر تحالفات مع بعض القوميّين العرب. لكن مشاركتهم في الرئاسيات من خلال دعم زعيم انقلابي سابق اعتُبرت صفعة حقيقية للتيار بأكمله، حيث حصلوا على أقلّ من 10 في المئة من الأصوات. لكن الرئيس الجديد رخّص لهم بحزب سياسي عام 2007، هو التجمّع الوطني للإصلاح والتنمية (مختصره «تواصل») تنفيذاً لوعد انتخابي ومحاولة لاستجلاب القواعد القبلية التي ينتمون اليها.

المشهد الإسلامي وهاجس العنف

يتكوّن المشهد الإسلامي الموريتاني من الحركات الصوفية التقليدية، وإسلاميي النظام الذين يغلب على نشاطهم الطابع الجهوي والقبلي، وميول وسطية تتكوّن أساساً من الإخوان المسلمين الذين يتبنّون استراتيجيا المشاركة في العملية الديموقراطية على غرار النموذج التركي. أمّا في أقصى المشهد، فنجد الحركات السلفية الرافضة لكل أشكال المشاركة السياسية بوصفها احتكاماً لغير الله، وتربطها علاقات بـ«القاعدة» عن طريق الوسيط السلفي الجزائري.
تنقسم الحركات الأخيرة هذه إلى:
ــــــ الوهّابيون السلفيون: وهو تيّار غير منظَّم، يدعو للعودة إلى الأصول، تمكّن من خلال توزيع الأشرطة المسجّلة من نشر التذمّر من الأولياء والزعامات الروحية التقليدية للمجتمع. ينادي كذلك بالجهاد ضدّ غير المسلمين، حيث هاجر الكثير من شبابهم للمشاركة في المقاومة في أفغانستان والبوسنه
والعراق...
ــــــ جماعة الدعوة والتبليغ: وهي التي تتولّى التأطير الإيديولوجي، وتتولّى كذلك عملية تبييض الأموال القادمة من دول الخليج. ويعرف هذا التيار مشاركة نشطة للباكستانيّين والأفغان والهنود.
ــــــ السلفيّون الموريتانيّون: ويتكوّن من جماعة من الشباب تقلّ أعمارهم عن الثلاثين، من محترفي الجريمة سابقاً، رمى بهم القصور المعرفي وعولمة الإعلام المرئي للعنف الديني في أحضان الحركة السلفية الجزائرية. تصفهم غالبية التيارات الأخرى بالتكفيريّين، وقد تلقّى بعض أفرادهم تدريبات عسكرية في مخيمات الحركة السلفية في الجزائر، التي تعوّدت إرسالهم للمشاركة في عمليات خارج موريتانيا بحكم الوفاق الضمني بينها وبين أجهزة الأمن الموريتانية التي تمنحها حرية الحركة شرق موريتانيا وشمال مالي، مقابل تجنيب موريتانيا أي نشاط إرهابي.
لكن دخول الحركة الإسلامية الموريتانية بعمومها في النشاط السياسي الشرعي وضغط الجزائريّين المتزايد جعل هذه الجماعة تنفلت من أحضانهم خاطبة ودّ «القاعدة» المباشر من خلال تنفيذ العمليّتين الأخيرتين في موريتانيا، والتي يبدو أنّه جرى تمويلهما من عمليات السطو، فقد جرى الاستيلاء منذ أقلّ من شهرين على دخل ميناء نواكشوط خلال عملية نفّذت في الطريق الرابط بين الميناء والمصرف، في انتظار التفاتة دافقة من «القاعدة»!
* صحافي موريتاني