أسعد أبو خليل *
سَجَدوا له، واحداً واحداً. أميراً أميراً، وملكاً ملكاً، وشيخاً شيخاً.
هبّ شيوخ الزيت الأسود للقاء المحبوب الأميركي كمن يهرع لموعد غرامي. تحرّقت قلوبهم شوقاً للقاء. رأيناهم ورأينا «الرؤوس المطأطأة إلى الأرض قياماً بواجبات السجود» (على ما قال الأخطل الصغير). يسبّحون بحمده ليلاً ونهاراً، وشفاعته هو فقط تُجدى من قبلهم. حتى الملك الذي لا يصلّي إلا من على كرسي مذهّب ومرصّع، هرَع إلى المطار كالملهوف. سارع إلى أسفل درج الطائرة، لم يصدّق ما رأته عيناه. بوش بلحمه وشحمه وعجرفته يطأ أرض المملكة. آه لو أنه اصطحب معه جيوشه الجرّارة. أبدى الملك «المُنتخب ديموقراطياً» ـ إذ إن كل حلفاء أميركا في المنطقة «منتخبون ديموقراطياً» ـ حماسة غير معهودة. كاد أن يقفز قفزاً في أرض المطار. ترنّحت الأرض تحت قدميه. قمّة النجم عندهم موطئ قدم المُفدّى. لا ندري ماذا دار بينهما من حديث، لعلّ ملوك النفط العربي وأمراءه صدحوا له: بالروح، بالدم، نفديك يا بوش (هل هناك أبشع من هذا الهتاف، بالمناسبة؟). بدا الحوار حميميّاً بين الاثنين. هل عرض خادم العائلة المالكة أن يحظى بشرف تلميع حذائه؟ أو هل حثّه على شنّ مزيد من الحروب؟ أو هل استجدى منه فتاوى لتعميمها في وسائل الإعلام العربية؟
عقمت النساء بعد ولادة بوش، هم قالوا له. ما رأوا مثله من نظير. شرفٌ وأيّ شرف أن يزورهم سيّدُهم. أتى ليلقي التحية، وليصدر الأوامر. هو أمَر: طَبِّعوا مع إسرائيل، وخَفِّضوا أسعار النفط، وأَظهروا مخافة من إيران. الأوامر كانت واضحة، لا لبس فيها. هؤلاء الملوك والامراء والشيوخ ـ صار عندنا في لبنان شيوخ أيضاً بفضل آل من «يحسب أن ماله أخلده»، يا للفخر ـ كان يُقال لهم: العراق خطر عليكم، فيجيبون بصوت واحد: العراق خطرٌ علينا. اليوم يُقال لهم: إيران خطرٌ عليكم. يجيبون بصوت واحد: إيران خطرٌ علينا، ويزيدون من عندهم أن إسرائيل وترساناتها من أسلحة الدمار الشامل برد وسلام.
الإعلام السعودي كاد أن يطير فرحاً. زَغرَدوا وهَلّلوا وكبّروا. المذيعة في قناة «العربية» نجوى قاسم (خرّيجة المدرسة الحريرية في الإعلام)، لم تتمالك نفسها. كرّرت للجمهور اسم طائرة بوش بالإنكليزية أكثر من مرّة، ودعت المشاهدين (لا المشاهِدات ـ المرأة عورة بنظر هؤلاء) إلى انتظار انطفاء محرّك الطائرة المقدّسة. طائرة من السماء هي، ولا كالطائرات. حَملها رفّ من الملائكة إلى أرض المملكة. معبودهم وطأ الأرض، فزادت قداستها وعظُمت جلالتها. لو تسنّى لملوك العرب وأمرائهم، لرافقوا بوش على بساط الريح، ولأطعموه المنّ والسلوى أثناء الرحلة. مشهد ولا كالمشاهد. ملوك وأمراء نفط العرب بدوا كما ألفناهم، صغاراً صغاراً. فرحوا إذ إنّ إلههم المعبود أتى في آخر أيام ولايته ليزف لهم نبأ إعلان بيعهم أسلحة. نثروا الأرز والزعفران والرياحين فوق رأسه. فعلوا أكثر من ذلك لتكريمه. نثروا أشلاء أطفال فلسطين ولبنان والعراق أمامه زيادة في التكريم. هذه يد طفل من غزة، وتلك يد طفلة من قانا، وهذا رأس طفل قضى في مخيم جنين، وذاك طفل محترق من العراق. مشى الضيف الموقر فوقهم. قهقه المضيف. فعلوا المستحيل لإسعاده.
أولاد زايد (من السلالة الشخبوطية ـ وكان ياسين الحافظ مصرّاً على تسمية الحقبة السعودية بالحقبة الشخبوطية للتدليل على إيغالها في الرجعية، وإن لاحظنا أن حازم صاغية استعان بالحافظ أخيراً لتسويغ سياسة تأييد الحريري والسعودية، مثلما استعان يساري سابق آخر بكارل ماركس لتسويغ سياسة تأييد أمين الجميل وسمير جعجع. لكن اليساري السابق الأخير يستعين بمن يتوافر ـ حتى بيوحنا فم الذهب الذي كتب له ابتهالات دينية في جريدة «السفير» من دون أن يذكر للقراء والقارئات أن يوحنا كتب من أخبث ما كُتب في اليهود كيهود وقد وجدت فيه النازية خير معين. لكنّ اليمين العربي يتسامح مع معاداة السامية من الغرب، ويتبرّم من معاداة الصهيونية من الشرق) أخذوه إلى خيمة، وعرضوا صقورهم عليه. أحاطوه كالحرّاس الشخصيين. عزّزوا التعميمات النمطية عن العرب، وكأنّ هؤلاء (أو القذافي) فعلاً يعيشون في الخيم (ذكرت حاشية في تقرير 11 أيلول الأميركي الرسمي أن أحد أمراء الإمارات كان يصطاد مع بن لادن في التسعينيات).
أثنى بوش على تجربة دبي. ولمَ لا؟ تجربة مدينة قائمة على هرميّة من التسلسل الطبقي الفظ، والإثنيّة والعرقيّة العنصرية، بالإضافة إلى اقتصاد يفتح الذراعين والساقين أمام غزو الشركات المتعددة الجنسية. تقرأ كتاب محمد بن راشد (الذي تلقّى مديحاً من دانييل بايبس لأنّ فلسطين لا ترد على شفاهه)، وتتبين خططهم: رأسمالية متوحشة وسياحة خدمات ودعارة ـ كم سعى رفيق الحريري لتطبيقها في لبنان. نموذج دبي هو الراجح، لا نموذج الديموقراطية، وخصوصاً بعدما اكتشفوا أن الديموقراطية لا ترجّح كفة أمثال سلام فيّاض (حاز الأخير نحو 1% من الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ويريدون تنصيبه زعيماً على فلسطين مع الدحلان) وأياد علاوي وأحمد الشلبي. نموذج دبي أفيون الجيل العربي الجديد. عليك أن تخلع ثوب الثورة، أو حتى ثوب التعاطف مع شعب فلسطين، قبل أن تدخل تلك الجنة الاصطناعية.
يا أدعياء التُّقى والورع، هل تخدعون إلا أنفسكم في ادعاءاتكم؟ «يواقيتُ الصِّلات أعلق» بقلبكم من مواقيت الصلاة، على ما قال الحريري في المقامة الصنعانية، ثم تفرضون علينا أكثر العقائد الدينية تزمّتاً ومحافظة وانغلاقاً ومعاداة للمرأة. أنتم الذين عاديتم وحاربتم التنوير والانفتاح والاشتراكية والعدل الطبقي والجنسي بين الناس. أنتم الذين فرضتم علينا تعصّباً وأصولية لم تكن موجودة قبلكم، أو كانت في طريق الزوال. أنتم الذين دربتم ومولتم وسلحتم الظلاميّين لمحاربة عبد الناصر والشيوعية. أنتم الذين أنجبتم بن لادن، ولا تختلفون معه حتى اليوم إلا على السياسة الخارجية. يا ناشري التعصب المذهبي بيننا، ألا تشعرون بفقدان الشرعية؟ ماذا تكونون من دون ثرواتكم ونفطكم؟ هل تصدقون تلك المدائح التي تُكتب فيكم؟ قِبلتُكم في ملاهي مدن الغرب ونواديها، لا في الجزيرة
العربية.
ماذا فعلتم بنا يا ملوك النفط وأمراءه، ماذا فعلتم بنا؟ إذا كانت مصر هبة النيل، فأنتم هبة المتسعمِر. والتين والزيتون ما اندلعت ثورة في العالم الثالث إلا وحاربتموها بالمال وبالوسائل السرية بالاتفاق مع المستعمر الغربي، من ظفار، إلى فلسطين، إلى لبنان، إلى بوليساريو، إلى اليمن. أنتم عالة على قضايا شعوبكم، ولكنكم لم تكترثوا يوماً لآراء شعوبكم. ما اتصلت حركة تحررية بكم إلا واتسخت. نقرأ اليوم في ما يُنشر من وثائق السياسة الخارجية الأميركية ونتبيّن مدى تأثيركم على حركة فتح بالنيابة عن أميركا، والأخيرة بالنيابة عن إسرائيل.
كم شوّهتم من صورة العربي في العالم نتيجة مسلككم وسعيكم الدائم وراء اللذّة. أنتم الذين تعرفكم ملاهي الغرب ومواخيره أكثر من كثبان الرمل في بلادكم. أبحتم بلادكم ومقدساتكم للاستعمار، وحوّلتم النفط إلى ألعوبة بأيدي الغرب، تزيد من خيراته وازدهاره، وتزيد من فقرنا وبؤسنا. نفط العرب للغرب، لا للعرب. حتى تموركم لا تملكونها.
تشترون سلاحاً فقط من أجل ملء خزائن الغرب بثرواتكم. وعندما تتهدّد عروشكم من الخارج لا تطلقون رصاصة، بل تستجدون كالأطفال مساعدة الحكومات الغربية المشغولة بمصالحها الاقتصادية. ساركوزي عندما يزوركم لا يمثل قيم الثورة الفرنسية، بل شركات النفط والحنين الاستعماري الدفين. أنتم أقوياء وجبابرة أمام شعوبكم المقهورة، لكن فرائصكم ترتعد أمام حكّام الغرب. ترقصون أمامهم بالسيف. ملك البحرين أهدى الرئيس المُفدّى القادم من وراء البحار سيفاً
مذهباً. يا أمراء النفط العربي وملوكه، فلينضب نفطكم، فلينضب نفطنا. لم تسخّروه إلا لغايات المستعمر القديم والمتجدد، وسعياً وراء لذات تحرّمها كل الأديان وتحرّمون حتى المُباح منها، في الوقت الذي تبتكرون فيه وسائل للذّة لم تعرفها إلا مخادعكم. تحرّمون العشق بين الناس وتحللون لأنفسكم عشق الجماد والحيوان. ارحلوا عنا، فأنتم لقوم سوانا «أمْيَلُ». حرّروا عبيدكم وجواريكم وعودوا إلى الصحارى مع نياقكم، أنتم الذين لم تأخذوا من البدواة إلا النواقص والذكورية. ارحلوا عنا وعودوا إلى قرون أقرب إلى مزاجكم وفكركم وتعصّبكم.
إن كان نفطكم سينضب فستسمعون ـ وسيُطرب الرأي العام العربي لسماع ـ الآراء الحقيقية لأبواقكم في الصحافة والسياسة في لبنان. عندها فقط، سيستفيق الليبراليون العرب الوهابيّون المنتشرون في الصحافة العربية إلى خروق حقوق الإنسان في ممالك القهر. عندها فقط ستستفظعون طقوس قطع الرؤوس الدوري في الساحات العامة، ورجم العشاق من الجنسين. عندها فقط سيصارحكم هؤلاء وسيلاحظون أن ملككم لا يتوافق مع أي من مفاهيم العصر والحداثة التي تملأ الصحافة هذه الأيام. ارحلوا عنا ودعوا شعوبكم تختط طريقها من دونكم ومن دون وكالتكم عن الاستعمار الذي نصّبكم وأبقاكم في الحكم بالرغم من إرادة شعوبكم. لوّثتم بيئتنا الطبيعية والسياسية والأخلاقية. عودوا إلى الصحراء وأريحونا، إذ جثمتم ثقيلاً فوق صدورنا. ما عدنا قادرين على التنفّس بوجودكم. أما اكتفيتم بقهر شعوبكم وقمعها؟ ألا تشبعون من اضطهاد مواطنيكم، ومواطني كل الدول العربية، يا حلفاء الطغاة في كل العالم. لم يجد عيدي أمين وجعفر النميري ملاذاً إلا عندكم، يا حلفاء موبوتو وفرانكو.
يا ملوك النفط وأمراءه، لو يتسنى لي أن أُسمعكم ما يقوله فيكم وعنكم العربي والغربي. آه لو كان بقدرتي أن أسجّل لكم أحاديث الشرق والغرب عنكم. لو نضب نفطكم لعلمتم مدى احتقار العالم لكم، يا رموز التعصب والرجعية وتعدّد الزوجات. ما أبعدكم عن «نور العقل» كما كان ابن العربي يسميه. ما أبعدكم. أثقلتم علينا وضيّقتم (وأحصيتم) علينا أنفاسنا. ما حللتم بنفوذكم على بلد ألا أفسدتموه بأموالكم وجعلتموه أكثر تعصّباً وتزمّتاً وضيقاً وسلطويّة وقهراً. تمارسون القمع والاستثناء والإبعاد الديني والمذهبي وتعظون شعب لبنان حول التعايش، أنتم الذين لا تصدّرون إلا النفط وفتاوى ابن باز. لو كان للعربي العادي أن يصل إليكم بعد نضوب النفط، لسمعتم منه (وخصوصاً منها) عن عمق مأساتنا بسببكم. كنتم خير عون لكل أعداء العرب والمسلمين، وأتاح لكم النفط أن تنطقوا باسم العرب والمسلمين. كم طالت غيبوبتنا وغيبوبتكم: غيبوبتنا من جراء سطوتكم المتأتية عن نفطكم وثرواتكم، وغيبوبتكم لأن الحق والحقيقة بعيدتان عنكم. لو نضب نفطكم لعلمتم آراء الناس وحتى بعض العلماء في فتاوى ابن باز في حكم التصوير وفي دوران الشمس، وفي الصلاة في الفضاء. لو أن هذا النفط سينضب قريباً لربما اندلعت ثورات أو انتفاضات في كل منابع النفط، ولتخلصت الثورة الفلسطينية مما علق بجسمها من أوساخ منكم.
ماذا نقول فيكم، ونحن لن نستودعكم إذا رحلتم. سيستودعكم من تلقى عطاياكم وعطايا صدام ومدحه، إلى أن توقفت. أنتم قوم إذا عاهدوا كذبوا، وإن عقدوا تخلّفوا، بالإذن من المهلهل. لن نشتاق إلى نفطكم، ولن يبقى من عروشكم وقصوركم إلا ما بقي في ذاكرتكم. أنتم الذين استنزفتم الجيش المصري في حرب اليمن، ودعمتم الحركات اليمينية حول العالم خدمة لعيون رونالد ريغان. يا ملوك العرب وأمراءهم. ابتعدوا عنا، فما نشرتم بيننا إلا الزهري والسعال والقيح. لو أن الحطيئة ما زال حيّاً، لعرف كيف يتعامل معكم. برحيلكم، سيعود إلى الجزيرة بريقها. كانت مكة قبلكم مدينة للجدل والنقاش الفكري والفلسفي والفقهي (والعشق والشعر) وحوّلتموها إلى مركز للتزمّت والانغلاق والتعصّب. أعيدوا يا ملوك العرب وأمراءهم جزيرة العرب إلى العرب، وأطلقوا سراح مواطنيكم. الربع الخالي يناديكم.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)