فؤاد مرعي *
منذ أن وضعت لجنة بيكر ــــــ هاملتون تقريرها الشهير، بدأ العالم يتساءل عن موقف الإدارة الأميركية الحقيقي من مضمون هذا التقرير. وكان من اللافت (وهو أمرٌ مفهوم في السياسة) أن إدارة بوش قد تعاملت مع التقرير كما لو أنه مجرّد وجهة نظر غير مقرّرة لعدد من الباحثين الأكاديميّين. وقد تضاربت التحليلات بشأن الوجهة التي ستسلكها السياسة الأميركية بعد صدور التقرير. فبعضهم جزم بأن الإدارة سوف ترفض ما جاء فيه جملة وتفصيلاً، لأنه يتناقض مع أهداف المحافظين الجدد، ومنهم مَن رأى أن هذه الإدارة لا تملك خيارات كثيرة للخروج من مأزقها في العراق، لذا فإنها مضطرّة إلى الأخذ بغالبيّة بنوده. وفريق ثالث دعا إلى الانتظار ريثما تنقشع غيوم الدعاية السياسية وتظهر المواقف الحقيقية من خلال الخطوات العملية التي ستتّخذها الإدارة بعد مرور أكثر من عام على نشر التقرير: ما هي المتغيرات التي طرأت على المشهد الأميركي؟
أوّلاً لا بدّ من التذكير بأن اللجنة المذكورة ضمّت مجموعة من كبار المسؤولين السابقين وأعضاءً في الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وأن عملها قد استغرق فترة طويلة من الزمن قبل أن يتمخّض عن تقرير ناجز (ليس معروفاً إن كان قد تضمّن بنوداً سرية). ولم يكن توقيت التقرير ودوافعه بالأمرين الخافيين على المراقبين المطّلعين على تفاصيل سير المشروع الأميركي في المنطقة. فمع تصاعد العمليات العسكرية في العراق، ومع انتشار حالة الفوضى والفلتان الأمني، وفشل العملية السياسية التي رعاها الأميركيون، برزت حاجة ملحّة إلى إعادة تقويم كامل للاستراتيجيّة المتّبعة على الساحة العراقية. ولأن مجرى الأحداث بدأ يأخذ منحىً خطيراً طال مجمل المصالح الأميركية في المنطقة والعالم، تداعى كبار ممثّلي الطبقة السياسية في الحزبين الكبيرين لإجراء مراجعة متأنّية وعميقة لتبيان مكامن الخلل في السياسة الأميركية، فكانت لجنة بيكر ـــــ هاملتون بمثابة حكومة ظلّ «نظرية» أدّت دور «عقل» «حكومة الوحدة الوطنية» في زمن الأزمات. إذ إنّ جوهر الموضوع كان إشراك المعارضة الديموقراطية في صياغة تصوّر مشترك يعبّر عن المصالح الوطنية الأميركية الإجمالية. وقد جاءت بنود التقرير كما هو متوقَّع مخالفة بوضوح للاستراتيجية التي تتَّبعها الإدارة الأميركية في الشأن العراقي، وما يتّصل به من أمور تطال منطقة الشرق الأوسط برمّتها. أمّا البند الأساسي فيه، فقد دعا إلى اعتماد أسلوب التفاوض مع اللاعبين الإقليميّين في المنطقة، ولا سيّما سوريا وإيران، بدلاً من أسلوب المواجهة والحرب. لقد كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لإذاعة التقرير أن الإدارة الأميركية لا تستطيع الجهر بتبنّي خطة بيكر ــــــ هاملتون، ليس بسبب وجود محافظين متشدّدين في صفوفها، وإنّما لأسباب تكتيكيّة تتعلّق بتأمين تراجع آمن لقوّاتها العسكريّة وخطّتها الاستراتيجيّة على صعيد المنطقة. فالمفاوضات، التي بدت من خلال التقرير بمثابة شرّ لا بدّ منه، لا يمكن أن تتمّ من موقع ضعف لا يتناسب مع حجم وإمكانات أقوى دولة في العالم. لذا كان لا بدّ من مرحلة تمهيدية قد تطول أو تقصر تبعاً لمجريات الأحداث. لكن عامل الوقت لم يكن في مصلحة الإدارة المرتبكة. ليس أدلّ على ذلك من سلسلة الاستقالات التي شهدتها تلك الإدارة بعد صدور التقرير المذكور، كذلك نتائج انتخابات الكونغرس التي جرت في أجواء سياسية متجهّمة بالنسبة إلى الحزب الجمهوري الذي فقد أغلبيته في مجلسَي النواب
والشيوخ.
إثر هذه التطوّرات الدراماتيكية، حدث تجاذب حادّ في الكونغرس حول أرقام الميزانية المخصّصة للحرب، أدّى إلى ربطها بنتائج الخطّة الأمنية في بغداد كتمهيد (على الأرض) للانسحاب التدريجي الجزئي من المدن العراقية الرئيسية. إلا أنّ الخطة الأمنية لم تؤدِّ إلى النتائج المرجوّة، فتصاعد العنف وانتشرت الفوضى أكثر من ذي قبل ولم تتراجع حدّة الهجمات إلّا مؤخراً وبشكل جزئي ومؤقّت عقب لقاءات أميركية ــــــ إيرانية، وأميركية ــــــ سورية. هذه اللقاءات اعتُبرت بمثابة إشارات أوليّة على التبدّل الذي طرأ على السياسة الأميركية.
وقد شهدت الفترة الممتدّة من ربيع العام الماضي حتى يومنا هذا، محاولات أميركية حثيثة لتحسين مواقع الانتشار العسكري والسياسي، تارةً عن طريق العمليات الأمنية داخل العراق، وتارة أُخرى عن طريق عقد المؤتمرات لدول الجوار العراقي (بما فيها سوريا وإيران)، وصولاً إلى اصطناع أجواء حرب وشيكة على إيران أو على سوريا راحت وسائل الإعلام تقرع طبولها بين الحين والآخر. وكانت آخر المحاولات على هذا الصعيد تأليف «مجالس الصحوة» المكوّنة من بعض العشائر العراقية لمحاربة تنظيم «القاعدة»، أعقبه قرار عراقي رسمي بالعفو عن صغار الموظّفين البعثيّين وفتح المجال لإعادتهم إلى وظائفهم. وقد استمرّت لعبة العصا والجزرة إلى أن جاء تقرير الاستخبارات الأميركية الأخير الذي أكد توقّف البرنامج النووي الإيراني في المجال العسكري منذ عام 2003. هذا التقرير أدّى إلى تضاؤل فرص شنّ حرب أميركية على إيران، لكنه مثّل في الوقت ذاته مخرجاً للدولة العظمى للقول إنّ التراجع عن شنّ الحرب قد حدث نتيجة نشر معلومات استخبارية واختلاف في التقديرات بين المستويات السياسية والأمنية، لا بسبب العجز الأميركي عن شن حرب جديدة في ظروف غير ملائمة.
إنّ قراءة رصينة في التقرير الأخير تفيد أنّه خدم الأهداف التي وضعتها لجنة بيكر ــــــ هاملتون بأن رجّح كفّة التفاوض على كفّة الحرب. علماً بأنّ الحذر والرصانة يقتضيان عدم استبعاد ضربات جوية أميركية مفاجئة كعرض للقوة، وأن يكون نشر التقرير الاستخباري فخّاً هدفه إشاعة جوّ من الاسترخاء لدى الخصم، علماً بأن الحادث الذي جرى في مضيق هرمز بين السفن الحربية الأميركية والإيرانية لا يدلّ على استرخاء من هذا النوع.
إن المشكلة اليوم تكمن في أن الإدارة الأميركية لم تنجح حتى الآن في خلق شروط تفاوض تسمح لها بالاحتفاظ بكلّ ما استولت عليه عن طريق القوّة، أو ما أمِلَتْ تحقيقه كنتائج لتداعيات غزوها للعراق على الساحات الفلسطينية والسورية واللبنانية والإيرانية. لذا قامت بمحاولات مكشوفة للعب «جمباز» سياسي هدفه إعادة تجميع ما بقي من رصيدها في المنطقة، كان آخرها عقد مؤتمر «أنابوليس» الذي كان بمثابة اجتماع علاقات عامة محكوم عليه بالفشل قبل انعقاده.
لقد حاول الرئيس جورج بوش المعروف بـ«ذكائه الشديد» الاستثمار في مفاوضات فلسطينية ـــــ إسرائيلية هي نسخة متهافتة ورديئة عن مفاوضات سابقة كانت قد باءت بالفشل.
إن جردة مبكرة لحسابات الضعف والقوة بعد خمس سنوات على غزو العراق تفيد أن الطرف الأميركي (والإسرائيلي ضمناً، وخاصةً بعد حرب تموز) قد خسر من أرباحه المفترضة نقاطاً استراتيجية ثمينة، وهو مضطر إلى تقديم تنازلات لألدّ خصومه، كما أنه مضطرّ إلى مضاعفة جهوده من أجل حماية قواعده العسكرية في المنطقة وحماية حلفائه من الأنظمة العربية. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد كسبت شركات النفط الأميركية وشركات السلاح أرباحاً طائلة. كذلك فعلت دول الخليج النفطية، وهو أمر قد يتكرّس لفترة طويلة، فيما خسرت الخزينة الأميركية أموالاً طائلة سوف يدفعها المكلّف الأميركي عاجلاً أم آجلاً، كما خسرت اقتصادات الدول (والشعوب) غير النفطية فارق أسعار النفط. في المقابل خسرت الدول العربية وشعوبها جزءاً مهمّاً من أمنها وثرواتها ووحدتها الوطنية. أمّا الشعب العراقي، فقد كان الخاسر الأكبر على كل الأصعدة بحيث لا يتفوّق عليه في الخسارات سوى الشعب الفلسطيني. لكن رغم كل هذا الخراب والفوضى فإن الفيلم الأميركي الطويل والرديء ما زال مستمراً حتى إشعار
آخر.
* كاتب لبناني