يحيى فكري *
دائماً ما كان المشهد باهراً للعابرين، هؤلاء الذين يتحرّكون غرباً من الإسكندرية إلى قرى الساحل الشمالي السياحية على الطريق الموازي لشاطئ البحر الأبيض، حيث تقع مدينة الدخيلة، وحيث توجد واحدة من القلاع الصناعية في مصر: «شركة الدخيلة للحديد والصلب»، بمصانعها الممتدّة وأفرانها العالية والميناء المخصّص لها، والمدينة السكنية الكبيرة التي يقطنها عمّالها. مشهد باهر لقلعة صناعية كانت ولا تزال المنتج الرئيسي في مصر للحديد المستخدم في صناعة الإنشاءات، كما كانت ولا تزال واحدة من أكبر المنتجين لتلك الخامة على مستوى الوطن العربي وأفريقيا.
«حديد الدخيلة» في الأصل واحدة من الشركات المملوكة للدولة إلى أن اقتطفها قطار الخصخصة، ليشتريها عام 2004 الملياردير المصري أحمد عز، ويحقّق خلال ثلاثة سنوات أرباحاً تتجاوز أربعة أضعاف ما دفعه ثمناً لها (حقّق خلال 2004 و2005 و2006 أرباحاً تقدر بـ425 في المئة من قيمة رأس المال المدفوع، طبقاً لتقرير نشرته «مواطنون ضدّ الغلاء» وهي منظّمة شعبية مصرية تنشط في قضايا حماية المستهلكين). وطبقاً لبيانات البورصة المصرية، فقد حقّقت حديد الدخيلة (حديد عزّ حاليّاً) أرباحاً تقدَّر بـ150 في المئة من قيمة رأس المال المدفوع خلال عام 2006 وحده، وحقّقت أرباحاً خلال الستة أشهر الأولى من 2007 تقدَّر بـ1640 مليون جنيه.
هذه الأرقام تكفي وحدها للكشف عن حجم النهب الذي يحدث في مصر على أيدي رجال مبارك، فأحمد عز هو أمين التنظيم في الحزب الوطني الحاكم، ورئيس لجنة الخطّة والموازنة في مجلس الشعب، وهو الساعد الأيمن المقرَّب لجمال مبارك (وريث العرش المنتظر)، كما أنه رجل الحزب القوي الذي صعد نجمه كرمز للجيل الجديد وسط الطبقة الحاكمة. هو من قام بتحديد أسماء رجال الأعمال الذين شكّل منهم أحمد نظيف حكومته، بعد التجديد لمبارك، وهو أيضاً المتحكّم في مواقف نوّاب الغالبية داخل البرلمان بسبب إمساكه بمفاتيح جنّة الفساد في مصر.
وعندما انكشفت أخيراً فضيحة الرشى الحكومية المقدّمة لنوّاب الحزب الحاكم، تردّد اسمه بصفته مهندس العمليّة. فالحكومة قدّمت سلسلة من التسهيلات غير الشرعية لعدد كبير من النوّاب الذين يدينون لها بالوفاء، ما سمح لهم بالحصول على أموال ضخمة. ونُشرت تقارير عن ذلك في عدد من الصحف الهامة فأثارت ضجّة تحوّلت إلى استجوابات قدّمها بعض نوّاب المعارضة في مجلس الشعب. إلا أن الأمر انقلب وتحول إلى حملة قادها أحمد عز ـ الذي تردّد اسمه في التقارير المنشورة بصفته منسّق الرشى الحكومية ـ ضدّ المعارضة، ونجح في فرض قرار بتحويل النواب الذين قدّموا الاستجوابات إلى التحقيق تمهيداً لفصلهم من المجلس، والأمر لا يزال معلقاً حتى الآن.
هكذا أصبح أحمد عز سيد الموقف، علاقته بجمال مبارك جعلته رجل السياسة الداخلية الأوّل، الذي يؤدي الدور المحوري في إعادة هيكلة الحزب الوطني وإطاحة حرسه القديم وبسط نفوذ شركائه وأعوانه على مقدّرات الأمور من ناحية، ويدفع من ناحية أخرى قطار الخصخصة والقضاء على ما بقي من ميراث دولة الرفاه الناصرية، ما يعني مضاعفة البؤس والفقر على كاهل عشرات الملايين من فقراء المصريّين. إلا أنّ النفوذ السياسي هو أحد أوجه العملة، التي يحمل وجهها الآخر مصالح استثمارية ضخمة وفساداً واحتكاراً. شركة الدخيلة، التي اقتنصها أحمد عز في صفقة مشبوهة بدعم من أسرة مبارك، تسيطر على أكثر من 71 في المئة من سوق حديد البناء في مصر. فبالإضافة إلى كونها الشركة الوحيدة التي تتمّ في داخلها عملية تصنيع الحديد في مراحلها الثلاث: تحويل الخام، والصهر، والدرفلة، فهي تقوم بتوريد الخامات المصنّعة إلى الشركات المصرية الأخرى التي تقتصر عملية التصنيع فيها في أغلب الحالات على الدرفلة فقط، وهذا ما يجعل أحمد عز متحكماً بشكل شبه احتكاري في السوق. وخلال السنوات الأخيرة، ومع ارتفاع أسعار النفط، دخلت مصر أموال استثمارية كثيرة من بلدان الخليج، توجّهت بشكل رئيسي باتجاه الاستثمار العقاري، ما أحدث رواجاً في هذا السوق وجذب ثروات كبيرة تجاهه. ولأن حديد البناء يكاد يكون الخامة الرئيسية في صناعة الإنشاءات إلى جوار الإسمنت، لذا يؤدّي أي ارتفاع في أسعاره إلى ارتفاع موازٍ في أسعار جميع مواد البناء الأخرى، وبالطبع إلى ارتفاع أسعار العقارات نفسها.
وخلال الأسبوع الأخير من كانون الأول الماضي، رفع أحمد عز أسعار منتجات شركته بمقدار حوالى 10 في المئة، ثمّ أعقبها برفع أسعاره مرّة أخرى مع مطلع العام الجديد بنحو 10 في المئة جديدة، ليصل سعر طن الحديد إلى ما يزيد على أربعة آلاف جنيه مصري، بينما كان سعره قبل الزيادة في حدود 3300 جنيه. ورغم ارتفاع أسعار الحديد عالمياً، إلا أن جميع الخبراء أكّدوا عدم وجود ما يبرّر قيام عز برفع أسعاره، ذلك لأن مصانع الدخيلة تحصل على الطاقة ـ وهي عنصر أساسي في صناعة الحديد ـ بأسعار حكومية مدعومة على عكس باقي المصانع في العالم.
وقد أدّى ارتفاع الأسعار هذا إلى ارتباك واسع في مجمل السوق بسبب الوضع شبه الاحتكاري لأحمد عز، فارتفعت أسعار الإسمنت بما يزيد على 10 في المئة، وارتفعت أسعار مواد البناء الأخرى بنحو 15 في المئة في المتوسّط. وستؤدي زيادة الأسعار هذه، بدون أدنى شك، إلى ارتفاع الأسعار في سوق العقارات في مصر بشكل واسع، وهو ما قد يُنذر بكارثة اقتصادية.
فالرواج الذي حدث في سوق العقارات خلال العامين الأخيرين، وما شهده من تدفّق في الاستثمارات والثروات، يمكن أن يتحوّل فجأة إلى كساد كبير، كما حدث ذلك من قبل في مصر في نهاية التسعينيات، وكما حدث أيضاً قبلها في بلدان جنوب شرق آسيا، مع ارتفاع الأسعار.
وإذا حدث ذلك، فمن المؤكّد أن الأزمة الاجتماعية المشتعلة في مصر اليوم ستزداد احتداماً، فسوق العقارات يستوعب منتجات أكثر من 250 صناعة، وهناك قطاع واسع من العمالة المصرية ـ وخاصة العمالة غير المنظّمة ـ تعيش على بيع قوّة عملها في هذا السوق. لقد جعل هذا الخطر بعضاً من كبار الرأسماليّين المصريّين، وحتى من منظّري الليبرالية الجديدة، يرفعون عقيرتهم مطالبين الدولة بالتدخّل لوقف هذا العبث.
هذا التزاوج بين النفوذ السياسي والاحتكار الاقتصادي الذي يمثّله أحمد عز، ومن ورائه جمال مبارك، أصبح الآن البؤرة المركزية للفساد والاستبداد في مصر، وصار يشير إلى مستقبل سيشهد المزيد من التردّي في مجمل الأوضاع، مع صعود جمال مبارك المتوقّع إلى سدّة الحكم. ولا تزال النضالات الاجتماعية المتصاعدة هي الرهان الوحيد المحتمل لكنس كل هذا العفن، وتحقيق التغيير.
* صحافي مصري