عبدالله حرمة الله *
عودة اللاجئين في السنغال من الزنوج الموريتانيّين موضوع في غاية الراهنية والتفجّر. ورغم أن السلطات الموريتانية نظّمت في شهر تشرين الثاني الماضي أيّاماً تشاورية بشأن القضية، شاركت في إنعاشها مختلف الفاعليات السياسية والمدنية، إلا أن النتائج لم تأت بالحسم المطلوب، وبقي الملف مفتوحاً ويمثل تحدياً كبيراً أمام الحكم الجديد.
فبعدما أدلى كلّ من الأطراف المشاركة دلوه طيلة النقاش، تحقّق إجماع على حلّ توافقي للترتيبات المادية ــ على الأقل ــ لعودة اللاجئين وعملية إدماجهم في الحياة النشطة.
لكن المشاركين تعثّروا حيال إيجاد حلّ إجمالي لما عُرف بالإرث الإنساني. إذ كُلّفت لجنة انبثقت عن هذه الأيام التشاورية إعداد تقرير يحمل اقتراحات عملية لتسوية نهائية لملف انتهاكات حقوق الإنسان. ورغم «الاعتراف» بالتجاوزات المرتكبة ضدّ الزنوج في ظلّ حكم ولد الطائع، فما زالت الطبقة السياسية مختلفة بشأن «التسوية» المستقبلية لهذه القضية الشائكة. فما بين التشكيك في دافع المجازر والدعاوى الانتقامية، يبدو حلم المصالحة الوطنية مستعصياً في ظلّ أجواء لا تعتمد ثنائية التسامح والعقاب الرمزي.
مهما كانت إرادة السلطات الجديدة في طيّ هذه الصفحة المظلمة من تاريخ موريتانيا الحديثة، ستعترض سبيلها عوائق بنيوية للمجتمع الموريتاني بطائفتيه الزنجية والعربية. كما أن طبيعة التعاطي السياسي مع القضية العرقية تبقى حجر عثرة أمام أي محاولة امتصاص نهائية للاحتقان الناجم عن هاجس التمثيل و«التقاسم» الفعلي للسلطة. وبين البنيوي والسياسي، تقف الحلول القانونية عاجزة عن تجاوز الثأر كمنطق ما زال قائماً، على مستوى العقليات على الأقل.

الصراع من أجل السلطة: عود على بدء

يعود تاريخ الصراع على السلطة في موريتانيا، ما بين عنصريها العربي والزنجي، إلى ما قبل إنشاء الدولة، حيث تبنّت النخبة الزنجية مشروع دولة أفريقية فقط، فيما سعت النخبة العربية إلى تشييد دولة عربية. الأمر الذي حدا بالمستعمر الفرنسي إلى فرض التسمية الحالية، الجمهورية الإسلامية الموريتانية، باعتبار اعتناق السكّان للدين الإسلامي، وتأجيلاً لإشكالية الهوية التي رأت فرنسا أنّها مهمة على النخبة الموريتانية حسمها لاحقاً، ما جعل مسيرة تشييد الدولة الحديثة في موريتانيا مرتبطة بصراع أزلي على السلطة، تجاوز مرحلة الاحتقان السياسي إلى المواجهة المسلّحة في أكثر من مرّة. على خلفية هذا الصراع، تمكّنت الحركات القومية العربية من تأليب الرأي العام ضدّ ما سمّته آنذاك «الأجانب» من الزنوج المتربّصين «بالبوّابة الغربية» للوطن العربي، ما جعل الأغلبية العربية تساند النظام العسكري في حملته ضدّ الزنوج، حتى إن الضباط العرب أصبحوا يتفاخرون بقتل وتعذيب أكبر قدر ممكن منهم! كما أنّ «اللوبيات» المتنفّذة التي أنشأها الطرف الآخر في السنغال، أي «الهالبولار»، تمكّنت من تحريض النظام والشعب السنغاليّين ضدّ الجالية العربية المقيمة في تلك البلاد، والتمادي في استفزاز السلطات الموريتانية التي نُعتت بأبشع الأوصاف.

حقيقة الإرث الإنساني

ما بين التشكيك والمزايدة، يمكن أن ندرج في ملفّ الإرث الإنساني مجموعة من التجاوزات المتكرّرة على مدى عمر الدولة الموريتانية، التي كان كل الموريتانيين ضحية لها. وهي تراوح ما بين جرائم التعذيب والإعدامات التي أعقبت محاكمات صورية، والاغتيالات في السجون وعمليات الفصل الجماعية من العمل للمجموعات القبلية والعرقية والسياسية. ورغم طول اللائحة، فالمشكّكون والمبالغون معاً يتّفقون على هذا التوصيف كحدّ أدنى، وإن كانت أبشع هذه التجاوزات وأكثرها خطورة تلك التي ارتُكبت ضدّ المدنيّين والعسكريّين من الزنوج سنة 1990، بعدما انتهزت المجموعة العربية المسيطرة آنذاك المحاولة الانقلابية التي قام بها بعض الضباط الزنوج سنة 1987، والصراع الحدودي مع السنغال سنة 1989.
وحظي النظام العسكري في تلك الفترة بتأييد جماهيري من العرب الموريتانيين، بفعل الدعاية التي وُفّقت في إقناع الرأي العام بأنّ الوجود العربي بات مهدّداً من طرف مجموعة «الهالبولار» المتطرّفة في دكار، التي ثبت دعمها للمحاولة الانقلابية. حتى إنّ مجمل الطبقة السياسية امتثلت الصمت المتواطئ أمام عمليات الاغتيال والترحيل الجماعي التي ذهب ضحيتها الزنوج. ويبقى مصيرهم كفئة مستهدفة من أخطر الجرائم المرتكبة طيلة فترة الحكم العسكري، بسبب بعده الإقصائي الذي يشبه في تفاصيله مشروع إبادة.

موضة حقوق الإنسان

منذ بداية المرحلة الانتقالية التي عاشتها موريتانيا في الثالث من آب 2005، وما حملته من إجماع على إدانة نظام ولد الطائع الدكتاتوري، أصبح التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان موضة يتبنّاها كلّ من أراد التطفّل على الشأن العام، حتى من بين منظّري المجازر الجماعية والترحيل القسري. إلا أنّ السلطات الجديدة فاجأت الطبقة السياسية بفتح ملفّ الإرث الإنساني للمسألة الزنجية بهذه السرعة، والشروع في إيجاد حلول تلزم كلّ المعنيّين بهذا الملفّ أثناء المرحلة الانتقالية. وقد انقسمت الآراء ما بين متبنٍّ لتعويض مادّي لذوي الضحايا مقابل التنازل عن أي متابعة محتملة للآمرين والمنفّذين معاً، وأصوات أخرى، وهي الأكثرية، سياسيّاً على الأقلّ، بقيت متمسّكة بضرورة إحقاق العدالة أوّلاً ثمّ الرجوع لنقاش حلّ سياسي يشمل بعض الأسباب المباشرة لما حدث، كنوع من إثارة ما تسمّيه الأقليات العرقية في موريتانيا تقاسماً عادلاً للسلطة. وقد طغى على التداول الأولي لهذا الملفّ أثناء الأيام التشاوريّة تباين بين الفرقاء السياسيّين، يحجب الأمل بقرب طلوع فجر المصالحة الوطنية، ولو أن تشكيلة اللجان المشرفة على إدارة الورش مكّنت من تفادي التطاحن ثم القطيعة بين مختلف التيارات.
وهكذا، آلت خلاصات حلقات التشاور هذه إلى معبر يبدو مرناً، فوُضعت السيناريوهات الثلاثة الآتية:
ـ إنشاء لجنة مستقلّة مكوّنة من بعض الشخصيات «الموقرة»، تتكلّف إيجاد حلّ يرضي الجميع.
ـ لجنة وطنية يعيّن أعضاؤها من طرف السلطات العمومية.
ـ اعتماد أحد المقترحين وفتحه لمشاركة ممثّلي الضحايا ومنظّمات الدفاع عن حقوق الإنسان. ومهما ستكون الطريقة المعتمدة، فينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار ضرورة صيانة الذاكرة الجمعية، وطلب العفو من طرف الدولة، وكذلك إحقاق العدالة والتعويض المادّي لذوي الضحايا، وخصوصاً أن صعوبة وفاق الشركاء تنذر باحتمال إيداع مشروع التسوية في دواليب لجنة وزارية قد تعبث به مقرّراتها وتعميماتها الإدارية، ما يجعل تدخّل رئيس الجمهورية ضرورياً، بوصفه حامياً للدستور من ناحية، وصاحب المبادرة في فتح هذا الملف مع التعهّد بإيجاد حل نهائي له، من ناحية ثانية.

مسؤوليّة الدولة

يُعدّ دور الدولة الموريتانية أساسياً في أي محاولة لتصفية هذا الإرث الإنساني، من خلال تحمّلها لمسؤولية ما حدث. فإضافة إلى تصرف الجيش الموريتاني إبان الأحداث في مناطق وجود الزنوج كقوات احتلال، ناهباً الممتلكات ومدمّراً المدن، شارك بعض وجهاء الزنوج أنفسهم في نهب ممتلكات بني جلدتهم بعدما وشوا بهم لدى السلطات المركزية، الأمر الذي أخرج القضية من إطار النزاع العرقي إلى تهافت وحشي على نهب من رأت السلطات أنّهم «أعداء للأمّة». وكذلك، فقد تمّت المجازر وعمليات التعذيب التي ارتكبها الضباط العرب تحت مظلّة الدولة، التي كانت مجبرة على التضامن المتواطئ مع منفّذيها بحكم تمثيلهم لجماعات قبليّة لن تتنازل أبداً عن أبطال هويّتها المسترجعة! ما جعل السلطة ترفض عدّة مرّات التحقيق في الجرائم الأولى التي ارتكبت داخل المؤسّسة العسكرية، حتى اتسعت دائرة المسؤوليّة لتشمل كل القبائل العربية.

حتمية الحل السياسي!

لقد حرص النظام العسكري السابق على إجهاض محاولات التسوية الفردية من طرف ذوي الضحايا، برفض القضاء الموريتاني تسجيل دعاوي الأرامل والأيتام ضدّ المؤسّسة العسكرية، ما جعلهم يلجأون لاحقاً إلى القضاء الدولي، حيث رفعت في أوروبا وأميركا دعاوي ضدّ الدولة الموريتانية لجرائم التعذيب والاغتيالات الجماعية. وقد حمل تدويل القضية الوطنية هذا «تلطيخاً» لسمعة موريتانيا وتشويشاً على نشاط دبلوماسيتها التي عانت الإقصاء في المحافل الدولية. واليوم، فإن الأصوات المنادية بحلّ قضائي بحت لا تخلو من مزايدة قد تحيي الصراع من جديد، بتجاهلها الحلّ السياسي بوصفه أكثر إنصافاً لموريتانيا والموريتانيين من كلّ الأعراق.
لقد قطعت الدولة الموريتانية خطوة في تمهيد الطريق لحلّ سياسي، عندما عبّر رئيس الجمهورية الحالي عن أسفه لما حدث، وفهمه للألم الذي يعتصر قلوب ذوي الضحايا. لكن هذه الإرادة السياسية قد تتعثّر إن لم تشمل إلغاء قانون العفو الذي صوّت عليه البرلمان الموريتاني سنة 1993، والذي يرفع كلّ مسؤولية للمؤسّسة العسكرية والإدارة، ويجرّم في الوقت ذاته كل محاولة لنبش حيثيات الماضي، الذي لا سبيل لاستشراف المستقبل دون تصفيته بصفة عادلة.
* كاتب وصحافي موريتاني