طراد حمادة *
في الوقت الذي كانت فيه أحداث تظاهرة الأشرفية تهدّد وحدة الحكومة، وتجبرها على التضحية بالوزير السبع، كانت منطقة كنيسة مار مخايل، تشهد توقيع اتفاقية التفاهم بين العماد ميشال عون والأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله.
حقّقت وثيقة التفاهم، توازن المشهد الوطني، وأحدثت متغيّراً أساسياً في التحالفات الوطنية مفاده ما يأتي:
- حماية الوحدة الوطنية وحفظ المقاومة، والمطالبة بالمشاركة السياسية، ومقاومة أشكال الهيمنة وسياسة الانقلاب على التحالفات، ونقد العهد والميثاق، وتطويق سياسة العزل، والتفرد ومعاندة حقائق الواقع السياسي والجنوح الى الاستبداد ومجافاة الديموقراطية التوافقية وصيغة العيش المشترك. ومن الناحية السياسية، مثّلت وثيقة التفاهم، صيغة التسوية الوطنية اللبنانية، التي ترقى الى مستوى بناء الثقة المتبادلة، وتبديد الهواجس المشروعة، وتمتين العلاقات وتغليب المصلحة الوطنية على المكتسبات الحزبية والجمع بين المواقف المتباعدة، بالتقارب لا التنابذ والمحبة لا البغضاء. وقد أوجدت وثيقة التفاهم صيغة متقدمة في الشكل والمضمون، عن المبادئ العامة التي تحقّق على أساسها التحالف الرباعي الذي لم يرتقِ الى مستوى التسوية الوطنية التي مثّلتها وثيقة التفاهم. ومن ناحية أخرى، كانت وثيقة التفاهم مرتكزة على المبادئ التي تأسّس عليها التحالف الرباعي ومصحّحة للثغر الأساسية في هذا التحالف. ولذلك لم تكن تحالفاً مغلقاً على الآخرين بل صيغة سياسية لعقد اجتماعي، دأب اللبنانيون على تسميته: صيغة العيش المشترك والمشاركة في الوطن.

لماذا 14 شباط؟

مع توقيع وثيقة التفاهم، كان تحالف 14 آذار يشهد متغيراً انقلابياً، حمل المعارضة على إطلاق عنوان 14 شباط عليه، نسبة الى التظاهرة الشعبية في 14 شباط 2005 وإلى طبيعة الأهداف السياسية التي حملتها الخطب السياسية والشعارات واللافتات داخل التظاهرة، والتي تحولت الى مسار سياسي وتحالف سياسي مختلف عنه في 14 آذار 2004، هو تحالف 14 شباط 2005 ما دفع تكتل «التغيير والإصلاح» إلى مغادرة الحركة، والانضمام الى صفوف المعارضة مع 8 آذار.
ما المتغير السياسي بين 14 آذار و14 شباط؟ وهل الأمر مجرد لعبة لفظية في اختيار الأسماء، أم أنه عنوان سياسي لمواقف وأفكار، تحولت حتى فقدت سماتها السابقة واكتسبت سمات جديدة، كانت تستحق بدورها أن تحدث متغيراً في السياسات، وعنواناً جديداً لتحالفها المختلف؟
المتغيرات السياسية الأساسية داخل ائتلاف 14 آذار تختصر بالمسائل الآتية:
- في الوضع الداخلي: الانقلاب على التحالف الرباعي وعلى التضامن الحكومي والبيان الوزاري، وممارسة سياسات داخلية وخارجية ترتهن للمشروع الأميركي وتتمثّل بما يأتي:
1- التركيز على اعتبار سوريا هي العدو قبل الكيان الصهيوني، وأن المواجهة مع سوريا ليست في بيروت فحسب ولكن داخل دمشق، والمصارحة علناً بضرورة تغيير النظام السوري لمصلحة المعارضة التي انشقّت عنه والتي اشتهرت بإدارتها السيئة للملف اللبناني أثناء ما يعرف بفترة الوصاية السورية على لبنان.
2- الانتقال من تدويل التحقيق إلى تدويل القضاء والعدالة، الأمر الذي يجعل العدالة ريشة خفيفة الثقل في لعبة الرياح الدولية، ويضيع الحق ويضيع أهله ولا من يهتدون.
3- مع تواصل عمليات الاغتيال السياسي التي تجد في مواجهاتها ضعفاً في الجهاز الأمني والحماية (الأمن العسكري والأمن السياسي) ومكانة الإرهاب كانت التهم السياسية محضرة سلفاً لتخدم الأهداف المعادية لسوريا.
4- ميل قوي الى ممارسة نظام التفرّد في السلطة من خلال التلويح بقرار التصويت داخل مجلس الوزراء ونفاد صبرهم في قبول مبدأ التوافق والتضامن الحكومي بعدما جرى كسب ود وتأييد بعض الوزراء المحسوبين من أساس الثلث الضامن في تأليف الحكومة.
5- ممارسة ازدواجية العلاقة مع الرئيس لحود، مهادنته من جانب رئيس الحكومة والتساكن معه بشأن توقيع المراسيم، والقرارات، ومهاجمته كما لم يسبق أن حدث مع رئيس جمهورية في السابق.
6-العودة الى المطالبة بتنفيذ كامل بنود 1559 مع ما يعنيه من تراجع عن دعم المقاومة وحقها في تحرير الأرض والأسرى والدفاع عن لبنان، كما ورد في متن البيان الوزاري.
7- الإصغاء بطريقة عجيبة لإملاءات السفير الأميركي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وتدويل الصغيرة والكبيرة في شؤون إدارة البلاد.
8- الدخول في أحلاف عربية ضمن مفهوم دول الاعتدال العربي المرتبطة بتغطية المشروع الأميركي.
9- تعطيل كل أشكال التضامن عبر مواقف سياسية ديماغوجية ملتبسة بكلّ ما يتعلق بسياسات التضامن الإسلامي، والعلاقة مع الفلسطينيين في فلسطين وفي لبنان.
10- إعادة نغمة التهديد بالفتنة المذهبية، والتحريض الصريح في الخطاب السياسي على أطراف تحالف 8 آذار.
11- القيام بحملة ضد التيار الوطني الحر، وضد التفاهم مع حزب الله واعتبار ذلك مخالفاً لوثيقة الطائف.
12- السعي الجدي إلى إخراج ائتلاف 8 آذار من الحكومة وتحضير الأجواء والمنافسات السياسية لاحتمال حرب عدوانية على لبنان. الأمر الذي تحقق في حرب تموز العدوانية عام 2006.
الجغرافيا المقدسة وفعل المقاومة
أسكنت الجغرافيا لبنان شمال فلسطين، والجغرافيا المقدّسة في المثلث الواصل الرابط بين سوريا ولبنان وفلسطين والنافذ الى ساحل المتوسط، الذي شهد تاريخ الصراع العربي ــــــ الصهيوني في حروب متتابعة، من حرب الـ1948 في المالكية وجوارها الى حرب الجولان، الى حرب التحرير، الى حرب لبنان، منطقة احتشدت فيها أكبر نسبة من القوات العسكرية وشبه العسكرية وقوات المقاومة وحرب التحرير. لذلك، فقد جمعت الى جانب جغرافيتها المقدسة تاريخاً قدسياً بدوره، لأنه ارتوى بالأحداث والتضحيات والآلام والآمال والدموع والدماء، والأحزان والأفراح والتضحية والسخاء.
هذه الجغرافيا المقدسة وضعت لبنان، في قلب الصراع العربي الصهيوني، رغم معاندة حكومته المركزية في القبول السهل بنتائج هذه الجغرافيا. وكثيراً ما دفع اللبنانيون أثماناً عالية، في الصراع السياسي الداخلي، نتيجة التناقض الصريح في معاندة حكوماته، وطبقته السياسية المنحدرة من سلم العائلات الإقطاعية والزعامات الطائفية حقائق هذه الجغرافيا التي لم تنجُ بدورها من استخدام متلاحق للقوى الإقليمية العربية المندرجة في سياق الصراع العربي الصهيوني، على امتداد التسويات ومسيرة المفاوضات. وعليه، فقد كان جنوب لبنان وبقاعه الغربي المنطقة الأكثر اشتعالاً في الصراع حول فلسطين، وكان جنوب العرب وبقاعهم وكانت فلسطين التي احتلها الغزاة الصهاينة حتى أعالي الجليل، أكمل أهلها من الشمال في عاملة والبقاع مسيرة المقاومة لتحريرها والعودة إليها من جديد.

ما قبل وما بعد عدوان تموز

حرب تموز كانت تستهدف وجود وقيم وثقافة المقاومة في لبنان، وعند العرب والمسلمين، وكانت الحلقة الواصلة بين المراحل المتحققة من الحرب الأميركية على شبه القارة العربية ــــــ الإسلامية، وبين تحقيق أهدافها. لذلك، فإن الوضع الاستراتيجي ما قبل حرب تموز 2006، هو غيره ما بعد انتصار المقاومة الإسلامية اللبنانية في هذه الحرب. إن الوضع برمته وعلى مستوياته كافة، يجب إعادة دراسته بعد الانتصار الاستراتيجي والتاريخي. وعليه، فإننا نرى أن هذا الانتصار قد أسّس لوجود لبنان جديد، على مستوى المنعة والعزّة والحضور السيد الحرّ والمستقل، وأنّه يمثّل قيامة لبنان، ويعطي كل المصالح والمفاهيم، والهوية والثقافة، والدولة والمؤسّسات، والحرية الإنسانية بما فيها حرية العبادة، أبعاداً معنوية مضافة، يستطيع اللبنانيون أن يفاخروا بها الأمم في هذا العالم وما بعد هذا العالم...

جلسات حوار وطني؟

بدأت جلسات الحوار الوطني، للوصول إلى أجوبة موحّدة عن الأسئلة اللبنانية، في مقالة الموالاة، وفي مقالة المعارضة. وعليه فقد التقت القوى السياسية اللبنانية الفاعلة على طاولة حوار مستديرة في البرلمان وطرحت موضوعات خلافية، على أساس الاتفاق عليها، وفق قاعدة ما نتفق عليه، نعهد إلى الحكومة تنفيذه، وما نختلف عليه، نُبْقِه في مدار الحوار. وإذا درسنا النتائج التي تحصلت من جلسات الحوار اللبناني أمكن معرفة سياسة كل من الموالاة والمعارضة في الحوار وأسلوبه والغاية منه، وعليه، يمكن القول:
إن فريق الأكثرية البرلمانية كان يشجّع الحوار من أجل الوصول إلى نتائج مرتبطة بمشروعه السياسي.
الحوار كان عنده وسيلة لإقناع الطرف الآخر بما لديه، لا محلاً لتوليد الأفكار الجديدة، إذا ما كان الخلاف محل الحوار. وكان يريد من الحوار القول إن الطرف الآخر، ليس متفقاً معه على مشروعه، ولا يخدم أجندة وطنية وفق تعبيره.
إن الأكثرية النيابية ظهرت في الحوار، كطرف، يضيق بقبول الرأي الآخر، ولا يعطيه حقّ التعبير. لم تكن هذه الأكثرية مؤمنة بضرورة الحوار وسموّه فوق النتائج السياسية للانتخابات. كانت داخل الحوار تتصرف كأكثرية، وتريد من الآخرين القبول برأي الأكثرية باعتبارها أكثرية: على قاعدة أن حجّة القوي هي الأقوى، لا أن الحجّة القوية هي الأقوى. حتى فكرة الإجماع داخل الحوار، لم تكن تعطيها أهمية، لأنها تريد دائماً الإشارة الى أنها الأكثرية، وأنْ لا إجماع لبنانياً على موضوعات من نوع معرفة الحقيقة في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وضرورة مقاومة العدو الصهيوني، ومشروعية هذه المقاومة، وطبيعة العلاقة الجيوبولتيكية مع سوريا.
كانت قوى المعارضة في 8 آذار مؤمنة بالحوار، وبضرورة الحوار اللبناني القادر على إيجاد الحلول الوطنية للمشكلات الوطنية، وكانت تريد من المشاركة في الحوار المشاركة الحقيقية في إدارة شؤون البلاد والعباد، وتمتين أواصر الوحدة الوطنية. وكانت تحترم الرأي الآخر، وتعمل على الوصول معه إلى نتائج تركيبية من الحوار الوطني، على قاعدة المشاركة في الرأي، والشورى والتفاهم وأن الرأي الصحيح والشجاع أكثرية وفق تعبير إمام البلاغة والحوار علي بن أبي طالب (ع).
كانت قوى 8 آذار تريد الوصول إلى نتائج واقعية من الحوار الوطني، تزيد من قوة اللبنانيين، ولا تسهم في توسيع صف الخلاف بينهم.
لقد استطاعت جلسات الحوار الوصول إلى نتائج مشهورة، رُفع بعضها إلى الحكومة التي اعتمدتها في برنامجها السياسي، وأعلنت استعدادها للعمل على تنفيذها. لكن القول في مكان والفعل في مكان آخر، لقد ضاعت جلسات الحوار ونتائجه ما بين رغبة الأكثرية في فرض آرائها على الآخرين، ووضع الحكومة نتائج الحوار، في خزانة بيانها الوزاري الذي انقلبت عليه كما انقلبت على غيره.
بعد حرب تموز، وأمام استحقاق استراتيجيّة مختلفة فرضتها أحداث هذه الحرب ونتائجها، دعت المعارضة اللبنانية الى ممارسة سياسة جديدة منطلقة من المتغيرات التي أحدثتها الحرب على المستوى اللبناني والإقليمي والدولي، بما فيه العلاقات اللبنانية بين الموالاة والمعارضة، والعلاقات اللبنانية العربية والدولية.
كانت السياسة الجديدة للمعارضة، تنطلق من تحقيق الانتصار في حرب تموز 2006، وتقديم نتائج هذا الانتصار هدية وفاء إلى الشعب اللبناني، والدعوة الى الوحدة الوطنية القوية والى إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وذلك بتأليف حكومة وحدة وطنية، على قاعدة توسيع الحكومة القائمة، وإعطاء المعارضة فيها حق المشاركة بالثلث الضامن.
كانت خطة المعارضة تقوم على تقوية الجبهة الداخلية بعد الحرب، وقد أعلنت برنامجها في خطاب الانتصار الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله وفيه مطالب ثلاثة:
1- إقامة دولة قادرة وعادلة. 2- تأليف حكومة وحدة وطنية. 3- إقرار قانون انتخابي عادل.
هذه المطالب تحدّد الموقف الصريح من مسألة الدولة، والمشاركة وتداول السلطة بممارسة الديموقراطية التوافقية اللبنانية.
وإذا دقّقنا في تاريخ لبنان الحديث فسنجد أن الدولة والكيان، والاجتماع اللبناني كانت دائماً قوية قادرة على الثبات أمام التحديات التي واجهتها. لقد شهد لبنان حرباً أهلية، واحتلالاً وحرب تحرير وحرباً حديثة من الجيل الرابع بداية الألفية الثالثة وواجه كل أشكال الإرهاب والاغتيال السياسي وأشكال العنف المتعدّدة في أوجه الصراعات الأخرى، لكنه استطاع أن يبقى موجوداً قوياً على مستوى الدولة والكيان والاجتماع الإنساني.
الاجتماع اللبناني والدولة اللبنانية، أقوى من الأحزاب السياسية ومن الحكومات التي تقودها هذه الأحزاب، هذه قاعدة نستفيدها من تاريخ لبنان الحديث، ولذلك لم يكن أمام اللبنانيين سوى التزام العيش المشترك وميثاقه وقيام الدولة وتنظيم شؤون تداول السلطة وثقافة الديموقراطية اللبنانية. وهذا ما يظهر بشكل صريح من خلال سياسة قوى المعارضة وبرنامجها السياسي.
وحين بدأت هذه المعارضة العمل لتنفيذ هذا البرنامج اختارت من أشكال النضال ما يتطابق والغاية منه. لم تكن الغاية مبرر الوسيلة في ممارسة المعارضة سياستها، لقد أصرت قيادة حزب الله الحكيمة على أن تكون شرافة الوسائل وأشكال العمل موافقة لشرافة الغايات والأهداف، ولذلك، فقد مارست المعارضة الخطوات الاعتراضية الدستورية الآتية :
1- الاستقالة من الحكومة
2- التظاهرات العامة
3- الإضراب العام
4- الاعتصام العام
5- الحوار السياسي المستمر مع القوى السياسية الأخرى دون انقطاع
لقد أثبتت حركة احتجاج المعارضة أنها حركة حضارية، لبنانية، دستورية، قانونية، وديموقراطية، فيما يمكن دراسة سياسة الحكومة والأكثرية البرلمانية المؤيدة لها من خلال طريقة مواجهتها لحركة المعارضة، التي تميزت بالاستئثار بالحكم وانتهاك الدستور ومجافاة الديموقراطية وإدارة الظهر للشعب وازدراء حركة النضال الشعبي للطبقات الفقيرة والوسطى، والاعتماد على التأييد الخارجي في وجه الحركة الشعبية، وتأجيج خطاب الفتنة الداخلية والتهديد بها وابتزاز المعارضة على أساسها. مهدّدة، متوعّدة، غير آبهة صمّاء بكماء بلهاء، تنظر من أبراجها العالية الى حركة الناس بكل سلبية وازدراء، وتلك من خصائص الحكم الديكتاتوري.

العنف يضرب لبنان ومسؤولية الحكومة

لقد تعرّض لبنان لأحداث مؤثّرة من العنف والاغتيال السياسي. وكان ذلك يستهدف الوحدة الوطنية، وجعل لبنان ساحة مكشوفة من الناحية الأمنية أمام كل حركات إرهاب الدولة الصهيوني، ولذلك كان يلزم تقوية الوضع الداخلي اللبناني، المستهدف من أعمال الاغتيال السياسي، وتفعيل الديموقراطية كفعل قادر على منع استغلال كل أشكال الاستثمار السياسي للعنف وعمليات الاغتيال.
كانت الموالاة والمعارضة تتسابقان الى إدانة هذه الأعمال الإرهابية وتطالبان بكشف الفاعلين، وإنزال العقوبات العادلة بحقهم، لكن المسؤولية الأمنية والقضائية من واجبات الدولة اللبنانية والحكومة على وجه الخصوص. لقد عمدت هذه الحكومة الى مواجهة العنف والاغتيال السياسي بالقانون الدولي. ولذلك، فقد ازدادت عملية تدويل الأمن والقضاء، مع ازدياد عمليات الاغتيال السياسي، كما أدت عملية الاستثمار السياسي له الى إخفاق عملية مواجهته على المستوى الوطني، وقد تكون هذه الأنواع من التحديات الأقصى والأكثر صعوبة، لكن لا يشك عاقل ولا يختلف إثنان على أن الوحدة الوطنية والوفاق السياسي يزيدان مناعة الدولة والشعب، في مواجهة كل أشكال العنف والإرهاب.

الاستحقاق الرئاسي

مثّل الاستحقاق الرئاسي، قمة جبل الأزمة السياسية اللبنانية، في طريق الصعود إليه، خريطة المتعرجات، والانحناءات المتعددة للسياسة اللبنانية في ظهوراتها عند الموالاة وعند المعارضة. فالأغلبية البرلمانية جعلت من هذا الاستحقاق، موضوع تصفية حساباتها على قواعد الاستقرار مع الجمهورية اللبنانية. وإذا كانت هذه السياسة قد أدت إلى حصول الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى، بعد مضي فترة الاستحقاق الدستورية للانتخاب، فإن الوفاق اللبناني، والتسوية الممكنة عادا ليكونا صورة العبور إلى قصر بعبدا.
التسوية السياسية الممكنة قبل الاستحقاق الرئاسي، ذلك هو مآل الأحداث السياسية اللبنانية، وهو أصدق تعبير عن اعتبار انتخاب الرئيس، مشروع وفاق بشأن سياسة الجمهورية، وذلك مؤدّى ما طرحته المعارضة من مبدأ التوافق والمشاركة في انتخاب الرئيس بثلثي الأصوات في البرلمان. لقد بدا أن الموالاة تريد رئيساً لها لا رئيساً للجمهورية، إنه رئيس بالنصف الزائد واحداً على صورتها لا رئيساً بإجماع البرلمان على صورة لبنان. تلك هي المفارقة الصريحة في موضوع الاستحقاق الرئاسي.

أيّ تسوية ممكنة؟

يصدر هذا السؤال ــــــ الإشكالية عن الوقائع المتحصّلة للسياسات التي تتّبعها الموالاة والمعارضة اللبنانية، وعن قواعد عامة في الفقه السياسي، وفي طبيعة الاجتماع اللبناني ونظامه الديموقراطي اللبناني. والقاعدة الحاكمة للصراعات الوطنية الداخلية هي التوافق، وعليه، تقول إن هذا الصراع يهدف الى صناعة التوازن: الحياة تستدعي توازنها، والصراع اللبناني هو الوجه الآخر لإمكان التسوية، تسوية ولكن ممكنة. وذلك يعني أنها قادرة على توازن الاجتماع اللبناني ومصالحته مع نظامه السياسي. التسوية الممكنة محاكاة واقعية لمفهوم السياسة كفنّ الممكن. لا مستحيل في ضرورة التوازن والتسوية في الحياة الإنسانية، والا فستتحوّل هذه الحياة الى نقيضها، أو ستجتمع بنقيضها وذلك أمر لا يقبله العقل، فلا يجتمع نقيضان، لا يمكن نصف لبنان أن يقوم على غلبة نصفه الآخر، وذلك ما ندعوه، ضرورة حصول التسوية وأنها ممكنة ... كيف ذلك؟
الجانب الداخلي من الأزمة السياسية اللبنانية الراهنة متحصّل من النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التشريعية 2005 التي أنتجت أكثرية برلمانية واسعة من خلال التحالف الرباعي، وكان عليها أن تحقّق تحالفها في حكومة وحدة وطنية جامعة، الأمر الذي لم يحصل في بقاء تحالف «التغيير والإصلاح» خارج الائتلاف الحكومي، وتلك كانت بداية زاوية الانحراف عن الروح الوفاقية العامة للتحالف الانتخابي المشار اليه، ثم اتسعت زاوية الانحراف من خلال انقلاب الأغلبية النيابية على التحالف الرباعي، وتأثير ذلك على التوازن داخل الحكومة بعد انقلابها على التساكن مع رئيس الجمهورية وكسب ودّ الوزراء الذين اختارهم لمساعدته، وعليه، فإن أصول الأزمة السياسية في جانبها الداخلي تقوم على ما يأتي:
- انقلاب 14 آذار على نفسها من خلال انقسامها في المعركة الانتخابية مع تكتل «التغيير والإصلاح».
- انقلاب الأغلبية على البرنامج السياسي للتحالف الرباعي (تحالف سياسي انتخابي) ما يعني أنها خالفت شرعية انتخابها (لأنها انقلبت على حقوق ناخبيها).
- انقلاب حكومة السنيورة على: - التساكن مع رئيس الجمهورية لكسب ودّ وزرائه داخل الحكومة. - الانقلاب على روح البيان الوزاري. - الاستئثار بالسلطة من خلال أكثرية ضيقة، وعليه، فإنّ إمكان التسوية يقوم على قاعدة العودة عن أصل الانحراف وتصحيح هذا الانحراف لعدم اتساع زاويته ولذلك يلزم ما يأتي:
- أن تدرك الأكثرية البرلمانية طبيعة نشوئها وتتصالح مع أصل شرعيتها ومع مصالح ناخبيها وقيمهم ومواثيقها في التحالف الانتخابي.
- عدم استخدام الأكثرية وكالتها النيابية خلاف حقوق ومصالح وقيم الناخبين.
- انتخاب رئيس جمهورية بالوفاق السياسي.
- تأليف حكومة وحدة وطنية على قاعدة النسبة والتناسب داخل البرلمان (الثلث الضامن).
- تحقيق مبدأ المشاركة في الحكم.
- تفعيل الديموقراطية التوافقية اللبنانية من خلال قانون انتخابي عادل يؤمّن التداول السلمي والديموقراطي للسلطة.
- ممارسة سياسة الإصلاح السياسي والإدراي، ومحاربة الفساد وتفعيل سياسة فصل السلطات، وثقافة الديموقراطية واحترام الحريات وإقامة الحوار الوطني، والاعتراف بالقيم الدينية والإنسانية الكبرى.
تلك هي قواعد التسوية الممكنة في جانب تصحيح الانحرافات في السياسات الداخلية، فهل تجد فرصتها للتحقق في عالم سريع التغيير على الدوام.
* وزير لبناني مستقيل



الجزء الأول | الجزء الثاني