ماجد الشيخ *
في العديد من مناطق العالم وبلدانه، لا يبدو أنّ الدولة قد نجحت في أن تؤلِّف المصهر الوطني للمجموعات القبلية والعشائرية أو الطائفية والمذهبية، بل إنّ «الدولة « تنجح في نظر المجموعة المهيمنة أو التي يكتب لها الغلبة على المجموعات الأخرى، فيما هي فاشلة أو تفشل في نظر كل أولئك الذين استبعدوا بطريقة أو أخرى من جنة «الدولة» أو «جنان السلطة» بالأحرى، ذلك أن الدولة ليست لصيقة الهمّ أو الهموم الأحادية لهذه القبيلة أو تلك، لهذه الطائفة أو تلك، فإن لم تكن الدولة دولة الجميع ـــــ جميع المكوّنات الوطنية ـــــ فهي دولة فاشلة بالتأكيد، بل إنها دولة السلطة التي تمسك بالزمام ليس إلّا.
ذلك ما تكشفت وتكشف عنه الآن تجارب العديد من البلدان العالمثالثية التي يبدو أن الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، مثّلت وتمثّل الأداة الفاضحة لها؛ من حيث تقديمها وسائل التشريح والتجسيد الكافي، لانقسامات تتجاوز واقع الحال القبلي أو الطائفي، أو ما يتفرّع عنهما من انقسامات وتذرّرات أصغر، في بيئة حاضنة وجاهزة لحمل فيروسات التشظّي القابلة لإشعال الجسد كله، بحمى المنازعات والتصارعات والمصادمات العنفية القابلة للتحوّل إلى إرهاب وإرهاب مضاد. إرهاب دموي في طبيعته ونتائجه التي بات من الصعب قراءة أو استقراء مآلاته النهائية، وإن كان من المؤكّد أنّ الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي هو أوّل ضحاياه، ذلك أن دولة دون بيئة مستقرة وبنية حاضنة لا يمكنها الخروج من عين الإعصار الذي يلفّها جرّاء تفجّر دماملها دفعة واحدة، في أعقاب انتخابات كان مأمولاً لها أن تكون أو أن تؤسّس لوضع ديموقراطي، يزيد من القناعة بأن بناء الدولة يقتضي التخلّي عن النوازع البدائية الكامنة.
تلك هي في العموم، مسبّبات الخراب التي مثلّت بنتائجها؛ آلية الخروج من حضن الدولة إلى احتضان السلطة، وما يرتّبه ذلك من استطراد المفاهيم التي تنحاز قوى في المجتمع السياسي والأهلي لفرضها أمراً واقعاً، وبالقوة «الانقلابية»، شكلاً لجوهر كان ينبغي أن يكون ديموقراطياً، جراء عملية انتخابية كانت بنتائجها أكثر من ملتبسة، أو هي في التباسها تنحو نحو خلق مقدّمات ومقوّمات تنازع أهلي، قد تكون الحرب الأهلية إحداها؛ إن لم يجر وضع حدّ لهذه أو تلك من المقدمات أو المقومات الباقية إرثاً تقليدياً من تراث الماضي التكويني لمجموعات قبلية أو عرقية بدأت تتكوّن وتتّحد على هيئة شعب أو شعوب لم تعرف الدولة أو الأمة نطاقاً لاجتماعها بعد.
وسط هذا كلّه، ليست هي المرّة الأولى التي تواجه فيها كينيا منذ 45 عاماً، أي منذ أن نالت استقلالها عن بريطانيا عام 1963، مثل هذا الوضع، لكن ليس بهذه الكيفية والعمق الذي يتّسع فيه الآن نطاق العنف والاضطراب الأمني والسياسي، وكأنها على محك الديموقراطية تدخل هذه البلاد في نفق من الخلافات والانقسامات الحادّة قبلياً، وسط تجاوزات شابت انتخابات راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى والآلاف من المهجّرين والمشرّدين، وصراعات قبلية تفتح على تطهير عرقي، وموت مجّاني، قد يطول بآثاره كينيا كلّها التي لم تشهد من سنوات الاستقرار إلا القليل في الفترات الأولى من الاستقلال.
تضمّ كينيا المعروفة بأنها أكثر البلاد الأفريقية استقراراً، أكثر من 40 مجموعة عرقية، لكلّ منها هويتها وثقافتها ولغتها؛ أبرزها قبيلة كيكويو التي تمثل 22 في المئة من السكّان والتي تهيمن على مقدرات البلاد وسلطاتها السياسية. وتأتي قبيلة لوهيا في المرتبة الثانية من حيث التمثيل السكاني الذي يعد 36 مليون نسمة (14 في المئة)، تليها قبائل الليوس (13 في المئة) ثم كالنجين (12في المئة) وكامبا (11 في المئة). وتأتي في المرتبة الأخيرة قبيلة ماساي التي تمثل واحداً في المئة فقط من السكّان.
ينتمي الرئيس الحالي مواي كيباكي إلى قبائل كيكويو التي تنحدر من الهضاب الوسطى المعروفة بخصوبتها، وهي قبيلة تهيمن على اقتصاد البلاد، فيما ينتمي خصمه رايلا أودينغا إلى قبائل الليوس التي تنحدر من غرب البلاد قرب بحيرة فيكتوريا القريبة من أوغندا. ولأودينغا مناصرون يعيشون في نيروبي في ما يسمّى مدن الصفيح الفقيرة.
وتعود الصراعات القبلية بين الكيكويو والليوس، إلى عهد والد الزعيم الحالي للمعارضة رايلا أودينغا (جاراموغي أوغينغا أودينغا)، الذي كان على مدى ثلاثة أعوام تلت الاستقلال، زعيم المعارضة التي جابهت الرئيس المؤسّس جومو كينياتا، وهو من الكيكويو. وزاد الشرخ صراعات التطهير العرقي عمقاً، عندما اغتيل السياسي البارز في الليوس طوم مبويا في عام 1969 في عملية اتّهمت فيها المعارضة نظام كينياتا بالوقوف وراءها.
ولم تفوّت كينيا بعد ذلك عدداً من المواسم الانتخابية دون أن تشهد نزاعات عرقية: ففي عام 1992 قتل نحو 1500 شخص في منطقة الوادي المتصدع، وبعدها بخمس سنوات قتل ما لا يقلّ عن مئتي شخص في مومباسا.
ولئن عادت الانتخابات الرئاسية الأخيرة كينيا إلى التكوين البدائي لسلطة لم تستطع أن تبني دولة، فإنها تعيد الصراعات القبلية لتكوّن وجه «الدولة» البدائي، حاسرة عن الوجه الأبشع للسلطة التي تسعى للإبقاء على ديمومتها بيدها ويأيدي المالكين لزمامها، ولا سيما أن السلطة كانت تستشعر في حراك المعارضة حيوية يمكنها أن تشكّل «قوّة بديلة» أضحت جاهزة للتغيير، بعدما شهدت الفترة ما قبل الانتخابات الرئاسية أخيراًَ، انقسامات سلطوية حادّة بين السلطة والمعارضة، إلا أنّ الانتخابات كانت الشرارة التي أعادت تعميق الانقسام السياسي والمجتمعي على أسس إثنية ـ قبلية. وبدلاً من أن تكون الانتخابات المفصل الرئيسي لتداول السلطة بنشوء إمكانها، ذهبت إلى إهدار فرصة كهذه، وصارت تتطلب حلولاً عاجلة ومعالجات سياسية هادئة، لإيقاف تدحرج كرة نار العنف والمجازر القبلية التي باتت تجتاح البلاد الكينية.
وحتّى يجري تحقيق مستقلّ في شأن الانتخابات ونتائجها، وما شابها من خروق وتزوير، بشهادة العديد من المراقبين المحليّين والأوروبيّين، وبشهادة التراجع الأميركي عن تهنئة الرئيس كيباكي، فإن حلاً سياسياً لمشكلة العنف والمجازر القبلية، ينبغي اللجوء إليه، قبل أن تنحدر البلاد إلى مزيد من المجازر والعنف القبلي على الطريقة الرواندية، وذلك من قبيل الاحتكام إلى البرلمان، حيث بإمكانه أن يتولّى «السلطة البديلة» من سلطة الرئيس لمدّة ثلاثة أشهر أو ستة، إلى حين إجراء انتخابات جديدة يجري فيها استبعاد الأجهزة التابعة لسلطة الرئاسة عن كل إمكان بالتأثير في مجرى العملية الانتخابية.
على أي حال، فإن التهنئة الأميركية والتراجع عنها، تشير بوضوح إلى أن واشنطن أدركت سريعاً أنها تمتلك مصالح جيوسياسية استراتيجية هامة في كينيا ودول الجوار، ولا سيما بسبب وضع القرن الأفريقي والوضع الجيوسياسي السائد هناك، وحاجة الولايات المتحدة ورهانها على إبقاء كينيا ودول الجوار المحيطة بها، عند خط الاستقرار وسط أجواء عاصفة في بقية القارة، حيث يجري التنافس على مصادرها وثرواتها، علاوة على استخدامها (واشنطن) عدداً من دول القارة في حربها على الإرهاب.
هل فقدت منطقة القرن الأفريقي مزيداً من مسببات عدم الاستقرار، جراء العملية الانتخابية الكينية؟ بلى، لذلك فإنّ تخطّي الأزمة حدود الأسابيع الثلاثة أو الأربعة القادمة، سوف يضع المنطقة في عين الإعصار الذي بات معروفاً أنّه يتكوّن امتداداً من الصومال والسودان وإثيوبيا، إلى ما قد يتجاوز كينيا إلى جوارها القريب وربما البعيد، ولا سيما أن لقبائل الداخل الكيني امتدادات إثنية في دول مجاورة، أو لها امتدادات سياسية واقتصادية واجتماعية، يمكنها أن تؤثّر داخل بلدان لا ناقة لها ولا جمل في ما يجري في كينيا، إلا أنها مجبرة في كل الأحوال على دفع ضريبة البقاء عند فوهة بركان أفريقي بات المريدون لثرواته والطامعين بأسواقه يمتدّون من الغرب... إلى الشرق، بحثاً عن اقتناص فرص الثروة النفطية والغازية الواعدة.
* كاتب فلسطيني