هيفاء زنكنة *
هنّأ نوري المالكي، رئيس وزراء حكومة الاحتلال، في كلمة متلفزة من لندن، الشعب العراقي بالعام الجديد، داعياً إيّاه إلى «ترسيخ النجاحات». فهل هذه هلوسة المرض أم أنّه إصرار على إطلاق التصريحات المهينة بحق الشعب العراقي؟
أخبرنا المالكي أنّه بصحّة جيّدة وهو يتمتّع، خلافاً للمواطنين العراقيّين، بالراحة والهدوء والرعاية الصحية الفائقة في المستشفى الخاص في لندن، ما يبعد عنه شبهة الهلوسة المرضية ويتركنا إزاء الاحتمال الثاني، وهو إصراره على أداء دور «عبد» البيت للمحتلّ، ومواصلة إطلاق التصريحات المشابهة لما يطلقه وهو تحت إمرة السفارتين الأميركية والبريطانية في المنطقة الخضراء. وإلّا ما معنى دعوته أبناء الشعب العراقي إلى «ترسيخ النجاحات»؟
في مراجعة للنجاحات بمناسبة استقبال العام الجديد، عن أيّ النجاحات يتحدّث المالكي؟
هل هو النجاح في قتل 16 ألف مدني خلال عام 2007 حسب إحصائية وزارة الصحّة العراقية، وهي الوزارة التي لا تعلن إلا عن نسبة قليلة من الضحايا، متجاهلة ضحايا سوء الخدمات الصحية وقلّة الدواء وهرب الأطبّاء؟ أو ما أكّدته منظّمة الـ«يونيسيف»، يوم 3 كانون الأوّل 2007 عن وجود خمسة ملايين طفل يتيم ومليون ونصف مليون أرملة؟ هل يعدّ وجود ما يزيد على ستين ألف معتقل، حسب منظّمة الهلال الأحمر العراقي في تشرين الثاني الماضي، في معتقلات الاحتلال وحكومة المالكي، ولمدّة سنوات، نجاحاً؟ أو لعلّ المالكي يتحدّث عن تعذيب المعتقلين كما ذكر في تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (1 نيسان – 30 حزيران 2007)، المؤكّد لحدوث التعذيب داخل السجون التي تديرها قوات الاحتلال المتعدّدة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، أو التي تديرها وزارتا الداخلية والدفاع العراقية والميليشيات.
تحدّث التقرير عن أنّ علامات التعذيب تبدو واضحة على أجساد المعتقلين، وقد جرى توثيقها فوتوغرافياً. يسرد التقرير طرق التعذيب: «فإضافةً إلى الضرب الروتيني بخراطيم المياه والكابلات وغيرها من الأدوات، تشمل طرق التعذيب أيضاً التعليق من الأطراف لفترات طويلة حيث تُلوى فيها الأطراف بأوضاع مؤلمة، ما يؤدّي أحياناً إلى خلع في المفاصل. ومن الطرق الأخرى للتعذيب، استخدام الصعقات الكهربائية لأجزاء حسّاسة من الجسد، وتكسير الأطراف وإجبار المعتقلين على الجلوس على آلات حادّة». ويشير التقرير إلى تعذيب الفتيات والنساء واغتصابهنّ في كلّ المعتقلات. فألف مبروك للمالكي، رئيس حزب الدعوة الإسلامي، على « نجاحاته».
ولئلّا أكتب ألفاظاً غاضبة لا تليق بناظري القارئ الكريم، سأضع تصريح المالكي في خانة «أنّ شرّ البليّة ما يضحك»، وخاصّة أنّه قد تفضّل بإطلاقه في اليوم نفسه الذي أفاد فيه مسؤول عسكري أميركي في كاليفورنيا أنّ سفّاح الاحتلال الأميركي الرقيب فرانك فوتريخ، الذي قاد مجموعة من جنود مشاة البحرية (المارينز) لتقتل، عمداً، 24 مدنياً عراقياً، لن يحاكم بتهمة القتل المتعمّد، بل سيجري التعامل في قضيته بشكل مخفَّف، في واحدة من المذابح البشعة التي ارتكبها جنود الاحتلال انتقاماً من أبناء الشعب العراقي. وهو الشعب نفسه الذي يدعوه المالكي إلى «تكريس النجاحات». وكانت مجزرة حديثة، حالها حال مجازر القائم والاسحاقي وسامراء، والقصف العشوائي على المدن المختلفة مثل النجف والكوفة، قد تسبّبت بقتل العديد من النساء والأطفال. ولا تزال دماء ضحايا عمليات المرتزقة ومستخدمي الشركات الأمنية المصانين من القانون العراقي والأميركي والدولي، قانية في نزيفها المستمرّ، ولا تزال صرخات الطفلة عبير قاسم الجنابي التي اغتصبها جنود الاحتلال وأحرقوها وقتلوا والديها وشقيقتها هديل، ابنة الأربعة أعوام، تُسمع في نهار العراق الحالك بلا حكومة تدافع عن شرفها وحقّها وحقّ أهلها في الحياة.
لم يكتفِ المالكي وحكومته بالمشاركة في جرائم الاحتلال وانتهاكاته واختلاساته والتوسّل لتمديد بقاء قواته، بل وعمل ضمن «نجاحاته» على التمهيد لربط العراق بقيود الاتفاقيات طويلة الأجل مع المحتلّ الأميركي، وترتيب بناء القواعد العسكرية الدائمة، وتغيير قانون النفط والغاز الوطني ليتماشى مع سياسة المحتلّ في الهيمنة على مصادر الطاقة وفتح الأبواب أمام مؤسّساته الاحتكارية. وهي السياسة التي وقف أبناء الشعب العراقي ضدّها بقوة أدهشت العدوّ وعملاءه. واتهمت حكومة الاحتلال قادة نقابة عمّال النفط في جنوب العراق، بتخريب الاقتصاد عندما اعتصموا مطالبين بحقوقهم ورفضهم لقانون النفط الجديد، وحذّر المالكي بأنه سيستخدم «قبضته الحديدية» إذا ما أوقف العمّال ضخّ النفط، كما أصدر مذكّرة توقيف بحقّ القيادة، ورأى وزير النفط أن اتحاد النقابات « غير شرعي». بينما التزم الاثنان الصمت المطلق، ولم يحرّك المالكي « قبضته الحديدية» عندما اغتالت قوات الاحتلال الأميركية في أيلول 2007، رئيس المهندسين طالب ناجي عبود في منطقة الرميلة الجنوبية حيث الطريق العسكري المؤدّي إلى قاعدة التمويل الأميركية في الكويت. ومن بين «نجاحات» حكومة الاحتلال، محاربتها للتنظيمات والأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني ومن بينها النقابات والاتحادات التي تفوز لجانها بالانتخابات، إذا ما حدث وأشارت إلى «المحرّم»، أي وجود الاحتلال وتأثيره على ما يجري في العراق. وغالباً ما توصف انتخابات النقابات والاتحادات بأنّها ديموقراطية إلى أن يفوز مرشّح مناوئ للاحتلال بأغلبية الأصوات، فتنقلب الصورة وتُلغى الانتخابات باعتبارها «غير مستوفية» للشروط الديموقراطية. وهي صورة مصغَّرة، وإن كانت طبق الأصل، عن سيرورة الانتخابات «الديموقراطية» الفلسطينية عندما فاز الطرف المغضوب عليه أميركياً بأغلبية الأصوات. وأفضل مثال على «نجاحات» حكومة المالكي الديموقراطية، إلغاء انتخابات نقابة المحامين عندما فاز مرشّح مناوئ للاحتلال. وقد شجب الاتحاد الدولي للمحامين والعديد من المنظّمات الدولية الخاصّة بالمحامين والحقوقيّين التدخّل الحكومي في الانتخابات، كما تطرّق السيد ليوناردو ديسبوي المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاء والمحامين، في تقريره السنوي المقدَّم إلى اجتماعات مجلس حقوق الإنسان في دورته الخامسة، المنعقدة في مقرّ الأمم المتحدة في 11/6/2007 ، إلى تدخّل حكومة الاحتلال في انتخابات النقابة، وما جرى من خروق في نتائجها، مبيّناً أنّ هذه الحكومة قد ألغت فوز ضياء السعدي وعدد من زملائه تحت ذريعة اجتثاث البعث. وأنّ هذا التدخّل الحكومي غير واعد بإقامة دولة القانون والقضاء المستقلّ واحترام مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، في ظلّ الإقصاء وإسقاط الحقوق الأساسية المدنية والسياسية بعيداً عن القضاء.
وقد أصدرت نقابة المحامين العراقيين بياناً وقّعه نقيبها ضياء السعدي بمناسبة الذكرى التاسعة والخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، جاء فيه: «إنّ الاحتلال العسكري الأميركي للعراق الذي سيدخل عامه الخامس بعد شهور، أدّى إلى تدمير كيان الدولة ومؤسّساتها وأجهزتها في سابقة لم تشهدها البشرية من قبل... وأنّ المشهد الغالب على الساحة العراقية يدلّ على سقوط العملية السياسية التي تقودها سلطات الاحتلال العسكري ويفضح زيف ادعاءاتها بإقامة الديموقراطية، وتعزيز الحريات وحماية حقوق الإنسان». وتطرّق البيان إلى عمليات النزوح الداخلي الإجباري ضمن المدينة الواحدة والتهجير القسري للملايين من العراقيّين الذين لجأوا إلى كل بقاع العالم، فضلاً عن الاعتقالات والتدابير المُفقدة للحرية التي تمارسها القوات العسكرية المحتلة والأجهزة الأمنية العراقية، واللجوء الى التعذيب والمعاملة المهينة للكرامة.
إنّ المالكي قد خسر بتصريحه الأخير فرصة لا تعوَّض في مراجعة الذات والاعتراف بما ارتكبه بشكل مباشر أو غير مباشر ضدّ أبناء الشعب العراقي، بدلاً من إضافة الملح على جروحهم النازفة داعياً إيّاهم إلى تكريس نجاحات الاحتلال، ما يجعل الفقرة الأخيرة من بيان نقابة المحامين العراقيّين الناصّة على: «أنّ الجرائم الإنسانية محرَّمة بالقوانين والمعاهدات الدولية التي لا تقبل العفو أو المصالحة ولا تسقط بالتقادم»، تنطبق عليه تماماً.
* كاتبة وصحافية عراقيّة