strong> مصطفى بسيوني *
في أحد أيام أيلول 2007، أثناء إضراب عمال غزل المحلة، عادت مجموعة من قادة الإضراب إلى الشركة بعد تعرّضهم للتهديد من جانب الأمن والتحقيق معهم في النيابة بتهمة التحريض. وكان استقبال العمّال المضربين لهم يليق بأبطال. ورغم الاستقبال الحافل، وعندما عرض العائدون على العمّال فضّ الإضراب مقابل تنفيذ جزء من المطالب، رفض هؤلاء بحزم وأعلنوا استمرار الإضراب، فما كان من القادة سوى النزول عند رأي الأغلبية.
اعتصام موظّفي الضرائب العقارية منذ أسابيع قليلة، شهد مواقف مماثلة. ففي أحد أيام الاعتصام، عادت اللجنة العليا للإضراب بعد مفاوضات مع وزير المال إلى مقرّ الاعتصام، أمام مبنى مجلس الوزراء، لتعلن ما توصّلت إليه مع الوزير، وكان عبارة عن تعهّد شفهي منه بتنفيذ المطالب على مراحل بشرط فضّ الاعتصام أوّلاً. العرض سبّب انقساماً بين المعتصمين بين موافق ورافض، فما كان من لجنة قيادة الإضراب إلا أن أجّلت اتخاذ القرار لليوم التالي حتى تتيح فرصة كافية للتشاور. وفي اليوم التالي، جرى التصويت المباشر على القرار عن طريق الجلوس على الأرض للاستمرار في الاعتصام أو الوقوف للموافقة على إنهائه، وكانت الأغلبية مع الاستمرار في الاعتصام، وبالفعل استمرّ فيه الجميع بمن فيهم الأقلية التي صوّتت لموقف معاكس.
مشهدان من الحركات الاحتجاجية التي حفلت مصر بها أخيراً عبّرا عن الطريقة التي تمارس بها الجماهير المصرية ديموقراطيتها وتتّخذ قراراتها!
لقد عانت التجربة الديموقراطية المصرية تشوّهات كثيرة، جعلتها أبعد ما تكون عن هذا المفهوم: منذ نشأتها في ظلّ الاستعمار والملكية قبل 1952، ثمّ تأجيل نظام عبد الناصر لها للتفرغ للقضية الوطنية، ثم استخدام السادات لها لمواجهة بقايا الناصرية، ثمّ تكريس نظام مبارك للتعددية الشكلية في ظلّ تطبيق قانون الطوارئ لأكثر من ربع قرن.
على خلفية هذا التاريخ المشوّه للديموقراطية، ردّ رئيس الوزراء أحمد نظيف على الضغوط الغربية الممارسة على النظام، بأن الشعب المصري ليس ناضجاً بعد لممارسة الديموقراطية، ملمّحاً إلى أن إطلاقها الفوري قد يؤدّي إلى الفوضى أو صعود الإسلاميين. وبينما كان نظيف يطلق تصريحاته الأبوية، كان المصريون يقدّمون شواهد في الممارسة الديموقراطية. فخلال كل الاحتجاجات التي ظهرت في مصر في السنوات الأخيرة، لم يبادر المحتجّون إلى العنف أو التخريب. وفي مشهد لم يظهر في مصر لفترة طويلة، احتلّ أكثر من 20 ألف متظاهر أكبر ميادين العاصمة في 20 آذار 2003 للاحتجاج على غزو العراق. وعلى مدى يوم كامل، لم يقع حادث تخريب واحد من المتظاهرين. وكذلك الحال بالنسبة لكل الإضرابات العمالية التي شهدتها مصر أخيراً وشارك فيها مئات الآلاف من العمّال. كان هؤلاء يكوّنون مجموعات لحراسة المعدّات وحمايتها خشية اتهامهم بالتخريب.
والحقيقة أن الحركة الاحتجاجية نفسها هي التعبير الأكبر عن نضج ممارسة الديموقراطية. فالقدرة على انتزاع حق الإضراب والاعتصام والتظاهر للتعبير عن الرأي أو المطالبة بحقّ، في ظل قانون الطوارئ وغياب الديموقراطية، هي أرقى أنواع الممارسة. لكن الاحتجاجات، العمّالية منها خاصة، تجاوزت التوقّعات عندما استطاعت تخطّي الكثير من المفاهيم الرجعية المترسّخة في المجتمع، وخاصة في ما يتعلق بالمرأة والأقباط. فقد ظهر دور المرأة بقوّة في الاحتجاجات العمّالية والاجتماعية عموماً. وفي عدّة مواقع أدّت العاملات دوراً قيادياً في الحركة، مثل شركة غزل المحلة، وشركة الحناوي للمعسّل، وشركة المنصورة ـــــ إسبانيا للملابس، وتحرّك موظفي الضرائب العقارية.
وكان مبيت موظفات الضرائب العقارية وعاملات المنصورة ـــــ إسبانيا في مواقع الاعتصام يمثل تحدياً حقيقياً. وعندما قال أحد المسؤولين إن العاملات اللاتي يبتن في الاعتصام غير محترمات، رددن عليه بأن المسؤولين الذين ينهبون حقوق العمال أقل احتراماً! ورغم المناخ الطائفي في مصر، ظهر توحّد حقيقي بين المسلمين والأقباط خلال الاحتجاجات العمالية والاجتماعية. وأدّى هؤلاء الأخيرون إلى جانب رفاقهم من المسلمين أدواراً قيادية في احتجاجات عمّال سكّة الحديد والضرائب العقارية، دون ظهور أية حساسيات طائفية. وهكذا، ومن دون ترديد شعارات رنانة حول «دور المرأة» و«الوحدة الوطنية»... عكست الحركة العمّالية والاجتماعية وعياً متقدّماً وممارسة راقية في ما يتعلق بالنساء والأقباط.
ثم إنّ الطريقة التي اختارت بها الحركات الاحتجاجية ممثّليها وقادتها كانت فريدة. ففي اعتصام الضرائب العقارية، حيث ينتشر الموظفون الذين يبلغ عددهم 55 ألف موظّف وموظفة على مستوى الجمهورية، ولا يعرف بعضهم بعضاً، تم تكوين لجنة لقيادة الحركة بمندوب من كلّ محافظة يمكن استبداله بآخر في أي وقت. ولم تكن اللجنة مفوضة اتخاذ قرارات، لكنها كانت تقدّم مقترحاتها للموظّفين لاتخاذ قرار جماعي. وفي أغلب التحرّكات التي شهدتها مصر، كانت القيادة عبارة عن مجموعة واسعة يتبدّل أفرادها من وقت لآخر حسب مسار الحركة وصعود قادة جدد، ولم تكن الأدوار القيادية تعني امتيازاً من أي نوع، بل كانت تعني جهداً وتضحية.
وفي كل الاحتجاجات، كانت أمور الإعاشة تجري دائماً بشفافية، وبالتساوي بين الجميع بغضّ النظر عن أي تفاوت في الإمكانات. وكما خلال الاحتجاجات العمالية والاجتماعية، كذلك عند إنهائها، وسواء بخصوص اتخاذ القرارات أو بشأن إدارة الشؤون اليومية، كانت الممارسة الديموقراطية تسير على مستوى راق. والأهم أن هذا تحقّق في ظلّ ضغوط أمنية، ودون بروز أي لحظة من المزاعم أو المزايدات.
وبينما كانت الحركة الاجتماعية المصرية تثبت كل يوم أنها قادرة على تقديم أوراق اعتمادها حركةً ديموقراطية بامتياز، لم تجد من يستحقّ تسلم أوراق الاعتماد منها! كان النظام المصري الذي لم ير الشعب مستعدّاً للديموقراطية بعد، يمارس ديموقراطيته الخاصة جداً. فعندما أصدر القضاء حكماً بتنظيم تظاهرة في ميدان السيدة عائشة في القاهرة للاحتجاج على غزو العراق في 2003، ردّت السلطة بإطلاق أرباب السوابق والمسجّلين مجرمين خطرين في أقسام الشرطة لمنع المتظاهرين بالقوّة.
وعندما أعلن النظام أنّه سيعدّل الدستور بخصوص حقّ الترشح لرئاسة الجمهورية، جاء بمادّة تضع قيوداً عليه بحيث تنتفي أية منافسة حقيقية. وعندما تظاهر نشطاء سياسيون ضدّ ذلك التعديل، قمعتهم السلطة بوحشية وصلت إلى حدّ هتك عرض المتظاهرات في الشارع. وعندما ادعى النظام أنه يتيح الفرصة للمنافسة على مقعد رئاسة الجمهورية، حبس أيمن نور، رئيس حزب الغد الليبرالي، وهو المنافس الوحيد لحسني مبارك في تلك الانتخابات، بعد تلفيق قضية تزوير ضدّه، ورغم الفارق الكبير في الأصوات، كأنه يعاقب من يجرؤ على ترشيح نفسه.
الانتخابات التشريعية هي الأخرى نموذجية لهذه الجهة. فقد منع الناخبون من الوصول للجان التصويت، وجاءت النتائج النهائية عكس نتائج الفرز، بشهادة القضاة المشرفين على العملية. وفي الانتخابات الأخيرة وحدها، لقي 14 مواطناً مصرعهم نتيجة العنف الذي مارسته السلطة. وحملت الانتخابات النقابية العمّالية هي الأخرى البصمة «الديموقراطية» تفسها. لكن المنع لم يكن للناخبين بل للمرشحين أنفسهم، فقد عمدت السلطات بأجهزتها المختلفة إلى منع المرشحين غير الموالين للحكومة واستبعادهم.
ورغم حديثها الدائم عن أزهى عصور الديموقراطية وعن حرية الرأي والتعبير، فقد أحالت السلطات أربعة رؤساء تحرير صحف مستقلة دفعة واحدة للمحاكمة في قضايا نشر.
وللأسف لم تكن أحزاب المعارضة أفضل كثيراً من النظام. فالأحزاب التي اتهمته بالاستبداد وكانت محقّة، وطالبت بالديموقراطية، كانت هي الأخرى تعاني من تربّع الزعامات المزمنة على قيادتها ومن قيادات معزولة عن قواعدها ومن الصراعات الداخلية، فضلاً عن عزلتها جميعاً عن الجماهير.
بعد مماطلة طوية من النظام حول الحريات، وبعد استهلاك مصطلح «هامش الديموقراطية» إلى آخر قطرة فيه، فرضت الجماهير ديموقراطيتها الخاصة ودون استئذان من أحد، وضربت للجميع مثلاً أعلى في ممارسة الحرية وتطبيقها دون ضجيج. وأكّدت أنها الوحيدة التي تستحقّ الديموقراطية في مصر، وأنها الأنضج لممارستها.
* صحافي مصري