أرنست خوري
هكذا يعاقب النظام التعليمي الأميركي نصير الفلسطينيّين

إذا كان لـ«المثقّف العضوي»، المتصالح مع نفسه من دون عقد ولا ادّعاءات، من الطراز الذي تحدّث عنه طويلاً أنطونيو غرامشي من نموذج حالي، فسيكون اسمه نورمن فنكلستين. هذا أقلّ ما يمكن أن يخرج به قارئ كتابه الأخير «إسرائيل، فلسطين، لبنان، رحلة أميركي يهودي بحثاً عن الحقيقة والعدالة».
ولمّا كان فنكلستين، الغني عن التعريف في عالمنا العربي لما كان لكتابه الشهير «صناعة الهولوكوست» من وقع إيجابي لدى القارئ العربي، نوى أن يطلق قنبلة فكرية من هذا العيار، فكان لا بدّ أن يكون وراء المشروع مثقّف فذّ بدروه، سماح إدريس، الذي ضرب ضربة معلّم في ترجمته للكتاب، وهو مجموعة من المقالات والمذكّرات والدراسات. ضربة معلّم في المعايير كلّها؛ أوّلاً في اختياره لتوقيت نشره في أوّل أيّام العام الجاري. فمن جهة، كان فنكلستين، الصديق الشخصي لإدريس، وصاحب دار ومجلّة الآداب (ناشر الكتاب) في بيروت عند طبع الكتاب. وثانياً إنّ المؤلَّف كان أوّل إصدار بيروتي لعام 2008، فضلاً عن أنّ ترجمة إدريس جاءت غاية في المهنية والعلمية والصرامة والدقّة، إذ عرّب مصطلحات لم يعتَد القارئ العربي إيجادها، كما حصل في الصفحة 51 مثلاً، حين اقتبس في إحدى الهوامش عبارة «(...) تحتاج الولايات المتّحدة إلى أن تلتقط دولة صغيرة ضئيلة خرائيّة...».
على العموم، يمكن وصف الكتاب، ورغم تنوّع الفصول والمواضيع التي تؤلّف متنه، بأنه تعرية موغلة في الواقعيّة لأسطورة النظام التعليمي الأميركي الحرّ، والذي لا يحاسب سوى على المستوى الأكاديمي للمدرّسين والطلاب. فنكلستين، الطالب ثمّ المحاضر الجامعي، يروي قصّته، قصّة تجويع واضطهاد حقيقيين مارسهما عليه «النظام»، من إدارة الجامعات التي تعلّم وعلّم فيها (من بروكلين إلى هنتر إلى نيويورك وصولاً إلى جامعة سان بول في شيكاغو)، حيث حُرم من المنح التعليمية ومن رسائل التوصية والراتب المناسب لساعات تعليمه، كما حُرم، بعد عقدين من نيله أطروحة الدكتوراه، من حقّ الوظيفة الثابتة، وكلّ ذلك عقاباً له ولمواقفه الأكاديمية والسياسية، المناهضة للوبي الصهيوني وللسياسات الإسرائيلية... وهي مواقف اختصرها الحاخام الصهيوني آرثر هيرتزبرغ، بمخاطبته: «أنت في اصطبل نعوم تشومسكي»، وما تشومسكي عند فنكلستين، إلا شبيه لينين أو أكثر!
في مقدّمته «إلى القرّاء العرب»، يعود الكاتب إلى محاضر جلسة مجلس الأمن التي عُقدت بعد «نكسة» عام 1967، لكي يعرّي الأسلوب الذي يلجأ إليه العقل الإسرائيلي في السياسة، وهو فرض الشروط التعجيزية، التي يعرف العقل الصهيوني أنّ العرب سيرفضونها، وبذلك تبرّر تل أبيب السير قدماً في الاحتلال والاستيطان... وما أشبه الأمس باليوم يا نورمن.
في «رهاب الإسلام ونقد الهولوكوست»، يوفّر الكاتب اليساري على قرّائه عناء قراءة مؤلّفاته السابقة، وأبرزها «صناعة الهولوكوست»، (تعريب إدريس نفسه وإصدار دار الآداب أيضاً)، التي خصّصها لهدفين: تأكيد حصول المحرقة النازية بما لا يحمل الشكّ ولا حقّ التساؤل عن صحّتها كواقع تاريخي، ليتفرّغ بعدها إلى فضح استغلالها من جانب العقل الإسرائيلي واللوبي اليهودي داخل الإدارة، سياسياً ومادّياً...
أمّا نقد كتاب «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية» لجون ميرشايمر وستيفان والت، فيفنّد الأسباب التي كانت تقف خلف لامبالاة يهود أميركا من مصالح إسرائيل، قبل «النكسة»، وما الذي حوّل الموضوع رأساً على عقب بعدها.
ثمّ يتطرّق الكاتب إلى موضوع شغل الساحة اللبنانية منذ أشهر، وهو النقاش الذي أثارة تقرير منظّمة «هيومن رايتس ووتش» عن العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، عندما ساوت المنظّمة بين الضحية والمجرم، ورأت أن حزب الله ارتكب «جرائم حرب» بينما كانت إدانة الإرهاب الإسرائيلي مجمّلة حتّى التزوير، ومسيّساً (مثلاً أصرّ التقرير على ضرورة تنفيذ القرار 1559 ونزع سلاح حزب الله!!) ومجمّلاً للإجرام الإسرائيلي.
وفي انتقاله إلى محاججة رأي دينيس روس بشأن مفاوضات كامب دايفيد 2000، لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد مع الكاتب ليدمّر أطروحة روس الذي رأى أنّ سبب فشل المفاوضات كان ياسر عرفات والعقلية العربية التي ترى أن من حقّها استرداد الأراضي المحتلّة بحدود عام 1967... وأي خطأ هذا؟!
أمّا في الفصل الثاني، فللتشويق والإثارة عناوين، إذ، بعد تخصيصه الفصل الأوّل للأبحاث والمقالات، «يهجم» فنكلستين من باب المذكّرات والسيرة الذاتية... لكن من قال إنّ التشويق لا يمكن أن يكون مأساويّاً؟ في عناوين ثلاثة، «وجدتها»، و«مثل الزفت»، و«يظنّون أننا خراف»، يضع الكاتب بين أيدي قرّائه (بالمناسبة الكتاب لم يصدر إلا بالعربية حتّى اليوم، وهي نقطة إضافية تُسَجَّل لمصلحة الناشر، فمن النادر أن ينشر كاتب أميركي مؤلَّفاً له بالعربية قبل الإنكليزية)، شهادة حيّة عن أميركي وقع ضحيّة مواقفه والتزامه السياسي... تمييز جعل من فنكلستين، الماوي السابق، وأحد أبرز الأسماء في عالم المثقّفين الأميركيّين المعاصرين، نموذجاً للممارسات التي وصلت إلى حدّ العنصريّة، ليس لأنه يهودياً، بل لأنه يهودي قرّر السير عكس التيار، فلاقى ما لاقاه من حرمانه حقوقه، أكان في مرحلة التحصيل العلمي أم في رحلته الطويلة مع التعليم الجامعي كأستاذ جامعي بقي ممنوعاً من إعطائه مقعداً ثابتاً لدفعه إلى الاستقالة، وكان لمحاربيه أن نالوا مرادهم، فبات اليوم عاطلاً عن العمل، بعدما باتت حياته «مثل الزفت».
قصّته مع اجتياح بيروت 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا تجسّدها صفحات «وجدتها»، حيث أمضى الرجل أياماً أمام القنصلية الإسرائيلية في نيويورك يحمل لافتة «ابن الناجيَين من انتفاضة وارسو وأوشفيتز ومايدانك لن يكون صامتاً: أيها النازيون الإسرائيليون أوقفوا الهولوكوست في لبنان». أمّا اللحظة المفصلية التي قضت عليه مهنيّاً، فكانت «تدميره» لكتاب جون بيترز «منذ قديم الزمان»، وأطروحتها التي تذهب إلى إثبات أن فلسطين كانت خالية من السكّان قبل الاستعمار الصهيوني لها.
هكذا عاش فنكلستين، صاحب الشهرة الكبيرة، لينتهي حسب الصهيوني ألان ديرشوويتز، «ابن امرأة متعاملة مع النازيين (وهي التي نجت مع والده من معسكرات المحرقة)، ومضطرباً عقليّاً ومسيئاً للأساتذة والطلاب»... ولأنّ أمه المتوفّاة عام 1995 كانت صاحبة الأثر الأكبر في تكوين معالم شخصيته الفذّة، خصّص لها الجزء الأخير من الفصل الثاني، فهي التي ماتت وستالين يكاد يكون مثالها الأعلى، وهي التي بقيت تتمتم حتّى نال السرطان منها: «أميركا أسوأ من هتلر»!
* من أسرة الأخبار



العنوان الأصلي
رحلة أميركي يهودي بحثاً عن الحقيقة والعدالة
الكاتب:
نورمن فنكلستين (تعريب سماح ادريس)
الناشر
دار الآداب