سعد الله مزرعاني *
لا ينجم الانقسام اللبناني ـــــ اللبناني عن عوامل طارئة أو مؤقتة أو آنية. إنه تجسيد لخلل مزمن في العلاقات التي تكوِّن أساس الانتظام اللبناني، أي أساس النظام السياسي اللبناني. فقد جرى اعتماد التكوّن الطائفي والمذهبي ركيزة للنظام السياسي. وكان يفترض أن هذا التكوّن مؤقّت. إلا أنه استمر، وتعزّز، وتوسّع، وترسّخ... وعلى امتداد ستة عقود ونصف من الزمن (منذ الاستقلال)، تبلورت الركائز الطائفية والمذهبية في شبه دويلات متعايشة حيناً ومتنابذة أحياناً.
حصل ذلك على حساب قيام بناء دولتي حصين وعصري، وعلى حساب الوحدة الوطنية بمعناها البسيط والضروري والبديهي. وبسبب ذلك، إلى حدٍّ بعيد، وهنت عناصر التماسك والاستقرار، وتضرّرت إلى مدى خطير سيادة الدولة، وتراكمت سلبيّات لم ينج منها البناء الدولتي، والنسيج المجتمعي: السياسي والاقتصادي والقيمي والأخلاقي.
وينبغي التركيز على نقطة محورية في هذا الصدد: لقد افتقر الوضع اللبناني (وتدهور، تباعاً، إلى المستوى الخطير الذي انتهى إليه اليوم) إلى قوّة الوحدة والسيطرة الداخلية. هذه الوحدة التي تشدّ أزر البلد الواحد، عادة، إلى الحد الأدنى من التماسك الوطني، من جهة، وتمكّنه من امتلاك المؤسّسات التي تحرس وترعى هذا التماسك في وجه أي تهديد داخلي أو خارجي، من جهة أخرى. لقد سُمِّيَت هذه الآلية «القوة القادرة» أو «القوة القاهرة». والوظيفة الرئيسية لهذه القوة، هي، في وقت واحد:
ـــــ توفير عناصر إضافية للتوحّد الوطني.
ـــــ إدارة التباينات والصراعات في حدود ما هو معتمد من مرجعيات قانونية ومؤسّساتية.
ـــــ إمتلاك القوة المعنوية والمادية لردع كل إخلال بهذه المعادلة، بسبب الأزمات العادية أو الاستثنائية على حد سواء (لا يخرج عن نطاق هذه المعادلة حدوث تغييرات كبيرة أو حتى ثورية، في العلاقات السياسية والاقتصادية، وفي مواقع السلطة، وكذلك لا شرط محدداً في هذا الصدد يملي صيغة إجبارية، ديموقراطية أو تعسفية، لممارسة السلطة).
ويقتضي الإنصاف، أن نشير إلى أن المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني (أنهى أعماله وأقر وثائقه في أواخر عام 2003) قد توقف ملياً عند هذه المسألة، أي مسألة افتقار الوضع اللبناني إلى القوة «القاهرة» و«المهيمنة» الضرورية. وأستطيع أن أستحضر دوراً خاصاً، في نقاش هذه المسألة، للباحث والرفيق المرحوم حسين حمدان. وننوّه هنا أيضاً، بالإسهامات التي تطور إليها الفكر السياسي الذي يواظب على تغذيته الرئيس سليم الحص. كذلك الإسهامات التي لم تُتابَع، والتي أنجزها الرئيس حسين الحسيني وعدد من الباحثين والمهتمين بالشأن العام، عبر إعلان «المركز المدني للمبادرة الوطنية»، في 10 تموز 2007، وثمة أيضاً إسهامات أخرى.
يظن البعض أن ما كان يسمى «المارونية السياسية» وما تضمنته من امتيازات وصلاحيات، وخصوصاً لرئيس الجمهورية، قبل «الطائف»، كانت توفّر القوة المحلية أو «الوطنية» «القادرة» و«المهيمنة» المطلوبة. وربما، من هذا المنطلق، تتجدّد دعوات الآن، صريحة أو ضمنية، لاستعادة صلاحيات الرئيس، شرطاً لإعادة انتظام آليات الحكم والسلطة والدولة، على حدّ سواء. وليس بعيداً من هذا المنطق والمنطلق، ما يسعى اليه آخرون، وإن بامتيازات معاكسة، وصلاحيات متحولة من موقع سلطوي إلى آخر. هذان الاتجاهان يتّفقان في الجوهر ويختلفان في الشكل: يتفقان على الاحتفاظ بالنظام الطائفي ـــــ المذهبي، ويتصارعان على تعديل توازناته.
وعندنا، أنّ مصدر الخلل هو في النظام السياسي اللبناني، لا في توازناته فحسب. ولقد أثبتت التجربة أن ما كان قائماً من امتيازات وأرجحية، لم يوفّر ما هو مطلوب من العناصر الضامنة للوحدة وللتماسك وللاستقرار ولاحتواء النزاعات والأزمات. ولقد عانى اللبنانيون خلال العقود التي أعقبت الاستقلال، عدة حروب أهلية داخلية، بينها الأزمة الوطنية الكبيرة التي امتدّت عقداً ونصف العقد بين عامي 1975 و1990. ومعروف تماماً أن تلك الأزمة قد انتهت (مؤقّتاً!) بمجيء قوة وصاية وإدارة خارجية، سياسية وأمنية وعسكرية، مكرسة، بشكل رسمي نقل القوة «القادرة» أو «القاهرة»، إلى الخارج.
ويتداول المتصارعون اليوم اتهامات، جلّها صحيح، بالتبعية للخارج. ويحاول أحد أطراف الصراع أن يتلمس المشكلة، ولو بشكل مشوه، حين يتهم خصومه، أو يتهم سوريا، بأنها تحاول إثبات أن اللبنانيين عاجزون عن حكم بلدهم، بقواهم وبمؤسساتهم المحلية والوطنية.
إن العلاقة مع الخارج والاستقواء به واستدراجه إلى التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، أو إغراءه بهذا التدخل بسبب الانقسامات اللبنانية، هي أمور قائمة في صلب بنية وتناقضات الصيغة الطائفية للنظام السياسي اللبناني.
ولقد آن الأوان، إزاء أزمة متمادية ومستعصية كالتي نعيش، لاعتماد مقاربة جديدة، صحيحة وسليمة ووطنية لتوصيف الأزمات اللبنانية، ولتحديد طبيعة العلاج الناجع لها.
وعبثاً يجري البحث عن العلاج الصحيح بواسطة بعث ما قد فات ومات، أو بواسطة تعديل التوزانات في دائرة النظام السياسي نفسه، أو بواسطة اللجوء إلى خيار التقسيم، أو بواسطة الذهاب أبعد في نهج التبعية والالتحاق.
إن المطلوب، دونما تأخير، هو اعتماد صيغة جديدة للعلاقة بين اللبنانيين تقوم على المساواة، دون عائق أو وسيط عبر طائفة أو مذهب. ذلك يعني تحرير النظام السياسي من الطائفية والمذهبية. ويسلتزم هذا الأمر تنمية جملة عناصر في الوضع اللبناني، قيمية وسياسية وتربوية واقتصادية وأخلاقية. إن بناء عناصر الوحدة الوطنية، لا يمكن أن يحصل بمعزل عن عناصر بناء مواطنية لبنانية قوامها المساواة في نظام ديموقراطي، يوفر الحرية ويصون التنوع ويعزز السيادة والوحدة، ويسقط المصالح الصغيرة والفئويات والنزاعات الأنانية المدمرة. ولا يمكن هذا الأمر أن ينتظر دهراً... إنّ حجم المخاطر التي تنمو في المحيط الإقليمي، وخصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق، وكذلك حجم الانقسام اللبناني المفتوح، بسبب المناخات التي ولّدها الغزو الأميركي، على أسوأ الاحتمالات، إن ذلك يستدعي الانخراط في عملية واعية، هادفة، مثابرة، لاحتواء الأزمة اللبنانية، كمرحلة أساسية، وتأسيسية لحلها.
هذا يعني، ببساطة، سلوك طريق الحوار بين اللبنانيين، ومن ثمّ توليد تفاهمات أولية. ولا مانع، بل لا بد من أن يكون ذلك، في نطاق أدوار خارجية، عربية ودولية تتقاطع الآن، على ضرورة تهدئة الوضع في لبنان، أي عدم دفعه نحو الولوج في أتون الفوضى والحرب والاقتتال والفتن. إن مشاركة اللبنانيين، ولو بقدر يسير ومحدود راهناً، في احتواء أزمتهم وأزمة بلدهم، هي خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو انعطافة جذرية وفق المفهوم الذي تحدثنا عنه آنفاً.
ذلك يعني، أن القوى اللبنانية المتصارعة، الآن، في خندقي 14 و8 أذار، مطالبة بعدم تفويت الفرصة الراهنة التي انطلقت من اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير الذي انعقد في القاهرة يوم الأحد الماضي. وترجمة ذلك يجب أن تكون في الجنوح نحو التسوية، وقبول مبدأ المشاركة، وإعادة تشغيل المؤسّسات، ومع كل ذلك، إعادة دورة الحياة إلى مجراها شبه الطبيعي.
هل لنا أن نأمل، أخيراً، أن يدرك البعض ممن يمسكون بزمام السلطة أو القرار، في هذا الموقع أو ذاك، أن مسؤولية إنهاض لبنان من أزماته، هي قبل كل شيء، وقبل الآخرين، مسؤولية لبنانية بالدرجة الأولى؟
إنّ استنكاف القوى اللبنانية المؤثرة عن الإسهام في هذا الاتجاه، ستكون بمثابة الكارثة التي عبثاً نبحث عن أسبابها عند سوانا.
والسؤال الذي يتكرّر الآن، كما أسلفنا، عن سعي قوى في الخارج لإثبات عجز اللبنانيين عن إدارة شؤون بلدهم بأنفسهم، هو نفسه سؤال الجدارة بوطن تكاد تودي بمقوماته، وبوجوده، الفئويات والتشكلات المتخلفة والمدمرة. وهي صناعة لبنانية، رديئة وقاتلة، بامتياز!
* كاتب وسياسي لبناني