حسين سلامة *
جملة من اللفتات «الانطلاقية» لا بدّ من الإشارة إليها قبل الخوض في العناصر المفاهيمية للفكرة المراد طرحها في هذه المقالة.
أولاً: هذه المقالة ليست في معرض الردّ على مقالة الدكتور أسعد أبو خليل (الافتتان العربي بالاستشراق الإسرائيلي ــ الأخبار، 12/1/2008)، انطلاقاً من الاعتقاد بأن ما ورد فيها أكثر ما يقال فيه إنه «وجهة نظر»، وليس اتجاهاً فكرياً يحتاج إلى الردّ والتفنيد.
ثانياً: قد يكون ما دفع بأبو خليل إلى إسقاط رؤيته «الحادّة» على آليات التعاطي مع «النصّ الإسرائيلي» هو التقاطه المجتزأ لبعض المفردات المتصلة بظاهرة «الاشتغال ـــ أو الانشغال ـــ بالاستشراق الإسرائيلي»، دون ولوجه البيئة الداخلية للظاهرة، وهو ما أوقعه بخطأ إصدار الأحكام والتعميمات.
ثالثاً: في مقابل «التوصيف» الذي قدّمه أبو خليل للظاهرة، تحاول هذه المقالة تقديم رؤية مفاهيمية وبنيوية مغايرة، أساسها النظري يقوم على الاعتقاد بالحاجة، بل والضرورة، إلى تحوّل عملية «الاشتغال بالنص الإسرائيلي ـــ العبري تحديداً» إلى ظاهرة ثقافية فكرية واسعة الانتشار، أقلّه بين النخب الثقافية، والمهتمّين بشؤون المنطقة العربية والإسلامية وقضاياها، التي محورها ومركزها قضية «الصراع مع الوجود الإسرائيلي».
وعليه، فإنّه بخلاف الاتجاه الذي حاولت مقالة «الافتتان» أن تدعو إليه لجهة تجنّب ـــ أو على الأقل ـــ التخفيف من الاتصال بالنصّ الإسرائيلي، فإن هذه المقالة تحاول التأكيد على أهمية هذا الاتصال، بل وتدعو إلى توسيع مجالاته، والمساهمة في تعميق إمكانات التخصّص فيه...
ولكن كلّ ذلك يبقى مشروطاً بألّا يكون عشوائياً، ومن باب الترف الفكري، بل منطلقاً من فهم واضح للأسس التي يجب أن تقوم عليها المنظومة المعرفية للتعاطي بالشأن الإسرائيلي، من جهة، والبنية المنهجيّة التي يجب أن تتوافر لها من جهة ثانية.

في العقبات البحثيّة

معلوم أنه ليس بالأمر اليسير على من أراد أن يتعاطى «معرفياً» مع النصّ الإسرائيلي اقتحام مجال «الاجتماع السياسي» (السوسيو ـــ بولوتيكي) لما يسمّى «الدولة الإسرائيلية»، ذلك أن جملة من العقبات البحثية تقف حائلاً دون بلوغ المستوى النموذجي في هذا النوع من البحوث، وهي عقبات: منها ما هو متّصل بالمبنى المفاهيمي للباحث من جهة، وتوافر الأدوات المعرفية والبحثية لديه من جهة ثانية...
ومنها الآخر ما هو متّصل بالتركيب البنيوي للدولة الإسرائيلية بمستوياتها المتعدّدة اجتماعياً وسياسياً، وما تنطوي عليه من حراكات ثقافية وإعلامية.
فمن جهة الباحث (وتحديداً العربي)، فإن هناك مجموعة من «الحاجزيات» التي تقف بينه وبين دراسته للظاهرة من «داخل»، ولعلّ أهم تلك «الحاجزيات» أمران: حاجزية الأفكار والمواقف المسبّقة، وحاجزية اللغة.
ففي الأوّل، نعلم أننا ـــ وبفعل تاريخية الصراع العربي الإسرائيلي ـــ قد تربّينا على العداء للوجود الإسرائيلي في فلسطين، وهو ما استولد فينا شعوراً تلقائياً بمعاداة كل ما هو إسرائيلي، وأدخلنا في حالة من القطيعة المطلقة معه، وعلى كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وهو الأمر الذي أدى إلى تجهيل «آخرنا المعادي» ـــ بالمعنى المعرفي ـــ داخل منظوماتنا الفكرية، وسمح بتمرير رزمة من الأطروحات والمقولات التسطيحية والتبسيطية لشكل العدوّ الإسرائيلي ومضمونه.
أما في الأمر الثاني، فإن اللغة هي أداة إيصال واتصال بين المجموعات البشرية، نجدها في العلاقة مع الإسرائيلي قد أسقطت عن دورها الذي وجدت لأجله، وتحوّلت إلى حاجز مانع من الاتصال والإيصال «المعرفي» ـــ لا التطبيعي طبعاً ــــ بين المجتمع العربي من جهة، والمجتمع الإسرائيلي من جهة ثانية، نظراً لاعتماد الدولة اليهودية اللغة العبرية لغة رسمية لها، وهي لغة ـــ على الرغم من أنها شقيقة للغة العربية ـــ تبقى لغة غريبة عن العرب عموماً، واللبنانيّين خصوصاً.
لهذا، وبناءً على ما تقدّم، فإنه لم يكن مستغرباً ـــ وإن لم يكن مبرّراً ـــ أن يقع بعض الباحثين الذين تصدّوا للشأن الإسرائيلي في بعض المغالطات المفاهيمية والتطبيقية التي سبّبتها إمّا أفكارهم النمطية المسبّقة عن الإسرائيلي، وإمّا عدم معرفتهم بمنطقه ومنطوقه، وإمّا بسبب الاثنين معاً.
هذا من جهة ما هو متّصل بالباحث، أما بالنسبة إلى ما هو متّصل بالمبحوث فيه ــــ أي الكيان الإسرائيلي ومجتمعه وبُناه السياسية ــــ فإنّ العنصر الأساسي الأكثر تأثيراً في تشويش القراءة «السوسيو ــــ بولوتيكية» لذلك الاجتماع الكياني هو عنصر «الفرادة» ــــ أقلّه بالقياس إلى المجتمعات المجاورة له ــــ وهو عنصر متأتٍّ من تضافر وتفاعل عدة مؤثرات تاريخية واجتماعية وسياسية، حيث بالإمكان الوقوف عند بعض التمظهرات الخارجية لتلك «الفرادة» من خلال رصد أبرز جانبين من جوانب المجتمع الإسرائيلي:
الأوّل: وهو الجانب التاريخي ــــ الحضاري، حيث، وخلافاً للسُنَن التاريخية في تكوّن المجتمعات والشعوب، فإن المجتمع الإسرائيلي يعاني عقدة الانتساب الحضاري والتاريخي «المجزوء» للأرض التي استوطنها وأقام دولته الصهيونية عليها. وهو ما ترجمه باللجوء إلى مقولات توراتية تأويلية ومبتكرة، لم تستطع إخفاء القطع الحضاري ـــ التاريخي لمسافة تبعد زمنياً، بالمعنى التاريخي، أكثر من ألفي سنة.
أما الجانب الثاني، فهو طبيعة ونوعية التركيب الذي يتألّف منه المجتمع الإسرائيلي، والذي يمتاز بكونه أقرب إلى التجمع «التجاوري» لعيّنات من مجتمعات متعدّدة هاجرت من كل أقطار العالم بغية الاستيطان في فلسطين، ولم يجمع بينها، في ما مضى، لا الحضارة ولا التاريخ، ولا حتى اللغة التي كانت متداولة بينهم.
وعليه، فإنّ الكيان الإسرائيلي ومجتمعه، بمستوياته المتعدّدة، متفلّت في بعض جوانبه من المعايير العلمية للدراسات السوسيولوجية، وهو ما يجعل قراءته مشروطة بإنتاج بعض التوليفات المفاهيمية التي تتواءم مع خصوصية الفرادة التي يمتاز بها.
أن «نقرأ الإسرائيلي»... لا أن «نقرأ عن الإسرائيلي»
تأسيساً على «وعي» هذه الملاحظات المفاهيمية، معطوفاً على الشروط والمحدّدات المطلوبة في البحوث السياسية والاجتماعية، فإن العبرة المستفادة ممّا تقدّم يمكن استخلاصها من خلال التمييز ــــ في مجال دراسة الإسرائيلي وقراءته ــــ بين نمطين من أنماط «القراءة والتفكير»، أي بين «القراءة عن الإسرائيلي»، و«قراءة الإسرائيلي»، إذ إن الفرق بينهما ــــ من الناحيتين النظرية والتطبيقية ــــ كبير جداً.
ففي الحالة الأولى، تقدّم الصورة التي يجري تمثّلها عن الإسرائيلي، من وحي تلك القراءات، بآليات وأدوات معرفية منقوصة، تؤدي ــــ من بين أمور أخرى ــــ إلى إنتاج صورة غير دقيقة ــــ إن لم نقل مشوّهة ــــ عن الإسرائيلي، لأنها تأتي وفقاً للمحدّدات التي أرادها منتجها، ومحكومة بقبلياته المسبّقة عن «العدو الصهيوني الغاشم»، ومتساوقة مع المصلحة السياسية والأيديولوجية التي يهدف إلى تحقيقها، وهذا ــــ كما هو واضح ــــ مخالف، بالحدّ الأدنى، لشرط الموضوعية ــــ أو أقلّه الحياد ــــ كشرط من شروط الاشتغال بالعمل البحثي والتحليل السياسي.
ويمكن القول، استناداً إلى تجارب شخصية لعدد من المشتغلين بالشأن الإسرائيلي ومتابعيه، وفيما قرأوه لكتّاب عرب عن الإسرائيلي، بأن المكتبة العربية مليئة بمثل هذه القراءات التي يحتاج الكثير منها إلى إعادة نظر وتدقيق.
أما في الحالة الثانية، فإن القراءة يكون لها شكل مختلف، حيث يُترك «الآخر» ــــ وهو هنا الإسرائيلي في مجال بحثنا ــــ ليقدّم نفسه كما يريد هو، ولتتبلور صورته وفقاً للمنطوق الذي يعتمده هو، بلغته التي يعبّر بها عن ذاته، وبنصه المتشكّل داخل منظومته الفكرية والثقافية. وهذا يعني أن ترتسم المحدّدات العامة لصورة ذلك الآخر ــــ ولتصوّراته أيضاً عن الآخر المقابل ــــ بشكل متناسب ومتوافق مع المجرى الفكري والحضاري الذي يتبناه المجتمع ــــ ثقافياً وسلوكياً ــــ والذي ينتمي إليه ذلك الآخر.

في الآليات المعرفية لـ«قراءة الإسرائيلي»

هذه العبرة المستفادة في التمييز بين «القراءتين» يمكن تلمّس بعض من معالمها بين طيات العديد من البحوث والمقالات العلمية الجادة، التي حاولت «قراءة الإسرائيلي»، وتقديم تلك «القراءة» من داخل سياقات منهجية مختلفة، بل ومغايرة، وذلك من خلال: أوّلاً: تتبّع مُدخلات التشريب الفكري والثقافي التي يخضع لها الفرد اليهودي داخل المستويات المجتمعية المنفعل بها ومعها، والتي ينقاد لفعلها التلقيني والتوجيهي في عمليات البناء السياسي والثقافي والتربوي، والتي بدورها يكون لها الأثر الفاعل في إنتاج القوالب التنميطيّة في وعي الأنا (اليهودية الخاصة به) تجاه الآخر المغاير له.
هذا التتبّع لتلك المدخلات يستلزم ــــ من بين عدّة مستلزمات ــــ متابعة دائمة للمنتج الثقافي الإسرائيلي، سواء في ما يتعلق بحركة الإنتاج أو بحركة النشر، فضلاً عن متابعة الحراك الثقافي للشخصيات الفكرية الأكثر شهرة في الداخل الصهيوني، وخصوصاً تلك المختصة والمهتمة بالشؤون السياسية والفكرية والثقافية.
إضافة إلى ذلك، فإن ذلك التتبّع يستلزم أيضاً معرفة أكثر وأعمق ــــ من إجمالية للآليات والأدوات المستخدمة في العملية السياسية ــــ التربوية داخل البنية المجتمعية للدولة الإسرائيلية، مع ما يعنيه ذلك من اطلاع ومعرفة ومتابعة للمنتج البحثي السياسي والثقافي الإسرائيلي من جهة، ومعرفة بالبرامج والمناهج التعليمية وحتى المضامين الأساسية للكتب المدرسية المعتمدة في المستويات الدراسية المتعدّدة، من المراحل الأولى وصولاً إلى مستويات التعليم الجامعي، من جهة ثانية.
ثانياً: العمل على استكشاف معالم الصورة المرتكزة في الوعي الإسرائيلي عن «ذاته السياسية والعسكرية»، في مقابل «صورة الآخر»، وتحديداً الصورة السياسية للعالم العربي، والمُعبَّر عنها في المضمون الذي تقدمه به وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة والمتنوعة، من الصحف إلى شاشات التلفزة، انطلاقاً من أهمية المقارنة بين «ذاته» وبين ذلك «الآخر المغاير له»، وعلى المستويات الثلاثة: السياسية، والدينية، والأيديولوجية... وذلك بالاستناد إلى مجموعة من المقدّمات النظرية التي تعمل على توضيح المباني الفكرية المساهمة في إنتاج ـــ وإعادة إنتاج ـــ المفردات ذات الأبعاد المفهومية الداخلة بشكل مباشر في إنتاج تلك الصورة عن «الآخر» لدى الرأي العام الإسرائيلي...
وعملية استكشاف «الآخر» في الإعلام الإسرائيلي ــــ واستخراجها لاحقاً ــــ لم تكن لتحصل لولا التتبّع الدائم لما يبثّه التلفزيون الإسرائيلي وتنشره يومياً الصحف العبرية، حتى باتت المعرفة بالإعلام الإسرائيلي ــــ المؤسسات، والأفراد، والتقنيات، والأساليب ــــ جزء من منظومة (ألف باء) المعرفة التفصيليّة الخاصة بدولة إسرائيل، وخصوصاً أنه في تقويم «النص الإعلامي» لا يكفي معرفة ما قيل، بل لا بدّ من تحصيل المعرفة بمن قال.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن «الأداة المعرفية» الأساسية التي تفتح الطريق لتحصيل تلك المعارف وامتلاكها، هي «اللغة العبرية»، حيث لا بدّ من العمل على تعلّمها والتعرّف على خصائصها وقواعدها، لأنها وحدها بوابة العبور الضرورية والإجبارية التي منها يكون الدخول إلى وعي الإسرائيلي وعقله.

«الاهتمام» بالعدو، لا «الافتتان» به

إنّ الاستخدام الدقيق لتلك الآليات المعرفية في «قراءة الإسرائيلي»، هو بمثابة المميّز الأساسي لتلك القراءة عن غيرها مما يسمى «قراءة»، مع أنها ـــ في الغالب ـــ لا تتعدّى إطار النقل والترجمة... وخصوصاً إذا ما استطاعت «القراءة الواعية» المنطلقة من «الاهتمام» بالشأن الإسرائيلي، لا «الافتتان» به، الكشف عن المحرّكات «النفسية» و«العقلية» المنتجة للصور المقولبة في الوعي الإسرائيلي داخل المجالين السياسي والاجتماعي، الخاص والمحيط به، وهي محرّكات يمكن اعتبارها بمثابة الرافعة التي تقوم عليها عملية بلورة «الوعي الإسرائيلي» وإنتاجه، وتحديداً باستخدام الوسائل الإعلامية، التي غالباً ما تجهد ـــ من خلال ما تبثّه وتنشره ـــ للتركيز على ثلاثة محرّكات
أساسية:
أولها وأبرزها، هو الهلع الوجودي المتمركز في اللاوعي اليهودي، والمتوارث في مسالك البنى المجتمعيّة للمجتمع الإسرائيلي إلى وقتنا الراهن.
وثانيها، هو نمطية التربية على العدوّ الإسرائيلي، التي تقدّم عن الآخر المعادي صورته المتشابهة (إلى حدّ التوحّد) سواء أكان في الشكل أم في المضمون، وخصوصاً حينما تختلط الاسترجاعات الأيديولوجية بالاعتبارات والمصالح السياسية في تكوين صورته.
أمّا المحرّك الثالث، فهو المحرك «السياسي» الذي يجري تحديده وفقاً للمصلحة العليا للدولة العبرية.
هذه المحركات الأساسية، هي التي تؤلّف البنية التحتية ــــ بالمعنى المفاهيمي ــــ للإطار التطبيقي الذي تتمّ من خلاله قراءة المنتج الإعلامي الإسرائيلي، والتي يمكن باستخدامها معرفياً تظهير المشهد السياسي والاجتماعي من داخل النص الإعلامي الإسرائيلي.
* استاذ جامعي