strong>عصام نعمان *
استحقاقات ثلاثة تواجه الولايات المتحدة، وعلى جورج بوش وفاء موجباتها قبل انتهاء ولايته مطلعَ العام القادم.
استحقاق كبير يواجه ملوك العرب ورؤساءهم قبل موعد مؤتمر القمة العربية في شهر آذار المقبل. إنه استحقاق ترتيب البيت العربي قبل انعقاد المؤتمر المذكور.
للوفاء بموجبات استحقاقاته في فلسطين والعراق ولبنان، باشر بوش جولةً في عواصم المنطقة تأخذه إلى عواصم الدول التي لها خبرة ودور في مساعدته على ترتيب حديقة بيته العربية والإسلامية. أمّا الملوك والرؤساء العرب، فقد قرّروا البدء بمواجهة الاستحقاق الأكثر إلحاحاً وحرجاً بالنسبة إليهم وهو لبنان. لماذا ؟ لأنّ معالجة الأزمة لا تتعلّق بلبنان وحده، بل بسوريا والسعودية من جهة، وبمسألة انعقاد القمة العربية في دمشق من جهة أخرى. فوق ذلك، إن الملوك والرؤساء يفضّلون أن يتوافقوا على تسوية لأزمة لبنان قبل أن تطأ قدما بوش أرض أي عاصمة عربية كي لا يُقال إنها جاءت نتيجة إملاء أميركي.
قبل أن يوعز الملوك والرؤساء إلى وزراء خارجيتهم بالاجتماع في القاهرة للتوافق على صيغة لأزمة لبنان، كان بعضهم قد تعرض لضغوط متعدّدة الدوافع للإسراع في هذا السبيل. لعلّ أبرز الضغوط ذلك الذي مارسه الدكتور سليم الحص، الأمين العام لمنبر الوحدة الوطنية «القوّة الثالثة». فقد اتصل بالأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود وطلب منه القيام بمساعٍ حميدة وسريعة مع أخيه الملك عبد الله بن عبد العزيز من أجل ترميم العلاقات مع سوريا كمدخل لتسوية أزمة لبنان من جهة، وضمان لانعقاد القمة العربية في دمشق ومشاركة العاهل السعودي فيها، من جهة أخرى. كما بعث الحصّ برسالة مع موفد خاص إلى الرئيس بشّار الأسد، طالباً منه القيام بمساعٍ حميدة مع أركان المعارضة في لبنان لتسوية الأزمة كمدخل لترميم العلاقات مع السعودية.
الرئيس الأسد تجاوب بسرعة قياسية، إذ استبقى موفد الحص في القصر الجمهوري لحين الفراغ من وضع رسالة جوابية تتضمّن أمرين. الأوّل، التشديد على أنّ دمشق أيّدت سابقاً، وتؤكّد مجدداً تأييدها انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وعلى تأليف حكومة وحدة وطنية تجسّد مبدأ «لا غالب ولا مغلوب». كما أنها مستعدّة للتوّ للانفتاح على السعودية، وان وزير الخارجية وليد المعلم مستعدّ للاتصال بوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لإزالة أية شوائب عالقة بالعلاقات بين البلدين.
الحص بادر الى الاتصال بالأمير طلال بن عبد العزيز، ناقلاً إليه مضمون كتاب الأسد، فما كان من الأمير إلا أن اتصل بأخيه خادم الحرمين الشريفين، باذلاً معه مساعي مكثفة، سرعان ما تكشّفت عن ترتيب لقاء بين الوزيرين سعود الفيصل والمعلم في القاهرة قبل ساعات من انعقاد اجتماع مبكر لوزراء الخارجية العرب في منزل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. وفي كلا الاجتماعين جرى «طبخ» القرار المتضمن «خطة عمل عربية لتسوية الأزمة اللبنانية».
إذ يخطو العرب خطوتهم الأولى لترتيب بيتهم قبل انعقاد قمتهم القادمة، يتساءل اللبنانيون: هل من شأن الخطة العربية إنقاذ لبنان مما هو فيه؟
الجديد في الخطة أنها حدّدت أسس التسوية التي يدعمها العرب، كل العرب، ظاهرياً على الأقل. الأسس تتلخّص بالترحيب بتوافق مختلف الأطراف على ترشيح العماد ميشال سليمان، لا سواه، لمنصب رئيس الجمهورية والدعوة إلى انتخابه فوراً وفقاً للأسس الدستورية، والدعوة إلى الاتفاق الفوري على تأليف حكومة وحدة وطنية، تجري المشاورات لتأليفها طبقاً للأصول الدستورية، على ألّا يتيح التشكيل ترجيح قرارٍ أو إسقاطه بواسطة أي طرف، وبذلك تكون لرئيس الجمهورية كفّةُ الترجيح، والدعوة إلى بدء العمل على صوغ قانون جديد للانتخابات فور انتخاب رئيس الجمهورية وتأليف الحكومة.
لأن الخطة عبارة عن دعوة لا برنامج تنفيذ للأسس المتفق عليها، فقد كُلِّف الأمين العام للجامعة إجراء اتصالات فورية مع جميع الأطراف اللبنانية والعربية والدولية لتنفيذها. ولأنّ وزراء الخارجية متيقّنون من أنّ التنفيذ لن ينتهي «فوراً»، كما جاء في الخطة، فقد قرّروا عقد اجتماع مستأنفٍ لدورتهم غير العادية لاستعراض نتائج جهود الأمين العام في 27 الشهر الجاري.
ظاهر الخطّة جاء منحازاً إلى وجهة نظر الموالاة (قوى 14آذار) من حيث تأكيد الدعوة إلى انتخاب العماد سليمان، لا غيره، رئيساً للجمهورية. إن تزكية اسم قائد الجيش يبعد عن شفتي الفريق الحاكم كأس العماد ميشال عون الذي يخشون ارتشافها. كما أنّ الدعوة إلى تأليف الحكومة طبقاً للأصول الدستورية، أي بناء على استشارات نيابية ملزمة يجريها رئيس الجمهورية، تتيح لقوى 14 آذار تسمية مرشّح من صفوفها لرئاسة الحكومة والإسهام في تأليفها من مركز قوة.
في المقابل، تتيح صياغة البندين الأول والثاني من الخطة لقوى المعارضة فرصةً لإعطائها تفسيرات تخدم شروطها ومصالحها. ذلك أن عنصر «الفورية» الذي يطبع الخطة، إن لجهة انتخاب رئيس الجمهورية أو لجهة تأليف الحكومة الجديدة يتيح لقوى المعارضة المطالبة مجدّداً بسلّة متكاملة تكون مضموناً للتسوية المنشودة. هذه المطالبة تعني، في الواقع، الاتفاق المسبق على كل التفاصيل المتعلقة بانتخاب الرئيس وبتأليف الحكومة، ولا سيّما لجهة اسم رئيسها وتركيبة عضويتها، وتقاسم الحقائب السيادية والأساسية فيها. وإذا ما أُخذ بمبدأ السلة المتكاملة، فإن قوى المعارضة ستصرّ أيضاً على تضمين الاتفاق العتيد مع قوى 14 آذار بنداً يتعلق بقانون الانتخاب من حيث النظام الانتخابي (الاكثري أو النسبي) المنوي اعتماده وحجم الدوائر الانتخابية وضوابط العملية الانتخابية المالية والإعلامية.
ثم إنّ المعارضة والموالاة ستختلفان لا محالة على تفسير البند الثاني من الخطة لجهة عبارة «على ألّا يتيح التشكيل ترجيح قرارٍ أو إسقاطه بواسطة أي طرف ويكون لرئيس الجمهورية كفّة الترجيح»، ذلك أنّ امتلاك رئيس الجمهورية قرار الترجيح يستوجب المساواة في عدد الوزراء بين الموالاة والمعارضة، وهي مسألة يرفضها بعض قوى الموالاة، فيما يحبّذها معظم قوى المعارضة.
إن كل هذه المسائل الخلافية ستكون موضع جدل شديد، الأمر الذي سيعقّد مهمّة عمرو موسى التوفيقية، وقد يستوجب تعديل «خطة العمل العربية» في الاجتماع القادم لمؤتمر وزراء الخارجية العرب. فقوى 14 آذار يهمّها الاستمرار في السلطة، على أن تبقى لها اليد العليا في الحكومة الجديدة كي تتمكّن من تقرير طبيعة قانون الانتخاب وأحكامه، بما يكفل عودتها إلى السلطة بأكثرية مريحة. في المقابل، تتوخى المعارضة إجراء إصلاحات ديموقراطية شاملة في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من طريق إقرار قانونٍ للانتخابات يكفل صحّة التمثيل الشعبي وعدالته. كلّ ذلك من أجل تمكين قوى وعناصر جديدة، وطنية وتقدمية، من ولوج البرلمان. والحال أن المعارضة تشعر بأنها لا تضمن إقرار مثل هذا القانون في الحكومة الجديدة أياً كانت تركيبتها. لذلك فقد تطالب بأن يجري التوافق بينها وبين الفريق الحاكم على مسألة قانون الانتخاب قبل المباشرة في التنفيذ المتزامن لخطة العمل العربية ووفق اتفاق مشترك على تفسير بنودها. بعبارة أخرى: إما الاتفاق المشترك المسبق، وإلا فالبقاء في الشارع لضمان تحقيق المطلب المشروع.
مهما يكن ما سينتهي إليه الأطراف المتصارعون في لبنان، ومن ورائهم قوى إقليمية ودولية، فإن الراجح أنّ انعقاد مؤتمر القمة في دمشق أصبح مضموناً وآمناً. فقد تصالحت سوريا والسعودية على الحدّ الأدنى بمجرّد موافقة دمشق على خطة العمل العربية في اجتماع وزراء الخارجية العرب بصرف النظر عمّا سيكون عليه منها موقف قوى المعارضة في لبنان، إذ لا يعقل أن تمتنع الرياض عن حضور قمة دمشق بدعوى أن حلفاء سوريا في لبنان لم يتوافقوا على تنفيذ الخطة العربية. هل تريد السعودية أن تتدخّل سوريا في لبنان لإكراه المعارضة على تنفيذ الخطة وهي التي ما انفكّت، شأن الولايات المتحدة، تطالب سوريا بعدم التدخل في لبنان؟
ما ينطبق على السعودية ينطبق من باب أوْلى على أميركا. فهذه الأخيرة لا تستطيع إكراه سوريا على التدخل في لبنان لمصلحة خصوم دمشق! أمّا إذا كان الأمر كذلك، فإن قوى المعارضة لن تطلب، على الأرجح، تدخّل سوريا، بل التحذير من تدخّلها حتى لا يتكرّر في عام 2008 المشهد المأساوي نفسه الذي حدث في عام 1976 عندما تدخلت دمشق لإنقاذ قوى «الجبهة اللبنانية» المتحالفة مع أميركا من خطر انتصارٍ عليها كانت الحركة الوطنية على وشك إحرازه في وقت وجيز.
حسناً يفعل العرب في ترتيب بيتهم الداخلي. لكن حذار مساعدة أميركا على ترتيب حديقة بيتها العربية والإسلامية.
* وزير لبناني سابق