نزار صاغيّة *
في 13-12-2007، ردّت محكمة استئناف الشّمال الطّعن المقدّم من النّيابة العامّة ضدّ الحكم الصّادر عن القاضي الجزائي في طرابلس منير سليمان بتاريخ 9-5-2007. وكان الحكم قد قضى بتبرئة كلّ من جوزيف حداد بصفته كاتب مقالات عدّة في مجلة «حقوق النّاس» (أبرزها الإله المخطوف) خلال عامي 2002-2003 ووسام ملحم الذي تولّى آنذاك توزيع المجلّة المذكورة في الجامعة اللبنانية (القبّة ــــ طرابلس)، من تهمتَي التجديف علناً باسم الله وتحقير الشّعائر الدّينية. وكانت القضيّة قد بدأت حين قدّمت رابطة الطلاب المسلمين شكوى على خلفية هذه المقالات في ربيع 2003 أي في حمأة الخطاب العامّ السّائد آنذاك بشأن «العزّة الإلهيّة وعبَدة الشيطان». (عن هذا الأمر، مجمل الصحف بين شباط ونيسان 2003 وبشكل خاص تحقيق «النهار» 7 نيسان 2003، ومشروع قانون أعدّته لجنة تحديث القوانين لمكافحة «ممارسات البدع»، «النهار»
22/3/2003).
وإذ ذكّر هذا الحكم بالحكم الصّادر عن القاضية بو كروم في 15-12-1999 والآيل الى تبرئة مارسيل خليفة من تهمة «تحقير الشعائر الدّينيّة» على خلفية إنشاده آيات قرآنية ضمن قصيدة: «أنا يوسف يا أبي» خلافاً لقواعد شرعية وذلك على أساس أن «المجتمعات الإنسانية عرفت دوماً منذ ظهور الأديان حتى يومنا هذا، أنماطاً من السلوك طاولت مختلف نواحي الحياة ولم تراع دوماً كل القواعد الدينية أو تلتزمها دون أن يمثّل ذلك بالضرورة تعرّضاً لقدسية النصوص الدينية التي انبثقت عنها هذه القواعد» وأن خليفة «أنشد (بأية حال) القصيدة بوقار ورصانة ينمّان عن إحساس عميق بمضمونها الإنساني»، فإن الإمعان في حيثيات الحكم موضوع هذا المقال يعكس في الواقع مواقف أكثر تقدّماً وبأية حال وضوحاً في هذا المجال.
فردّاً على اتهامات الرابطة بأن المجلة احتوت مقالات استفزازية تمسّ الدين والإيمان عامّة وتتعرّض للذات الإلهية إضافة الى التهكّم على المحجّبات والحجاب بصورة مهينة لمشاعر المسلمين، وبأنها تطرّقت الى مواضيع جنسية فاضحة مخلّة بالأخلاق العامة وبأنها تنتهك التربية السليمة وساقطة الهدف وفيها إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية والسياسية وتُعرّض السلم الأهلي للخطر وتخدم المصالح الإسرائيلية (!!)، فإن القاضي أعاد قراءة المقالات الثلاثة موضوع الاتهام، على النحو الآتي:
- إنّ الكاتب صوّر في المقال «بين الدين والسياسة على مسرح اللبنانية» مشهدين حصلا في حرم الجامعة اللبنانية، الأوّل حفل تراتيل ميلادية والثاني حفل إعلان بعض الفتيات ارتداءهن الحجاب، وذلك تعبيراً عن رفضه أن تكون الجامعة غير مدنيّة وتالياً، فإنه ليس موجّهاً أو متعلقاً بطائفة معينة أو بدين دون الآخر إنما هو يدعو الى نزع الصبغة الدينية أو الطائفية عن الجامعات واعتمادها كصرح مدني.
- إنّ الكاتب انتقد في المقال الثاني «بلا ذاكرة» تشييد الكنائس والمساجد بتكلفة باهظة وبصورة مواجهة، كما انتقد مكبّرات الصوت في المساجد التي تنقل الخطاب السياسي.
- إنّه في مقال ثالث، كتب عن «الإله المخطوف» واقتبس عن الفيلسوف نيتشه وعن الكاتبة ناديا التويني وغيرهما، وكتب عن الإله الدركي والإرهابي والطاغية والنظام والملجأ والانتخابات والسلطة والمقدّس وذلك من باب انتقاد الوضع الدولي عامّة والممارسات القمعية واللاإنسانية تحت اسم الدين «أيّاً كان». فإيراد الأوصاف المذكورة بجنب حكمة الله إنما هو تعبير عن انتقاده لمن يمارسون الأفعال الموصوفة تحت اسم الله، وليس تجديفاً باسمه، ما دام هذا المقال جاء ردّاً على الحرب على العراق، وخصوصاً أنّ الكاتب خلص في نهاية مقاله إلى القول إنّ الله لم يحارب يوماً ولم يخضع أحداً ولم يبرّر الصليبية ولم يزكِّ الجهاد.
وكان بالطّبع من الممكن أن يكتفي القاضي بهذه القراءة لمضمون المقالات لتبرئة المدعى عليهما، لكنه بدا في حيثيّاته اللاحقة متحفّزاً للإعلان عن مواقف حقوقيّة من شأنها أن تمثّل سوابق في قضايا مماثلة قد تطرأ لاحقاً. فمن جهة أولى، أصرّ القاضي على التوضيح بأن حريّة الرأي والمعتقد تشمل حكماً حريّة التعبير عن آراء «علمانية غير دينية تؤمن بالمدنيّة ولا تحبّذ الطّوائف داخل المجتمع» وعن رفض ما يمارس من عنف في العالم تحت اسم الدين وأيضاً عن مفاهيم خاصة للإيمان والله بل وأيضاً للتربية. وهو إذ قارب حكم مارسيل خليفة لجهة رفض الثنائية بين الأبيض (الالتزام الكلّي بقواعد الدين) أو الأسود (أي تحقيره)، فإنّ اعترافه بحريّة التّعبير، جرى ليس فقط من باب تجاوز بعض القواعد الشرعيّة كما جاء في حكم مارسيل خليفة، إنّما أيضاً من باب نقد الدّين وأدواره الاجتماعيّة. هذا مع العلم أنّ تظهير الآراء العلمانيّة جاء في إطار جهود مكثّفة قام بها القاضي لاستبعاد أي شعور باستهداف الدين الإسلاميّ وحده، وبشكل خاص باستهدافه من دين آخر ما دامت العلمنة هي بطبيعتها على مسافة واحدة من الأديان كلهاأمّا الموقف الثّاني ـــ وهو مكمّل للموقف الأول ـــ فقد تمثّل بالاعتراف ـــ وربما للمرّة الأولى قضائياً ـــ بالتوجّه العلماني ليس فقط كحرية فرديّة مشروعة بل كمجموعة أفكار وعقائد وإيمان تعتنقها مجموعة من الناس تمثّل شريحة من المجتمع اللبنانيّ. وهذا الموقف جدّ مهمّ بما أنّه يؤدّي إلى وضع العلمنة على مصافّ أيّ معتقد دينيّ آخر بحيث يكون لها ولأصحابها ما للمعتقد الديني ولأصحابه من حقّ بالاحترام.
أمّا الموقف الثّالث، فهو يتّصل بوجوب إخضاع تفسير عبارتي تحقير الدين وإثارة النعرات الطائفيّة (أي ما يمثّل حدوداً لحرية التعبير) لمعايير التسامح وإلّا أدّت الى أغراض مناقضة تماماً لما ترمي اليه. وهذا ما نلقاه بوجه خاص في الحيثية الختامية، حيث رأت المحكمة أنّه «ليس ما يثير النعرات الطائفية أكثر من تقويض حرية المعتقد وإبداء الرأي وتسليط الضوء على بعض العبارات ذات الدلالات الدينية وإخراجها من سياق ومضمون المفهوم العام لما كتب والقصد منه وما رمى اليه، ووضع تفسيرات ضيّقة لها وحرفية يخرجها عن المعنى المقصود منها». وهذا ما قد يحصل مثلاً في حال سواد التزمّت والتعصّب في تفسير أقوال الآخرين، بحيث يصبح التوسّع في تعريف الأفعال والأقوال المسيئة أو المثيرة للنعرات وتالياً في اتهام الآخرين بإثارة النعرات الطائفية أوسع باب ليس فقط الى الحدّ من حريّة الرأي والمعتقد بل أيضاً إلى إثارة النعرات ومضاعفة أسباب التنازع والتخاصم والفتنة! وهذا أيضاً ما نقرأه في حيثية أخرى مفادها «أن مفاهيم التربية السليمة لا تحتكر تحديدها فئة معينة او رأي محدّد بل ما يعتقده البعض بأنه سليم تربوياً يمكن أن يراه البعض الآخر بأنه سيّء والعكس صحيح وذلك ضمن المجتمع الواحد والمنطقة الواحدة».
وعلى أساس ما تقدّم، وفضلاً عن تبرئة المدّعى عليهما (بحيث بقيت أقوالهما ضمن حدود النقد المقبول)، آل الحكم إلى توبيخ المدّعية لما جاء في شكواها من عبارات نابية وتبعاً لذلك إلى إدانتها (ضمناً) بما وجّهته من اتهامات، سواء لجهة إثارة النعرات أو المساس بمشاعر الآخرين أو معتقداتهم. وقد تبدّى الحكم بنتيجة كلّ ذلك نموذجيّا في تكريس التّعددية والتّسامح والعلمنة كخيار جماعيّ، ولكن أيضاً ــــ وهذا الأمر لا يقلّ أهمية ــــ في تكريس المساواة وأصول الاحترام بين المتقاضين أمام القضاء بمعزل عن مقاماتهم وتمثيلهم الاجتماعي، بما يعكس جليّاً ما يمكن للقاضي أن يؤدّيه من أدوار ريادية ووسطية في مسائل اجتماعية شائكة.
وما يزيد الحكم تمايزاً هو أنه صدر غيابياً، أي دون حضور المدعى عليهما، وتالياً دون أن يتسنّى لهما الدفاع عن أنفسهما: وهو إذ يذكّر هنا أيضاً بقضية «مارسيل خليفة» حيث ذهبت القاضية أبعد ممّا أدلى به المحامون فيها فأعلنت حقّ خليفة في مخالفة قاعدة شرعية عملاً بحرية المعتقد فيما اكتفى المحامون في مرافعاتهم في طلب براءته لعدم علمه بهذه القاعدة، فإنه يتمايز عنه في صدوره في قضية بقيت قيد الكتمان فلم يعرف بها ولا بالحكم الصادر بشأنها إلا قلّة من الناس!
وإذا جاز في المقابل انتقاد القاضي لإعلان صلاحيته في قضية مطبوعات أحالتها اليه النيابة العامة خطأً وهي تخرج حكماً عن اختصاصه (وهذا ما أقرّته محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 13-12-2007)، فإنّ ذلك لا يقلّل البتّة من أهمية حيثياته بل يمثّل دليلاً إضافياً على حماسة القاضي لإعلان مواقفه المشار اليها أعلاه تمهيداً لإحقاق ما يراه عدلاً.
وختاماً، وعلى المقلب الآخر من الميدالية، لا بدّ من نقد النيابة العامة في طرابلس (ممثلة المصلحة العامة من حيث المبدأ) التي بدت وكأنها تراكم الأخطاء، الواحد تلو الآخر، على طول الدعوى: فإضافة الى ادّعائها خارج المهلة القانونية أمام مرجع غير مختصّ ضدّ أشخاص يحظر القانون مداعاتهم في قضايا مطبوعات (موزع المجلة تحديداً!!)، نتساءل: ما المصالح أو القيم التي انتهكها الحكم (وهو من أجمل الأحكام) فأرادت حمايتها عبر استئنافه؟ ألم يكن حريّاً بها أن ترضخ للحكم على غرار ما فعلته النيابة العامة في بيروت إثر صدور حكم مارسيل خليفة؟ وألا تفضح تصرفاتها المذكورة بالنتيجة انحيازاً «أعمى» لوجهة نظر «فئوية» ضدّ «شريحة من اللبنانيّين» ممن يدينون العلمنة، ممّا يطرح علامة استفهام كبرى بشأن صدقية تمثيلها للحقّ العام (للمصلحة العامة) أو بأقل تقدير بشأن مدى جديته؟
* محامٍ وخبير قانوني