strong>دينا حشمت *
أثارت زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى مصر أخيراً، لقضاء عطلة شخصية ولقاءات رسمية في آن واحد، ردود فعل متباينة، من ضمنها استجواب قدّمه النائب المستقل جمال زهران يطالب فيه بتوضيحات رسمية من الحكومة المصرية حول «الزيارة الخاصة التي قام بها ساركوزي إلى مصر برفقة صديقته». تساءل النائب إذا «كانت صديقة ساركوزي ترافقه في غرفته أم أنّها أقامت في غرفة مستقلّة»، مشيراً إلى أنّ «دولة الأزهر الشريف وجّهت رسالة خاطئة إلى كلّ دول العالم بأنّنا مستعدّون للسماح بممارسة الدعارة الرسمية لرؤساء الدول».
ومن المُثير للدهشة أنّ نائباً في مجلس الشعب يصرّح بمثل هذه التصريحات، ويُشغَل بشأن لا يخصّ المصريّين في شيء، ولا يصحّ أن يُناقَش تحت قبّة البرلمان، فيتناسى الأسباب الحقيقية ـــــ وهي كثيرة ـــــ التي جعلت من زيارة ساركوزي حدثاً مستفزّاً للعديد من المصريّين.
فلماذا لم يُستفَزّ السيد جمال زهران من تعطّل حركة المرور في القاهرة التي حوّلت الزيارة الرسمية لساركوزي إلى يوم عذاب طويل بالنسبة إلى القاهريّين، بسبب غلق الطرق والكباري لتسهيل مرور موكبه من مدينة نصر، حيث عقد المؤتمر الصحافي مع الرئيس حسني مبارك، إلى الجيزة حيث اجتمع في السفارة الفرنسية مع رجال أعمال ومثقّفين وكتّاب مصريّين. قد يرى السيد جمال زهران أن هذا هو ما يحدث دائماً عند زيارة أي رئيس دولة (غربية) للبلاد، إلا أنّ حركة المرور تعطّلت هذه المرّة أيضاً عند زيارة والدة ساركوزي وابنه المتحف المصري، التي أغلقت من أجلها منطقة وسط البلد لمدّة ساعة كاملة، كما ذكرت جريدة «المصري اليوم» الصادرة في 31/12/2007.
ألا يرى السيّد جمال أنّ تفرّغ شرطة المرور في القاهرة في خدمة أقارب رئيس دولة، على حساب مصلحة الآلاف من سكّان العاصمة، كان يستدعي استجواباً في مجلس الشعب؟
وإذا صنّفنا كلّ هذا التعطيل تحت بند المضايقات المعتادة، فهناك عدّة أسباب أخرى للاستفزاز، أوّلها الحملة الإعلامية غير المسبوقة التي رافقت زيارة «ضيف مصر الكبير» في أرض «أجدادنا في صعيد مصر»، حسب تعبير جريدة الأهرام. فتحوّلت آثار مدينة الأقصر السياحية إلى ديكور سينمائي لتحرّكات الرئيس الفرنسي، وتصدّرت الجرائد المصرية والعالمية صوره وهو يزور المعابد الفرعونية القديمة، وصوره وهو يتمشّى مع صديقته كارلا بروني، وصوره في «فلوكة على النيل» في مشهد رومانسي أثير. فلم يكن ساركوزي ليحلم بمكان أنسب، ما بين فندق «أولد وندسور» العريق، الذي استقبل العديد من رؤساء الدول، ونهر النيل «الأبدي»، لدعم دعايته المسرحية حول حياته الشخصية، التي أصبحت وسيلته المفضّلة للتواصل مع وسائل الإعلام الفرنسية، بل والعالمية، والتي أدخل مصر، شعباً وتاريخاً، طرفاً فيها. ثم بعد مدينة التاريخ العريق، أقلع ساركوزي ـــــ على متن الطائرة الخاصة المملوكة من صديقه رجل الأعمال الفرنسي فنسان بولوريه ـــــ إلى مدينة النخبة «المودرن»، المدينة الحصن التي بني حولها جدار عازل بعد التفجيرات الأخيرة سنة 2005، مدينة الأفواج السياحية الألمانية والإيطالية والروسية، مدينة يفتّش على أبوابها العاملون المصريون ولا يدخلها «العامّة» إلا بتصريح عمل في أحد فنادقها الخمس نجوم، مدينة «آل مبارك» المفضّلة: مدينة شرم الشيخ في سيناء.
فكيف لا يستفز الشعب المصري هذا اللقاء «الخاص» على القمّة، مع تعبئة كل أجهزة الدولة لخدمة الرئيس الفرنسي من الأجهزة السياحية والثقافية (فالوزير فاروق حسني هو الذي قام «بنفسه» بدور المرشد السياحي) إلى الجهاز الأمني الذي رأى من الملائم كسر المرفق الأيسر لصحافي فرنسي كان يحاول تصوير الرئيس الفرنسي أثناء ممارسته رياضة الجري مع وزير الخارجية برنار كوشنير على كورنيش شرم الشيخ.
وكيف لا يُستفَزّ الشعب المصري من إصرار الرئيس الفرنسي على وضع إكليل من الزهور على قبر الرئيس الراحل أنور السادات، دون أي رئيس راحل آخر، وكأنّه يريد أن يؤكّد صلته الوطيدة بمنهج السادات الفكري والسياسي. فهو عاد وأكّد في حديث لجريدة الأهرام الصادرة بتاريخ 29/12/2007، أنّه «صديق الولايات المتحدة وإسرائيل»، تماماً مثلما السادات كان يَعُدّ نفسه. وفضلاً عن هذا التقارب السياسي، فإنّ ذهاب ساركوزي إلى قبر السادات حمل أيضاً معنىً رمزياً آخر، هو التقارب «الروحي» بينهما في التعامل مع الحياة السياسية، في استخدامهما لحياتهما الخاصّة على المستوى السياسي، وفي إدارتهما الفردية لقرارات البلاد المصيرية، ومسرحة هذه القرارت إلى أقصى حدّ. ومثلما كان السادات يقدّم نفسه على أنّه الرجل الشجاع، الذي أقدم على خطوة لم يجرؤ عليها أي زعيم عربي من قبله، مع زيارته القدس وإبرامه معاهدة كامب دافيد، يقدّم ساركوزي نفسه على أنّه الرجل الذي سيحلّ الأزمات التي لم ينجح أحد في حلّها، من الممرّضات الرومانيات في ليبيا، إلى الأسرى في كولومبيا، مروراً بمشكلة البطالة المتفشّية في فرنسا. كما لو كان «حيجيب الديب من ديله/ويشبَّع كل جعان»، على رأي أحمد فؤاد نجم في قصيدته الشهيرة عن زيارة فاليري جيسكار ديستان لمصر سنة 1975.
وساركوزي طبّق عدة إجراءات «جريئة»، منها إعفاءات ضريبية بقيمة نحو 15 مليار يورو لأصحاب المال الكبار أصدقائه (هل هذا ما يفسّر أن بولوريه دائماً ما يترك له طائرته الخاصّة لتنقلاته أثناء عطلاته؟). لكن على عكس ما ذكرته صحيفة الأهرام في العدد المذكور نفسه، من أنّ «تحرّك ساركوزي السريع أدهش الفرنسيّين»، فالفرنسيّون لم يدهشوا، وحالة الحيوية والحراك والفعالية لا تحدث في «الدولة الفرنسية»، كما تذكر الجريدة، بل في صفوف العاملين في القطاعين العام والخاص الذين غضبوا بسبب هجوم ساركوزي المتواصل على نظام التأمين الصحي ونظام التقاعد المكتسب عبر عقود طويلة من الإضرابات العمّالية والثورات الشعبيّة، فبدأوا في تنظيم الاحتجاجات في مواجهة هذه السياسات التي ليست جديدة في الحقيقة، بل تواصل وتعمّق ما فعله الرؤساء ورؤساء الحكومات الفرنسية السابقة، اتفاقاً مع تعليمات البنك وصندوق النقد الدوليّين في ظلّ الليبرالية المتوحّشة التي انتشرت في العالم كله. وكما لم يُدهش ساركوزي الفرنسيّين، لم يُدهش المصريين أيضاً؛ فلا جديد «مُدهش» متوقَّع من رجل يجلس على مائدة إفطار «آل مبارك» في المدينة/الحصن شرم الشيخ، مع هذا الابن المُعجزة الذي طالما وعد بأنّه سيأتي بجديد ليحلّ مشاكل المجتمع المصري، وهذا الجديد هو إلغاء الدعم. فمثلما جمعت مائدة إفطار واحدة ما بين «آل ساركوزي» و«آل مبارك»، جمعت الهموم والشعارات ما بين موظّفي الضرائب العقارية الذين انتصروا في مواجهة «السياسات الجديدة» للحكومة المصرية، وعمّال سكك الحديد في فرنسا الذين يدخلون إضراباً وراء الآخر للدفاع عن تأميناتهم الاجتماعية، والذين استُفزّ العديد منهم من بذخ الرئيس الفرنسي في الصرف على عطلته في مصر. تماماً كما يُستفز الشعب المصري ممّا يسمعه ويراه (في التلفزيون) عن شرم الشيخ، المدينة الحصن.
لن ينجح استعراض ساركوزي لحياته الشخصية ولا تساؤلات السيد زهران عن تفاصيلها، في أن يُنسي الشعوب على ضفّتي المتوسط، همومهم اليومية ومعاركهم القادمة.
* صحافية مصرية