شيماء الصراف *
في كلامه الأوّل، «أجاز» شيخ الأزهر، الطنطاوي للمغتصَبة الحامل أن تجهض نفسها خلال 120 يوماً، ووصف من لا تفعل ذلك بـ«الزانية». في تعديل لاحق على ما قاله، استبدل الجواز بـ«الوجوب»، وهو تعبير فقهي يفيد أنّ لقوله صفة الإلزام. العلّة: «الاغتصاب عمل غير مشروع، وإنه باطل، ولذلك فإن نتيجة هذا العمل الحرام وغير المشروع ينبغي التخلّص منها فوراً».

حكم الإجهاض في الفقه

اتفق جميع أئمّة المذاهب الفقهيّة المعمول بها حاليّاً (ومنهم الشيعيّة الجعفريّة) على جواز منع الحمل. اتفقوا كذلك على الإجهاض، إلّا القلّة منهم، حيث قالوا بحرمته باعتباره «قتل نفس». اعتمد من أحلّ الإجهاض على الآيات 12 ـ 14 المؤمنون، والآية 5 من سورة الحج، وعلى حديث الرسول الكريم المستند إليهما: «إنّ أحدكم يُجمع في بطن أُمّه أربعين ليلة ثمّ يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح». عمر هذه الفتاوى أكثر من 12 قرناً باعتبار أنّ المذاهب الثلاثة الأولى: الحنفي، المالكي والجعفري، ظهرت في القرن الثاني للهجرة (الثامن الميلادي). إذاً ليس هناك سبب على الإطلاق لكلمة الطنطاوي «أجاز».

حمل المرأة

المتزوّجة يهمّها الحمل فلا تغفل عن مراقبة نفسها؛ فهي إمّا راغبة فيه أو لا، هذه حالة قديمة قِدم مجتمعات الأرض. إنّ عدم الرغبة في كثرة النسل زادت في عصرنا الحالي بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها العائلة. المغتصبة كالمتزوجة التي لا ترغب في الحمل ـــــ على اختلاف الأسباب ـــــ بل هي أشدّ حرصاً منها على مراقبة نفسها والتخلّص منه حين التأكّد. لم يُلزم الفقهاء القدامى المغتصَبة بأمر؛ فإن هي آثرت الاحتفاظ بالحمل، فهي حرّة في قرارها وليس لأحد على الإطلاق التحرّي عن السبب، تلد فيُلحق الطفل بالأب ويحمل اسمه، وبحالة وجود مانع أياً كان يُنسَب إلى أُمّه.
خيار المرأة ومن ثمّ قرارها أمر احترمه الفقهاء القدامى وعملوا على حمايته. الاغتصاب هو إكراه على فعل، إنها حالة من انعدام الإرادة وقد يكون له نتائج ومنها الحمل. بانتهاء حالة الإكراه يعود للمرأة الخيار من جديد، وله مظاهر متنوّعة: فقد تعرض عن الزواج، وقد تكرّس حياتها بعده لأمر ما، وهناك الانحرافات والأمراض النفسية، وقد تقرّر الانفصال عن زوجها إن كانت متزوّجة، وغيرها من الأمور، ولا تغيير في حالة حملها فلها
الخيار في الاحتفاظ به أو إسقاطه.
أضرب مثلاً في احترام خيار المرأة: بحث الفقهاء صحّة عقد زواج المرأة السكرى. الخمر يستبدّ بالعقل فيعدم الإرادة، فإن هي وافقت على عقد الزواج من رجل أمام شهود ثمّ صحت من سكرها فما حكم العقد؟ أفتى الفقهاء أن أمامها أحد خيارين: أن تمضي العقد أي تجيزه، والخيار الثاني أن تفسخ العقد فتردّه باطلاً، فهي حرّة في القرار بعد استرجاعها لإرادتها حال الإفاقة من السكر. ونلاحظ أن العلّة واحدة في المغتصبة والسكرى، وهي انعدام الإرادة.
لقد كانت فتاوى فقهاء السلف غاية في الصرامة في حماية المرأة المغتصبة أيّاً كان الظرف: فهناك حالات العزباء، والمتزوّجة. وهناك الزوجة التي يرميها زوجها بالزنى على أنه الشاهد الوحيد أو يدّعي أن الحمل ليس منه، أو ينفي نسب الولد بعد الولادة. إن من يقذفها بالزنى: زنيتِ، أو يا زانية، أو يقذف ولدها ـــــ ذكراً كان أو أنثى ـــــ لاحقاً بقوله: أنت ابن زنا، عليه أن يثبت الأمر وإلا فعقوبة القذف هي الجلد ثمانين جلدة. كان من نتائج هذا أن المرأة تستعيد وضعها بالكامل كعضو في المجتمع، وأنّ ولدها ينشأ متمتّعاً بالاحترام الواجب تجاهه من أفراد مجتمعه. وإنْ كان الجلد اليوم لا يُمارس كعقوبة، فإنّ في السجن متّسعاً على الدوام لمن يعتدي على الناس من أبناء مجتمعه باتهامهم بفعل الفاحشة أو تعيير أبنائهم بذلك.
إنّ اعتبار الطنطاوي المغتصَبة الحامل التي ترفض الإجهاض، زانية هو ظلم مضاعف لها، بل إنّ فعله هذا كبيرة من الكبائر، قائمة بذاتها، فهو قذف صريح. علاوة على ذلك، فإن هذا الاتهام يقع في نطاق ثلاث كبائر ذكرها الإمام الحافظ محمد بن أحمد الدمشقي الشافعي (توفي في 1348م) في مؤلفه «كتاب الكبائر». هذه الثلاث هي: الكبيرة السادسة والعشرون، الظلم، الكبيرة الحادية والخمسون، الاستطالة على الضعيف، الكبيرة الرابعة والخمسون، أذية عباد الله والتطاول عليهم.
هل غاب عن ذهن الشيخ الطنطاوي حديث «ادرأوا الحدود بالشبهات»، الذي طـُبِّق منذ عهد الرسول الكريم وظهر واضحاً جليّاً في ما بعد في فتاوى وسلوك الصحابة قبل أن يستقرّ قواعد ثابتة في الفقه؟
في مصر، كشف أخيراً مجلس إدارة جمعية الدفاع الاجتماعي بالشرقية أنّ 90 في المئة من أطفال الشوارع، وأعمارهم ما بين 12 ـ 15سنة، تعرّضوا للاغتصاب. وأن 7،5 في المئة من إجمالي حالات التشرّد من الإناث. بينما ذكرت دراسة حكومية أُعدّت عام 2006 أن «نصف فتيات الشوارع مارسن الجنس، ونحو 45 في المئة منهنّ اغتصبن».
هل كان دافع فتوى الشيخ الطنطاوي هو التقليل من أولاد الشوارع، وأن لا يُضاف إليهم آخر أو أُخرى، بسبب الجوع والفقر والإهمال؟ إن كان الأمر كذلك، فالواجب معالجة أصل المشكلة، التصدّي لهذا البلاء الثلاثي الأبعاد. والشيخ الطنطاوي بحكم مركزه وإمكاناته قادر على استنفار جميع الجهات الحكومية والشعبية لذلك.
* كاتبة مختصة بالتاريخ الإسلامي