فايز فارس
في البدء كانت النخبة، حكماء زاهدين وعقلاء مدركين ونسّاكاً متعبّدين وعلماء مرشدين للشعوب والحكّام ومهندسين بنّائين. أقاموا الدول ووضعوا الأنظمة وسنّوا القوانين وشرّعوا فحلّلوا وحرّموا وجمعوا الناس من حولهم، حتى أصبحوا المرجع والحَكَم بين المتصارعين والمختلفين. وأدرك الناس أنهم طبقات وأجناس وأنّ عليهم أن يتعارفوا ويتآلفوا ويؤلّفوا مجتمعاً متضامناً متعاوناً متناغماً إذا ما أرادوا أن يكونوا منتجين فاعلين حضاريّين آمنين. وكان على أهل النخبة مواجهة التحديّات الكبرى بسبب أنانيّات طغت وروح عدوانيّة فطريّة دفعت بالإنسان إلى الهلاك عاجلاً أم آجلاً. أوليس الإنسان سوى ذلك الحيوان العاقل؟ إذا ما فقد عقله فقد إنسانيّته.
إنّ ما نشهده من حروب وغزوات ونزاعات في هذا العالم عامة وهذا الشرق خاصة، منذ بداية القرن الماضي لا يختلف في الشكل والمضمون والنتائج عن تلك الحروب والغزوات والنزاعات التي نشأت وقامت منذ القدم. إنّ غياب النخب، بين ضعف تشكو منه أو تقاعس عن تأدية دورها الريادي، هو الذي أدّى ويؤدّي إلى تدهور الأحوال وتردّي الأوضاع وصولاً إلى بروز الأطماع ونشوء الأزمات والنزاعات والحروب عبثاً بمصائر الشعوب والمجتمعات والأوطان، هذا قبل أن تتحوّل النخب من أدوات إنقاذ ونهوض وخروج من الأزمات إلى ضحية مثلها مثل عامة الناس. فلا تعود تستحق تسميتها وتميّزها وتخسر دورها الأساسي، سبب وجودها.
المراقب الأجنبي، بين دبلوماسي وإعلامي وناشط أممي، لم يعد باستطاعته استيعاب الملف اللبناني بسبب احتوائه على هذا الكمّ الهائل من التناقضات في المفاهيم والالتواءات في المعايير. فعدد جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا العليا تخطّى المئة، وحملة شهادات الدكتوراه والإجازات وغيرها من شهادات الكفاءة والاختصاص يُعدّون بعشرات الآلاف، وعدد رجال الدين يفوق بكثير أعداد كلّ العاملين في الحقل العام من سياسيّين وناشطين اجتماعيّين، وعدد كنائسنا وجوامعنا يفوق عدد المدارس والمستشفيات، وإعلامنا حرّ غزير عالمي متفوّق، ومطابعنا تعمل دون كلل أو ملل، ودور النشر والتوزيع تنتج بغزارة المؤلفات القيّمة والأبحاث العلمية، وحوار الحضارات قائم على قدم هيفا وهبي وساق نانسي عجرم، وأجيالنا الطالعة و«النازلة» على حدّ سواء تنطق بأكثر من لغتين معروفتين عالمياً، والإنترنت «شغّال» ليل نهار.
وبالرغم من كلّ هذا وذاك، يختلف اللبنانيّون في ما بينهم على «أي شيء»... طبعاً بفضل مساعي سياسيّيهم وقادتهم الروحيّين، وجلّهم متعلم مثقف. يختلفون على تثبيت هويتهم الوطنية وانتماءاتهم الثقافية وتوصيف مشاكلهم الاجتماعية وأزماتهم الاقتصادية وتحديد مسؤوليّاتهم والخضوع للمحاسبة، ويتنازعون على الحقوق ويتهرّبون من الواجبات. وبدل أن تبادر نخبهم إلى التلاقي الطبيعي والعمل معاً على إنقاذ البلد والنهوض بالمجتمع وجمع الشمل بعيداً عن أوامر وتوجّهات من أثبتوا فشلهم مراراً وتكراراً في إدارة دفّة الحكم وإخفاقهم في خدمة الناس والمجتمع، نراهم في الصفوف الأمامية يصفّقون عندما لا يهزأون، ويصمتون عن الكلام عندما يجب عليهم الكلام وقول الحقائق المرّة، ويقلّدون أرباب عملهم في حياتهم اليومية حتى صاروا مثلهم ينتظرون الإشارة ويتحيّنون الفرص من أجل كسب مادي أو تبوّؤ منصب رسمي سلطوي. فلا نخب ولا من يحزنون. وتخسر النخب خاصيّتها لتنضم إلى العامة وتخضع لمقولة «كما تكونون يولّى عليكم».