سعد الله مزرعاني *
لم يعد موضع جدال، إذا كانت سياسة إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، قد مُنيت بخسائر كبيرة، في مشروعه لـ«الشرق الأوسط الكبير»، أو لا. مادّة الجدال تتناول فحسب، حجم هذه الخسائر، وانعكاسها على مجمل نفوذ الولايات المتحدة ودورها في العالم بشكل عام، وفي منطقتنا بشكل خاص.
في مقالة سابقة («الأخبار» في 18 من الشهر الجاري)، حاولنا تبيان أنّ تعديلات السياسة الأميركية هي من النوع الذي تمليه تكتيكات الانتقال من الهجوم إلى الدفاع. يحصل ذلك دون تغيير جوهري في الأهداف الأساسية، حتى هذه المرحلة. ورغم تبدلات ليست قليلة في عدد من الأساليب والخطط والعلاقات والأهداف الفرعية، فإن ما يجمع مرحلتي الهجوم السابقة، والدفاع الحالية، هو الإصرار على التفرّد في التعاطي مع عدد من الملفات الساخنة: من العراق، إلى فلسطين، إلى لبنان، إلى...
في مرحلة الهجوم الذي انطلق من أفغانستان وتكرّس في «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» المعلنة من «البيت الأبيض» (أي الرئاسة الأميركية الحالية)، في أيلول عام 2002، استسهلت واشنطن التعالي على الجميع وتخطّي الجميع، بل والسخرية من الجميع... حدث ذلك في موضوع تقرير احتلال العراق، وفي تلفيق التهم والذرائع الكاذبة لتبرير ذلك، وفي إدارة الظهر لمجلس الأمن ولكلّ الشركاء الأطلسيّين (باستثناء من اتّبع الإدارة بدون شروط، كرئيس الوزراء البريطاني المخلوع طوني بلير).
وحتى حين اضطرّت إدارة بوش لإضفاء طابع دولي على غزوها للعراق، فهي قد أصرّت على التفرد في التقرير وفي التحرك. وهي لذلك لم تتمكن من جذب أي طرف إضافي أساسي، وازن، للمشاركة في أعباء الغزو.
وفي مرحلة التراجع واظبت إدارة بوش على النهج الاستئثاري نفسه. وهي قد أضافت إليه ما يمارسه الضعيف (نسبياً) والمتراجع، من رغبة في التمسّك بعوامل إضافية من عوامل القوة، من أجل مواجهة نقاط ضعفه، وإن حصل ذلك على حساب ما هو متعارَف عليه من أصول العلاقات والتوازنات وقواعد السلوك.
وقبل أن نصل إلى الاستنتاجات والمهام الضرورية، المترتّبة على نهج الاستئثار هذا، وهي مهمّات جدية نظراً لكون الإدارة الأميركية هي اللاعب الأساسي بالنسبة إلى أزمات المنطقة، لا بدّ من تأكيد ما سقناه من توصيف للنهج الأميركي، عبر المحطات الرئيسية الثلاث في المنطقة الآن:
فعلى المستوى العراقي، وهو عنوان الأزمة التي تتحمل بشأنها إدارة بوش مسؤولية حصرية ومحورية، أكّد الرئيس الأميركي، في أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى واشنطن منذ نحو ثلاثة أشهر، توجه إدارته لإنهاء دور الأمم المتحدة نهاية العام الحالي، لمصلحة اتفاق ثنائي بين حكومة الولايات المتحدة الأميركية والحكومة العراقية.
ـ في العراق، أصرّت إدارة بوش في كل الاجتماعات التي عقدتها مع ممثلي الحكومتين الإيرانية والسورية على التركيز على الجانب الأمني فحسب. وهي تستمر الآن عبر عملية خلط أوراق لن تلبث طويلاً حتى ترتدّ عليها، في محاولة إدارة تناقضات الوضع العراقي ذات طابع طائفي ومذهبي وإثني. ويروّج بوش لبقاء طويل في العراق تعزيزاً للوجود الأميركي في الخليج، بعد فشل الهدف الكبير في السيطرة على هذا البلد، وفي استخدامه نموذجاً لسيطرة أوسع، وبوسائل القوة، على مجمل الشرق الأوسط الكبير.
ـ وفي الشأن الفلسطيني، لم يجد الرئيس الأميركي أدنى حرج في تنصيب نفسه بديلاً وحكماً لـ«اللجنة الرباعية» التي رعت عام 2002، إصدار مشروع «خريطة الطريق». فهذا المشروع ظل في الأدراج أكثر من خمس سنوات، هي المهلة التي أُطلقت فيها يد الحكومة الإسرائيلية (شارون أساساً) لمحاولة تصفية الشعب الفلسطيني ومؤسّساته وقيادته وكل مقوّماته (اغتيل عرفات في مجرى هذه الخطّة).
وقد كرّس لقاء أو مؤتمر «أنابوليس» الذي انعقد في 26 تشرين الثاني الماضي، هذا التفرّد الأميركي، فيما أخلفت الإدارة الأميركيّة بالوعود التي قطعتها من أجل أن يكون لهذا المؤتمر «تعويض» ما: لروسيا عضو اللجنة «الرباعيّة» المنحلّة، بعقد جلسة ثانية للمؤتمر في عاصمتها موسكو. ولسوريا بإدراج قضية الجولان المحتلّ على جدول أعمال هذه الجلسة. وللفلسطينيّين بوقف الحكومة الإسرائيلية الاستيطان. وللعرب بممارسة ضغط متوازن من أجل تطبيق مقرّرات سابقة أساسها قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة، ولو بعد تشويه عميق وجذري... لمصلحة إسرائيل!
إنّ مجازر غزّة التي تمارس اليوم ضدّ مؤسّساتها وأبنائها وأطفالها ونسائها على مرأى ومسمع من العالم، لا تخرج عن السياق الأميركي المرسوم في نهج التفرّد إيّاه. ومعروف أن هذا النهج يقضي بين أمور أخرى، بإنشاء «محور الاعتدال» الذي يضمّ إسرائيل أيضاً. وإحدى وظائف هذا المحور التي حدّدها بوش مجدّداً، في زيارته، قبل أسبوعين، إلى عدد من دول المنطقة، مقاومة «الإرهاب» وتشجيع إسرائيل، من خلال توسيع العلاقات العربية وتطبيعها معها، على الاندراج في هذا المحور بشكل سريع وفعّال!
ـ ولا يختلف الأمر، حيال الملفّ اللبناني، أيضاً. ومعروف في هذا الصدد، أن الإدارة الأميركية تعوّل كثيراً على الاحتفاظ بهيمنتها المنفردة على قرار الحكومة اللبنانية. وقد ازداد هذا التوجّه بعد فشل العدوان الإسرائيلي في صيف عام 2006. وهو يستمر اليوم، ملغياً أيضاً بعض الهوامش والمحاولات والمداخلات الأوروبية والعربية لإيجاد تسوية للأزمة اللبنانية، وإن اقتضى ذلك إصدار «أمر» لوزير خارجية فرنسا ـ الذي حاول القيام بوساطة مثابرة وساذجة (أحياناً) ـ بالخروج الكامل، تقريباً، من الملف اللبناني.
لقد واجه بوش صعوبات متنوعة (مقاومة عسكرية وسياسية)، في مجرى عملية تنفيذ مشروعه لـ«الشرق الأوسط الكبير». إلا أن لديه الكثير من الأسباب لكي لا ينكفئ أو يسلم بالهزيمة. وأحد الأسباب الأساسية، مدى الالتزام بالمصالح والمطالب الإسرائيلية في هذا الصدد، ارتباطاً بسياسة الإدارة، العامة، وبشكل خاص، بسبب ضخامة تأثير اللوبي الصهيوني في إدارة بوش.
والرئيس الأميركي الذي فشل في فرض طموحاته في المنطقة، ظل قادراً، بالمقابل، على تعطيل مشاريع وخطط خصومه (وهي جزئية على كل حال). والترجمة العملية لذلك: استمرار الصراع في المنطقة، وبقاء الأزمات في مستوى كبير من التفجّر والتأزم، واستبعاد التسويات والحلول...
ويطرح هذا الواقع جملة مسؤوليات ومهمّات. وأولاها، إعادة النظر في جملة من «المسلّمات» التي انتهى وارتاح إليها البعض في ما يتعلق بقدرة الولايات المتحدة، أو بثبات خططها، أو بصحة عهودها ووعودها!
ـ ففي العراق يجب أن تبدأ «عملية سياسية» من نوع جديد: عملية حوار وتفاعل واستكشاف فرص التعاون، وتوليد دينامية جديدة، في مواجهة الاحتلال والفئويات النزعات التقسيمية، ولمصلحة العراق الديموقراطي الموحّد، ولمصلحة شعبه ودوره وثروته وسيادته...
ـ وفي فلسطين، يقع الدرس الأكبر لجهة ضرورة إسقاط التعويل على تحول استراتيجي لمصلحة الشعب الفلسطيني نتيجة «وعود» و«رؤى» بوش. والدينامية المطلوبة هناك، لوقف المجزرة، ووقف الانتحار الذاتي، هي في التخلّي عن الفئويات وعن استخدام القوة وإزالة ما ترتب عليه. وكذلك، في توفير فرص الحوار والسعي إليه بكل الجدية والمسؤولية الضرورية.
ـ وفي لبنان، لا بد من تلافي ذلك الخطأ التقليدي الذي أهمل في الوضع اللبناني، دينامياته الجامعة، إلى إنجازات التحرير، تعلّق شعبه بقيم الديموقراطية والحرية.
أمّا في المدى العربي الأرحب، فلا بدّ من استراتيجية مواجهة قوامها فعل تحرري عربي منسّق للدفاع عن المصير والسيادة والأرض والمقدسات والثروات، في مشروع تتعانق فيه قيم التحرير والديموقراطية، دون افتعال تناقض أو أولويات غير مبرّرة.
* كاتب وسياسي لبناني