ياسين تملالي *
يتساءل الكثير من الجزائريين: لماذا يُطلب منهم اليوم أن يساندوا ترشّح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة ثالثة وتعديل الدستور بما يُمكّنُه من ذلك؟ ويجيبهم المتملّقون الأبديّون للرئيس: لأنّ حصيلته إيجابيةٌ. وما أبرز نقاط هذه الحصيلة الإيجابية؟ «استتباب السلم المدني» حسب قول عبد العزيز بلخادم، الوزير الأول والأمين العام للحزب الواحد الأسبق، و«ما حظي به عالم الشغل من بالغ الاهتمام» على رأي عبد المجيد سيدي السعيد، رئيس المركزية النقابية.
لننظر في «استتباب السلم». على مستوى رمزي محض، يمكن القول إنّ عهد بوتفليقة كان «عهد التفجيرات الانتحارية»، حتى إن شخصه الكريم ذاتَه كان هدفاً لإحدى القنابل البشرية المتنقلة التي تجوب البلد، ليكون بذلك أول رئيس يتعرّض لمحاولة اغتيال منذ 29 حزيران 1992، تاريخ مقتل محمد بوضياف برصاص ضابط من حرّاسه. أمّا آخر أخبار الطمأنينة الوطنية، فإلغاء زيارة رئاسية إلى قسنطينة بسبب تواتر أخبار عن تسرّب إرهابيَّين إلى المدينة وتخطيطهما للاعتداء على موكب فخامته.
قد يُقال إنّ لجوء الجماعات المسلّحة إلى الهجمات الانتحارية ليس في حدّ ذاته دليلاً على ازدياد بطشها. ليكن. لماذا إذاً لا يمرّ يوم دون أن نقرأ أخباراً عن عمليات أكثر «تقليدية» كقتل شرطة وجرح دركيّين وهجوم على ثُكن الحرس البلدي؟ قد يُرَدّ بأنّ عدد هذه العمليّات قليل مقارنة بسنوات التسعينات الدامية، وهذا دون شكّ صحيح. غير أنّ ذلك لا يمنع السؤال من أن يُطرح: هل «تراجعُ العمل الإرهابي» و«استتبابُ الأمن» يعنيان لغويّاً الشيء ذاتَه، وهل هما مترادفان سياسيان؟
وقد يُقال إن عمليات الجماعات المسلّحة تتركّز في مناطق معدودة دون غيرها، وإنها لم تعد، كما قبل انتخاب الرئيس في نيسان 1999، زلزالاً يهزّ البلاد من أدناها إلى أقصاها، وهذا طبعاً صحيح. لكن هل يعود الفضل في ذلك إلى بوتفليقة؟ هل يجهل أحدٌ أن أهمَ تطورات الوضع الأمني منذ بداية الأزمة في 1992، وهو إعلان جيش الإنقاذ الإسلامي وبعض المنظّمات الأخرى هدنةً أحادية الجانب في 1997، سبق اعتلاءه السلطة بقرابة سنتين؟
أيجهل أحد أن برمجة وضع هذه التنظيمات سلاحَها في سنة 2000 لا قبلها (أي بعد انتخابه)، كانت هديةَ الجيش إليه ليزيد في صدقيته في نظر المواطنين؟
وحتّى لو سلّمنا باستتباب الأمن في الجزائر منذ نيسان 1999، ماذا عن «الاضطرابات الاجتماعية» التي ميّزت حكم بوتفليقة؟ لا نتحدّث هنا عن الإضرابات العمّالية، وما أكثرها في سنواته الهادئة. نتكلّم حصراً عمّا تسمّيه الصحافة «الاضطرابات» و«أعمال الشغب»، من رشق لقوات الشرطة بالحجارة وقطع للطرقات العامة وهجوم على مقارّ البلديات وتكسير لأعمدة الإنارة العمومية، وغيرها من مظاهر الاحتجاج على تعامل الأمن العنيف مع الشباب العاطل عن العمل والتلاعب بقوائم المستفيدين من السكن الاجتماعي وتفشي البطالة وما إلى ذلك من تجليات الحداثة البوتفليقية...
الحقيقةُ أن تاريخ الجزائر المعاصر لم يعرف مطلقاً ما عرفته السنوات السبع الأخيرة من «أحداث شغب» عمت المدن والأرياف والشمال والجنوب والشرق والغرب. كانت «أحداثُ ربيع 2001» في المنطقة القبائلية أخطرها وأكثرَها أثراً، إذ راح ضحيتها 117 شاباً قُتلوا برصاص الدرك، إلا أنها لم تكن الوحيدة، ولا الأخيرة. فسنةُ 2002 وحدها شهدت قرابةَ «600 اضطراب»، شملت ثلاثين ولاية من أصل ثمانٍ وأربعين. وحتى اليوم، لا يكاد يمرّ أسبوع دون أن تقبض الشرطةُ على شباب يُتهمون بـ«إثارة البلبلة» و«الاعتداء على الأملاك العامة»، لا لشيء سوى سخطهم على حرمانهم الرخاء المالي الذي تعيشه الجزائر منذ 2000 (بفضل ارتفاع أسعار النفط لا بفضل حكمة الحكّام. أيجب التذكير بذلك؟).
ماذا عن الوهم الثاني، وهم انشغال بوتفليقة بهموم الكادحين؟ يكفي رقم واحد لنكتشف مدى اهتمام الرئيس بالطبقة العاملة. حسب أرقام شديدة الرسمية، فقدَ 300 ألف عامل مناصب عملهم بين سنتي 2000 و 2007، ليزاحموا في سجلات البطالة 400 ألف عامل سُرِّحوا في منتصف التسعينيات بفضل تطبيق «برنامج الإصلاح الهيكلي».
وقد زفّت حكومة بوتفليقة للعمّال بُشريين اثنتين بمناسبة السنة الجديدة. البشرى الأولى مشروع إغلاق 120 شركة عمومية ستنضاف إلى 160 أخرى طُرد عمّالُها في إطار «تطهير الاقتصاد الوطني»، والبشرى الثانية خطةٌ لخصخصة 300 شركة ستضاف إلى 430 بيعت في ظروف أقل ما يقال عنها إنها غامضةٌ غير شفافة.
وبلغ حبّ الرئيس للعمّال (ومن الحب ما قتل) حدَّ تعنيفهم بصورة دورية على اعتبارهم الدولة «بقرة حلوباً» ينهل من ضرعها «مكسورو الأيدي». أمّا «النشطاء» من سارقي المال العام، فلا ذكر لهم في خُطبه الطويلة، فهم الدليل على أن امتلاء الخزائن العامّة، بما لم يُفد سوى المافيات التي تنهش أوصال البلد، مافيات لا حول لفخامته عليها ولا قوة، فلا ينتقدها انتقَاده العنيف لـ«كسالى» البسطاء والعاطلين.
ويستدلّ كلّ من الوزير الأول وأمين المركزية النقابية على حسّ بوتفليقة «الاجتماعي» برفع أجور الموظّفين مرّات عديدة في السنوات الأخيرة. وهم إذ يزعمون ذلك يتناسون شيئين اثنين. أولهما أن تحسين الأجور كان استدراكاً جزئياً للتدهور الذي عرفته في التسعينيات بفضل «الإصلاحات» الليبرالية الميمونة، وخصوصاً منها خفض قيمة الدينار. وثانيهما أنّه لم يكن كرماً من الرئيس بقدر ما كان ثمرةَ إضرابات طويلة شاقّة. وكما يعرف الجميع، فقد تعاملت الحكومة مع هذه الإضرابات بمنتهى الرقة واللطافة، فأمرت المحاكم باعتبارها احتجاجات «غير قانونية» وجرجرت قادتَها أمام القضاة بتهمة الإخلال بالنظام العام.
هذا غيض من فيض بوتفليقة العارم، وشجرة يتيمة في غابة إنجازاته. لا شكّ أنّ البلاد، لو مُكّنَ من تولّي الرئاسة لعهدة ثالثة فيها، ستدخل عالم «السلام» الأبدي و«الحداثة» الاقتصادية من بابه الواسع، إلا أن ما ينشده أغلب المواطنين ليس «سلام المقابر» الرهيب ولا «حداثةَ البؤس» المؤمَّم المعمَّم. أما آن لعبد العزيز بلخادم وعبد المجيد سيدي السعيد أن يعيا ذلك، وهما من يزعمان تمثيل «شرائح عريضة» من الشعب الجزائري؟
* صحافي جزائري