لطفي حجي *
عاشت تونس في نهاية السنة الماضية على وقع أحكام بالإعدام والمؤبّد شملت مجموعة من الشباب يُشتبه في انتمائهم إلى التيار السلفي الجهادي تورّطوا في مواجهات مسلّحة مع قوات الأمن مطلع السنة نفسها.
وقد شكّلت تلك الأحداث التي أصبحت تُعرَف بـ«أحداث سليمان» نسبة إلى مدينة سليمان في ضواحي العاصمة تونس التي جرت فيها المواجهات، منعرجاً خطيراً في العلاقة بين السلطة والشباب من ذوي الخلفيات الدينيّة، إذ لأوّل مرّة في تاريخ تونس منذ استقلالها عن المستعمر الفرنسي سنة 1956، تشهد مواجهات مسلّحة من هذا النوع بين مجموعة من الشباب، الذي اختار السلفية منهجاً، وقوات الأمن أسفرت عن سقوط أربعة عشر قتيلاً، منهم اثنان من رجال الأمن.
وبعيداً عن التفاصيل المرتبطة بآنيّة الحدث والتي مثّلت نقطة خلاف بين الحقوقيّين والسلطة التي بقيت المصدر الوحيد للمعلومات منذ الإعلان عن المواجهات، بعيداً عن كل ذلك، فإنّ الحدث نظراً إلى خطورته يسمح بموقعته في سياقه التونسي، أي ضمن تطوّر نسق التفكير الديني والسياسي في تونس وفي سياق ما شهدته المنطقة على المستوى المغاربي والعربي من تطوّرات، وخاصة أن الذين يُحاكمون في هذه القضية يُصنَّفون في خانة السلفيّين الجهاديّين وهو تيّار انتشر في بلدان عربيّة أخرى.
يبدو الخيار السلفي الجهادي غريباً عن الساحة التونسية من الناحيتين الثقافية والسياسية. فالأحزاب السياسية التي برزت للمرة الأولى في تونس في سبعينات القرن الماضي، بعد هيمنة الحزب الواحد، كانت جميعها تصنَّف ضمن أحزاب الواقعيّة السياسية، كانت تطالب بإدخال إصلاحات سياسية على النظام السائد، فتدعو إلى التغيير الشامل بالطرق السياسية، ولم يتبنَّ أي حزب منها منهج الانقلابات والمواجهات المسلّحة، بما فيها الحزب الإسلامي الذي كان يُعرف بـ«حركة الاتجاه الإسلامي»، وغيّر اسمه في ما بعد إلى «حركة النهضة». فقد تبنّى المنهج السياسي نفسه مع اختلاف في المطالب عن الأحزاب الأخرى. لذلك لم يكن غريباً أن تشهد الساحة التونسية في ثمانينات القرن الماضي تنسيقاً بين الأحزاب العلمانية، بما فيها الحزب الشيوعي التونسي، والاتجاه الإسلامي للاشتراك في جملة من المطالب السياسية.
كما أنّ المواجهة بين حركة النهضة والنظام الحالي في مطلع تسعينات القرن الماضي، وما رافقها من اعتقالات واسعة لكوادرها وتعذيب دانته كلّ المنظمات الحقوقية، وأحكام قاسية، لم تدفع قيادة الحركة إلى اختيار العنف أو المواجهة المسلّحة، وأبقت على خيارها السياسي مثلما أكّد على ذلك قادتها في أكثر من تصريح. وبذلك تكون قد قطعت مع خيار بعض الحركات الإسلامية المجاورة في الجزائر أو مصر.
ومردّ هذا الاختيار طبيعة الثقافة التونسية السائدة التي تقوم على نوع من العقلانية والاعتدال، وهو اختيار يبرز في دعوات المصلحين التونسيّين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكرّسه نظام التعليم التونسي الذي أرساه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منذ الاستقلال، وكان في جوهره نظاماً عقلانياً منفتحاً على تجارب الآخرين وأفكارهم، وبالخصوص أفكار فلاسفة عهد الأنوار، وهي عناصر تبدو كلّها مهمّة وفاعلة في عدم بروز حركات راديكالية حتى ممّن تبنّوا الفكر الإسلامي والمطالب الإسلامية.
إذا سلّمنا أن الأمر كذلك، فمن أين برز الشباب السلفي الجهادي الذي تتراوح أعمار أفراده حسب سجلّات المعتقلين ما بين 17 و 25 سنة؟
يمكن القول إنّ هذا الشباب نشأ في العقد الأخير في غفلة من النخبة والسلطة والنظام التعليمي معاً. فالسلطة، وعلى إثر مواجهتها مع حركة النهضة ذات الخلفية الإسلامية، حرّمت النقاش في المسائل الإسلامية الحسّاسة في الفضاءات العموميّة، وكذلك في وسائل الإعلام ذات الانتشار الواسع مثل الإذاعة والتلفزيون. وقد صادف ذلك هوى في نفوس عدد من النخبة التونسية التي اعتقدت خطأً أنها حسمت المسألة الإسلامية. فكانت نتيجة ذلك الانغلاق أن قام جزء من الشباب التونسي بما يمكن أن نسمّيه هجرة فكرية بحثاً عن مضامين جديدة، فوجد ضالّته في بعض الفضائيات ومواقع الإنترنت. وقد ساعده على ذلك أحداث مفصلية على المستويين العربي والعالمي لم تترك أحداً على الحياد. ولعلّ أهمّها أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، والانتفاضة الفلسطينيّة الثانية التي كانت شرارتها محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ارييل شارون تدنيس المسجد الأقصى، وكذلك الاحتلال الأميركي للعراق، الذي حوّله إلى ساحة للمواجهة مع الأميركيّين من قبل عدد كبير من الشباب العربي.
ولذلك، فليس من الصدفة أن يكون عدد من الشباب السلفي التونسي الذي يحاكَم بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب (خارج مجموعة سليمان) والذي يقدّر الحقوقيون عديده بأكثر من ألفي شاب، ليس من الصدفة أن يكون قد اعتقل في سوريا والجزائر وهو في طريقه إلى العراق. فهؤلاء الشباب يعتقدون أنّ رسالتهم إسلامية كونية، لا تونسية. فهو مغترب عن الساحة التونسية، وحتى العمليات التي نُفّذت في تونس خطّط لها في الخارج. فأفراد جماعة سليمان تسرّبوا من الجزائر، حسب ما أعلنت السلطة، والشاب التونسي الذي فجّر شاحنته أمام الكنيس اليهودي في جزيرة جربة جنوب البلاد سنة 2002 جاء من الخارج وتبنّى العملية تنظيم «القاعدة».
وإذا نظرنا إلى مواجهات سليمان ضمن ذلك السياق، فإنها تبدو على خطورتها وغرابتها عن المجتمع التونسي، أعقد من مشهد شباب حمل السلاح لمواجهة حكومة. بل هي مشكلة جيل فاقد للتأطير والنقاش والحرية، جيل رأى أن الإحباطات السياسية التي يعيشها العالم الإسلامي، والتي يعيشها هو على المستوى الشخصي، من بطالة وفقر وانسداد أفق حتى للطلبة المتفوّقين، يبرّر عنده أن يتحوّل إلى مشروع مهاجر استشهادي. ومنهم من يعود إلى بلاده للقيام بعمليات تخريبيّة دون أن يفكّر في جدواها وخطورتها وانعكاساتها على المجتمع بأسره.
إن خطورة التفكير الذي يدفع مثل ذلك الشباب إلى قلب الأولويات يحتّم النظر إلى المسألة من زاوية تأثيرها على المجتمع لا من جانبها الجزائي فحسب. ومثل تلك النظرة تدفع إلى القول إن إعدام عناصر من مجموعة سليمان، إن حدث، لن يعدم فكراً غريباً على النسيج السياسي والثقافي التونسي بدأ يتغلغل في أوساط الشباب. وإنّ ما يعدمه هو الحريات الفعلية التي تسمح للنخبة بمناقشة الشباب في جوهر القضايا، والتعليم العقلاني الذي لا ينقطع عن جذوره، والثقافة العصرية التي لا تقتصر على جانب تهميش الشباب والتعامل معه على أنّه كائن بيولوجي فحسب، يجب تلبية رغباته البيولوجية مقابل إبعاده بشتى الطرق عن قضايا الشأن العام.
وعليه، تصبح الاستفادة من تلك الأحداث لإبعاد الشباب عن الفكر الراديكالي ذي الأفق المغلق ضرورية لرسم مستقبل أفضل لشبابنا ولمجتمعنا. لأنه في مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما اشتدّت المواجهة مع حركة النهضة الإسلامية، تعالت أصوات عاقلة تدعو إلى عدم الاكتفاء بالتعامل الأمني مع الظاهرة الإسلامية فلم تجد من ينصت إلى نداءاتها، فوجدنا أنفسنا بعد عقد من الزمن أمام ظاهرة جديدة خطيرة. وما نخشاه هو أن تساهم التجاوزات التي يتحدّث عنها الحقوقيّون ضدّ الشباب السلفي من تعذيب وأحكام قاسية، في تنشئة ظواهر أخطر في السنوات المقبلة لا يحسب لها حساب، فتكون السلطة قد غذّت النقمة والتطرّف في المجتمع من حيث أرادت مقاومة الإرهاب.
كان الزعيم بورقيبة يتحدّث في بداية الاستقلال عن «الجهاد الأكبر» في وصفه لمعركة الشعب التونسي لمقاومة التخلّف والجهل والفقر وغيرها من الظواهر التي كانت تكبّل شعباً خارجاً لتوّه من الاستعمار، ويعاني من شحّ الموارد الطبيعية. وكان يحتاج إلى تفكير جديد وعزيمة مضاعفة لمقاومة التخلّف. وقد نجح بورقيبة في إيصال تلك الأفكار عبر توظيف المصطلحات الدينية باعتبار تغلغلها في اللاوعي الجماعي.
ونحن نحتاج اليوم إلى إقناع من يصنّفون أنفسهم في خانة السلفية، أو السلفية الجهادية، بفكر معتدل وإخراجهم من المعارك الخاطئة والمواجهات التي تخاض خارج أوطانهم إلى المعارك الحقيقية من أجل التنمية والديموقراطية وحقوق المواطنة ومحو الأمية وتحرير المرأة. وهي قضايا تُعَدّ بالفعل جهاداً أكبر، أقوى من الأحزمة الناسفة، وخاصة عندما ننظر إلى مرتبتنا في تلك القضايا مقارنة بعدد من شعوب العالم.
لكن ذلك يتطلّب أنظمة تفكّر في مستقبل شبابها وتفتح له المجالات الحقيقية للمشاركة في قضايا الشأن العام، ولا تربّيه على أن المشاركة السياسية وإبداء الرأي المخالف هما جريمة تؤدّي بصاحبها إلى السجن، فتدفع به سياسة الانغلاق تلك إلى الهجرات: الهجرة السرية نحو أوروبا، فيكون مصيره الموت غرقاً أو السجن، أو «الهجرة الانتحارية» حيث تتلقّفه تيّارات تحوّله إلى حزام ناسف في معارك يجهل عادة أهدافها ورهاناتها.
كما يتطلّب ذلك المسعى لإقناع الشباب، نخبة غير مستقيلة تؤمن بدورها المجتمعي في تنمية الأفكار وتأطير الشباب ومحاورته بدل رفضه ونعته بالتطرّف والسخرية من تفكيره. النخبة تحتاج إلى القيام بدورها في تربية الشباب على المفاهيم الكونية الحديثة وعلى معانٍ جديدة مثل الوطنية والحرية والاختلاف والمواطنة، وغيرها من المفاهيم المجهولة منه. ومن أين له أن يدركها وهو لم يتربَّ عليها؟
* صحافي وكاتب تونسي