علي شهاب *
كانت البوارج الأميركية الثلاث؛ المدمّرة «يو اس اس هوبر» والفرقاطة «يو اس اس انغرام» والطرّاد «بورت رويال»، في مهمّة بحث عن بحّار أميركي اختفى قبل أيام من على متن البارجة الأولى، حين وقعت «المواجهة» مع الزوارق الإيرانية السريعة في السابع من الشهر الجاري.
وصلت الزوارق الإيرانية إلى مسافة تقلّ عن 300 متر من البوارج الأميركيّة، من دون أن تعمد الأخيرة إلى فتح نيرانها، مع أنه بحسب قواعد الاشتباك العسكرية المرعية الإجراء في البحرية الأميركية، كانت القطع الثلاث تملك صلاحية إطلاق النار على الزوارق الإيرانية لكونها «في حالة دفاع عن النفس»، وخاصة أنّ الرواية الأميركية أشارت إلى سماع نداء صادر عن زورق إيراني هدّد بتفجير البوارج الأميركية.
في الوقت نفسه، وصول الزوارق إلى هذه المسافة من القرب يعزّز قدرتها العالية على المناورة، ويمثّل مشكلة حقيقية للبوارج الأميركية الأكبر حجماً والأبطأ حركة، وبالتالي لا يمكن إسقاط فرضية أن الأمر برمّته كان عبارة عن «تعليمة» إيرانية؛ فرضية تعزّزها الظروف السياسية في المنطقة، فضلاً عن الوقائع الميدانية التي تشير إلى أن الزوارق الخمسة انقسمت إلى صفّين وحاصرت البوارج الثلاث.
في أي حال، إن عدم اتخاذ البحرية الأميركية قراراً بإطلاق النار يعني واحداً من أمرين:
1ـــــ أن المسؤول الأميركي عن قرار إطلاق النار فشل في اتخاذ هذا القرار لاعتبارات ميدانية وسياسية.
2ـــــ أن حجم الخطر المزعوم مبالغ فيه، أو أن حجم الحادثة لم يصل أصلاً إلى مستوى التهديد.
الاحتمال الثاني يعزّزه إعلان البحرية الأميركية، بعد يومين، أن النداء اللاسلكي الذي هدّد بتفجير البوارج الأميركية «قد لا يكون صادراً عن الزوارق الإيرانية، بل عن مصدر على اليابسة»! (بالمناسبة الترتيبات وعمليات الرصد والتنسيق بين السفن الدولية في مضيق هرمز هي من بين الأعلى دقّة في العالم).
خطوة البحرية الأميركية (الإعلان الثاني) تبدو مشابهة لتقرير الاستخبارات عن البرنامج النووي الإيراني من حيث عكسها لرغبة عسكرية أميركية بعدم التورّط في مواجهة مع إيران في مقابل إرادة سياسية أميركية بجرّ المؤسّسة العسكرية والأمنية في واشنطن إلى الحرب.
في جميع الأحوال، السؤال المطروح حالياً هو: لماذا تبالغ الولايات المتحدة في تقديم الحادثة إلى هذا الحد؟
في القراءة السياسية للحادثة، تبرز تغطية شبكة «سي أن أن»، التي كانت أول من أورد الخبر، بتركيزها على أن الحرس الثوري هو المسؤول عن الزوارق الإيرانية الخمسة، علماً بأن قائد البحرية الأميركية مايك مولين، وهو ـــــ في المناسبة ـــــ المسؤول السابق عن العمليات البحرية قبالة السواحل الإيرانية، رأى منذ شهرين أن «تسلم الحرس الثوري مسؤولية الزوارق والقطع البحرية الإيرانية في مياه الخليج مؤشّر استراتيجي»، فضلاً عما تعنيه هذه الخطوة، إذا ما صحّت، في «اللاوعي» الأميركي، بالنظر إلى أن الحرس الثوري متهم بدعم نشاطات «إرهابية».
إن الظروف المحيطة بالحادثة برمّتها تفترض استنتاجات كثيرة وتتزامن مع الوقائع التالية:
ـــــ بدء السجال الداخلي الإيراني مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، وحاجة ما يسمّى التيار المحافظ، الذي يمثله الرئيس محمود أحمدي نجاد، إلى تحقيق إنجاز يرد فيه على خصومه السياسيين.
ـــــ زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى الخليج وحديثه المتكرر عن الخطر الإيراني.
ـــــ تواصل عملية التفاوض الأميركي ـــــ الإيراني خلف الكواليس بشأن العراق ومواضيع أخرى. في هذا المجال تجدر الإشارة إلى تصريح لدبلوماسي في الخارجية الإيرانية، صباح يوم الحادثة، أعلن فيه أن طهران تنتظر ردّ واشنطن على شروط إيران لعقد محادثات جديدة بشأن الوضع الأمني في العراق.
ولمزيد من فهم حقيقة ما جرى في 7 كانون الثاني 2008 في مضيق هرمز، لا بدّ من استحضار تفاصيل حادثة مماثلة جرت بين البحريّتين الإيرانية والبريطانية وانتهت باحتجاز 15 بحّاراً بريطانياً أواخر شهر أيار الماضي.
يومها لم تتردّد طهران في اتهام البريطانيّين بانتهاك المياه الإقليمية. (في المقابل، تتعاطى الدبلوماسية الإيرانية مع الحادث الأخير مع الأميركيين وكأن شيئاً لم يقع).
علماً بأن أجهزة الرادار الإيرانية رصدت دخول البحارة البريطانيّين 10 مرات إلى المياه الإقليمية من قبل.
تتفاوت التفسيرات لاحتجاز البحارة (والتحرش بالسفن الأميركية) بين «الاستفزاز» المرتبط بالملف النووي، و«اللسعة» الأميركية المفترضة في آذار المقبل.
لكن إيران تصرّفت بشكل مغاير لما هو متوقّع: لم يذكر أي مسؤول إيراني كلمة «نووي» أو «حرب» في معرض تعليقه على الحادثتين في هرمز. حتى اليوم، تتوعّد تصريحات رموز النظام، بدءاً من المرشد الأعلى آية الله السيد علي الخامنئي إلى إمام الجمعة في أبعد قرية نائية في إيران، «الأعداء» بردّ شامل «مفاجئ» «من خارج القانون» «في العالم كلّه» على أي ضربة عسكريةماذا تغيّر إذاً؟ ما هي الرسالة التي يريد الإيرانيون إيصالها؟
لا بد من الإشارة إلى صمت طهران «المطبق» إزاء الأنباء عن عمليات «اختفاء» مسؤوليها العسكريين في المنطقة في تركيا والعراق والإمارات. رحى حرب استخبارية على درجة عالية من السرية تدور في الشرق الأوسط، على خلفية صراع الإرادات: تضرب واشنطن وحلفاءها في أنقرة (المتعاونة) ودبي (ميدان عمليات أمنية) وأربيل (الصديق الكردي). في المقابل، تردّ طهران في نقطة «المقتل»؛ مياه الخليج، وتحديداً مضيق «هرمز» الذي تمرّ عبره 40 في المئة من إمدادات العالم النفطية.
بشكل أو بآخر، يعني الإيرانيون توجيه جملة رسائل يمكن اختصارها بالفرضيات التالية:
ـــــ كان البحّارة البريطانيّون يحاولون، على ما يبدو، ملاحقة زورق إيراني «مشبوه» متّجه إلى شطّ العرب، إلى العراق. طارد البريطانيون الزورق «الطُعم»، حتى ما بعد المياه الإقليمية، حيث كان الإيرانيون بالانتظار. (صمت البحرية الإيرانية عن الخروق العشرة السابقة يعزّز هذه الفرضية).
الرسالة الأولى إذاً هي أن القطع البحرية «المعادية» تحت مرمى الرادارات والنيران الإيرانية، بل إن إيران هي من تحدد ساحة المعركة.
ـــــ عدد البحارة المحتجزين 15. كان بمقدور السلطات الإيرانية مصادرة أسلحتهم وإخلاء سبيلهم بعد التحقيق معهم، وإبقاء القضية تحت سقف الضجّة الإعلامية (حصل أن أخلى الإيرانيون سبيل بحارة أميركيين قبل فترة)، لكن السيناريو المتّبع حتى اللحظة يوحي أن محمود أحمدي نجاد استغرق وقتاً طويلاً في أداء صلاة الشكر على هذا الصيد الثمين! إن من يملك القدرة على احتجاز هذا العدد من الجنود، بهذه السرعة، في هذه المنطقة (والقدرة على المناورة السريعة في مواجهة الأسطول الأميركي)، يملك القدرة بالتأكيد على فعل الشيء نفسه، وبحجم أكبر، في العراق وأفغانستان، وربما... ربما في ساحات أخرى يعرفها الأميركيون والبريطانيون جيداً.
ـــــ لمّحت معلومات استخباريّة، نقلتها أولاً مصادر إعلامية إسرائيلية، إلى أن بريطانيا ضالعة في اختطاف الجنرال الإيراني علي رضا عسكري. وبالتالي، فإن احتجاز 15 بحّاراً بريطانياً يبدو رهاناً صائباً على «عملة يمكن مبادلتها»، بحسب تعبير المعهد الفرنسي للتحليل الاستراتيجي.
ليست الواقعة، قطعاً، دليلاً على صبر الإيرانيين: ببساطة، خسرت لندن مواجهة «أمنية»؛ ردّت طهران على قضية «المخطوف» علي رضا عسكري، وعسكريين أخرين، بـ«فخ» محكم في مياه الخليج.
إذاً يبدو «استعراض القوة» الإيرانية في مياه الخليج رسالة واضحة إلى جميع الأطراف؛ ففي مطلع الثمانينيات، أرسل الرئيس الاميركي رونالد ريغان وحدة خاصة جوية لإنقاذ الرهائن في السفارة الأميركية في طهران. يومها، تحطّمت الطائرتان فوق الرمال الحارة لصحراء «طوس» الإيرانية. وخرج الإمام الخميني ليعلن أن «الرمال والهواء هم جند الله». كانت الحادثة سبباً رئيسياً في سقوط ريغان المدوّي.
هذه المرة أيضاً، الإيرانيّون جاهزون لاغتنام الفرصة: أي خطوة أميركية ناقصة، قد تعني نهاية جورج بوش، الذي نصّب نفسه حارساً للخليج، سياسيّاً.
هل فهمت لندن وواشنطن الرسالة؟ أم تسيران في خيارات تاريخية «غير موفّقة» في هذه المنطقة من العالم؟
بالنسبة إلى إيران، تؤدي عوامل التاريخ والحضارة والجغرافيا دوراً رئيسياً في استجماع القدرة على ممارسة سياسة «الذبح بالقطنة»؛ تكسب طهران الوقت، كلّما طالت فصول الأزمة والنقاش حول ملفّها النووي و«الإرهابي».
المفارقة، بالنسبة إلى الأميركيّين هذه المرّة، في أن المواجهة هي مع خصم يتقن فن الحرب الباردة.
* صحافي لبناني