أميمة عبد اللطيف *
قد يُعدّ التحالف السياسي لشرائح كبرى من الحركة السلفيّة، مع قوى 14 آذار المدعومة من الغرب مفاجئاً، لكن يمكن فهمه في سياق الترابط المذهبي، ولا سيما العلاقة مع تيار المستقبل. فأغلبية السنّة في لبنان يرون أن الحريري ورث عن والده مكانته القيادية. والسلفيون، على الرغم من اختلافهم مع الحريري بشأن قضايا رئيسية يتناولونها سراً، إلا أنهم لا يريدون «شقّ الصفوف السنّية» عبر مواجهة الحريري. ويمكن ثانياً لكلّ من السلفيين والحريري ادّعاء الوقوف في وجه «خصم مشترك» هو حزب الله، وإن كان لكلّ من الطرفين أسبابه. وفيما لا يربط الحريري نفسه في العلن بالسلفيين، فإنه لم يمنع حلفاءه قطّ من استخدام خطاب مذهبي لتعبئة الشارع تحت راية الدفاع عن أهل السنّة، وفي بعض الأحيان، لجأ الحريري نفسه إلى مثل هذا الخطاب عندما باءت الوسائل الأخرى بالفشل.

المستقبل والسلفيون: زواج مصالح

بيد أن بعض مؤيّدي الحريري لا يتّفقون مع هذا الطرح، مشيرين إلى أن بعضهم غير مرتاح إلى التحالف مع السلفيّين. فالمشروع السياسي لـ«المستقبل»، بحسب أحد أعضائه، يستند إلى أسس مختلفة كلياً عن أسس السلفيّين، «وما من تحالف أو عداء بين الاثنين، لكنّ مشروع الحريري يدعو إلى دولة للمواطنين جميعهم، بينما السلفيون يريدون دولة إسلامية». ويكمل العضو خاتماً: «لا يعارض المستقبل حزب الله من منطلق أسباب مذهبية، بل ببساطة بسبب تحالفاته الإقليمية».
ولا ريب في أن الغموض يلف العلاقة بين المستقبل والسلفيّين. ففيما يبقى «المستقبل» علناً بعيداً عن السلفيّين، يعمل نوّابه في الشمال على مدّ جسور التواصل مع الحركات السلفية اقتناعاً منهم بأنها تملك قاعدة شعبية واسعة يمكن أن تخدم مصالح «المستقبل» إبّان الانتخابات أو فترات التوتر السياسي. فالتيار المذكور استفاد، مثلاً، من الخطاب المعادي للشيعة الذي يعتمده بعض المشايخ السلفيّين لتعبئة الشارع السنّي إبّان صراعه السياسي مع حزب الله. وحالَ هذا الخطاب دون تشكيك السنّة في رؤية الحريري السياسية أو اشتباههم في غياب رؤية كهذه لديه وجعلهم يركزون على العداء لحزب الله وبالتالي للشيعة.
لكن التحالف مرّ بمراحل عصيبة، فالمواجهة مع «فتح الإسلام» ودعم الشخصيات الرئيسية الثلاث في الطائفة السنّية (رئيس الوزراء السنيورة والحريري والمفتي رشيد قباني) القضاء على مجموعة يراها الكثير من السلفيين مجموعة حليفة، أدّيا إلى إثارة التوتر الشديد وعدم الرضا في صفوفهم. كذلك يظن بعض السلفيين أن المستقبل «يستخدمهم» في صراعه السياسي مع منافسيه، سواء منهم القوى السياسية السنّية الأخرى أو حزب الله.
ويعتقد سلفيون تقليديون بأن الطريق السياسي المسدود في لبنان إنما هو نتيجة الصراع بين المحور السوري ـــ الإيراني من جهة والمحور الغربي بقيادة أميركية من جهة أخرى.
وما زالت مصادر تمويل السلفيّين مثار جدل كبير. فتقارير كثيرة تتحدّث عن تزويد الحريري السلفيّين بالمال لشراء ولائهم. ويشير البعض إلى أن هذا الفعل يستند إلى المذهبية، ويهدف إلى إنشاء «ميليشيا سنّية» للوقوف بوجه حزب الله في حال وقوع أي مواجهة في «المستقبل». غير أن القادة السلفيين ينفون، من جهتهم، نفياً قاطعاً حصولهم على تمويل من الحريري، مصرّين على أن الأموال تأتي بشكل رئيسي من جمعيات وأفراد متعاطفين في الخليج، لا من منظّمات تابعة للدول. فالشهّال، مثلاً، تربطه صلات قوية بعدد من الجمعيات الخيرية في السعودية.

السلفية و«القاعدة»

تُعَدّ المجموعات الإسلامية المسلّحة مستقلة عن «القاعدة» لجهة التخطيط والتمويل، لكن عقيدتها متأثرة بفكر التنظيم. وهي ليست ظاهرة جديدة، فهي موجودة منذ ما لا يقلّ عن 14 سنة عبر مجموعات صغرى تعمل مستقلّة بدلاً من العمل بحسب مرجعية إسلامية موحَّدة. وكانت لها حوافز عديدة، فبعضها استوحى عقيدته من الظلم اللاحق بالمسلمين في مناطق مختلفة من العالم. ومن الواضح أن تلك المجموعات لم تكن لها علاقة بـ«القاعدة» التي لم يكن صيتها قد ذاع بعد إلا من خلال أفراد قاتلوا في أفغانستان وعادوا إلى لبنان. ومن الخصائص المشتركة بين تلك المجموعات أنها:
1ـــ لا تؤمن بالعملية السياسية أو بالمشاركة في الانتخابات.
2ـــ تسعى إلى إرساء «حكم الله» ومحاربة من يؤذي المسلمين. فبعضهم ذهب ليحارب الأميركيين في العراق، بينما هاجم آخرون قوى قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان «يونيفيل».
3ـــ خلافاً للمجموعات السلفية الأخرى، هي لا تروّج لنشاطاتها، ونادراً ما تعلن مسؤوليتها عن التفجيرات.
ومن المجموعات الإسلامية المقاتلة الرئيسية التي برزت على الساحة اللبنانية:
مجموعة الضنيّة وعصبة الأنصار وجند الشام و«فتح الإسلام».

«القاعدة» في لبنان

لطالما رأى تنظيم «القاعدة» لبنان ممرّاً لتجنيد العناصر وتلقّي الدعم اللوجستي. بيد أن عام 2005 كان منعطفاً مهماً لدوره في هذا البلد. فقد سلّط عدد من التطورات الضوء على المجموعات المتأثرة بفكر «القاعدة» في لبنان، أوّلها مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي أظهر وجود فراغ أمني خطير، وثانيها ممارسة التحالف الأميركي ضغوطاً على عناصر «القاعدة» في العراق، ولا سيّما العرب منهم، أرغمتهم على البحث عن أماكن أخرى، وبدا لبنان أحد هذه الأماكن. ويتمثل التطور الثالث في موجة التوتر المذهبي المتصاعد في المنطقة برمتها التي ألهمت بعض المجموعات السنّية طلب مساعدة «القاعدة». وفي عام 2005، عُثر على بيانات موقَّعة من التنظيم تهدّد بقتل شخصيات شيعية في مناطق مختلفة من لبنان.
وفي كانون الأوّل الماضي، عثر سكّان منطقة البسطة المختلطة والمتوسّطة الحال اقتصاديّاً في قلب بيروت على منشورات معادية للشيعة تحرّض السنّة على «طرد الشيعة من المنطقة حيثما كانوا». كذلك عُثر على منشورات مماثلة في سهل البقاع. ولم تكن هذه المنشورات موقَّعة، لكن عدداً من البيانات الأخرى حمل توقيع «القاعدة» في بلاد الشام. غير أنّ صحّة هذه التوقيعات تبقى موضع شكّ لأنّ اسم «القاعدة»، بحسب أحد الخبراء اللبنانيين في الحركات الإسلامية، مجرّد واجهة تختبئ خلفها مجموعات محلية غير معروفة أو حتى وكالات استخبارات لتحقيق أغراض سياسية محددة أو لتصعيد التوتر بين السنّة والشيعة.
وشهد عام 2006 عدداً من الاعتقالات طاولت مجموعات وأفراد المتأثرين بـ«القاعدة». ويضمّ سجن رومية المركزي في لبنان الآن أكثر من 250 موقوفاً ينتمون إلى مجموعات سلفية شبيهة بالقاعدة أو إلى ما يتعارف عليها بأنها المجموعات السلفية الجهادية. بيد أن الاعتقالات لا تعني بالضرورة تمتُّع «القاعدة» بوجود تنظيمي في لبنان. وشرح المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللبنانية أشرف ريفي أن في لبنان «قاعدة مزيفة». ويحافظ ريفي، المقرّب من الحريري، على علاقات طيبة مع السلفيين، حتى أنه ذهب إلى حدّ إشراك بعض الشخصيات السلفية في الوساطة بين قوى الأمن الداخلي و«فتح الإسلام». وقد يظنّ البعض أنه من شأن هذه العلاقة «الطيبة» بين قوى الأمن الداخلي والعديد من القادة السلفيين إراحة البلاد والقوى الأمنية من الوضع المأساوي في نهر البارد. لكن الواقع لا يعكس ذلك. إذ مهما تصورّ قادة القوى الأمنية أنهم «يحكمون قبضتهم على السلفيين»، لا مناص من وجود عناصر تعمل خارج السيناريو المكتوب.
وليس مفاجئاً أن تمثّل المخيمات الفلسطينية المهملة في لبنان أرضاً خصبةً للمجموعات السلفية المتشددة، وعلى الرغم من أن المخيمات لا تخضع لإشراف الدولة اللبنانية، بحسب اتفاق سابق بين الدولة والفصائل الفلسطينية، فإنه ليس صحيحاً أن المؤسّسة الأمنية لا تملك منفذاً إلى المخيمات. فالاستخبارات اللبنانية تحافظ على وجود لها عبر عناصرها في المخيّمات، لذلك كان من المفترض أن تلمّ بالتطوّرات الحاصلة. بالإضافة إلى ذلك، فإن أغلبية تلك المجموعات كانت على اتصال بالمؤسّستين الأمنية والعسكرية، وكذلك بقوى سياسية لبنانية، كما كانت الحال مع النائب بهية الحريري وجند الشام في مخيم عين الحلوة.
كما ذكرنا آنفاً، لا يعمل الإسلاميون السنّة في لبنان ككتلة متجانسة، بل هم منقسمون بفعل اختلاف أهدافهم السياسية والاجتماعية. وفيما ستبقى المجموعات الإسلامية التقليديّة، على غرار الجماعة الإسلامية والأحباش وجبهة العمل الإسلامي، موجودة على الساحة كلاعبين أساسيين، فإن تدهور الوضع الأمني والسياسي في البلاد سيؤدي إلى تعزيز مواقع العناصر الأكثر تشدداً في صفوف الإسلاميّين. وفي الشمال، يبدو الشرخ جلياً بين القوى الإسلامية المختلفة المنقسمة بين متحالف مع المستقبل ومعارض له. ويؤدي هذا الشرخ بالذات إلى توليد الفراغ الذي تعمل فيه العناصر المتأثرة بتنظيم القاعدة.
ويُعزى تشدّد الشبّان السنّة إلى عدد من العوامل، أوّلها التقشّف الاقتصادي والبطالة المتزايدة وغياب الخدمات الأساسية والتهميش الاجتماعي. ويؤدي استهداف الشبان في الشمال واعتقالهم وتعذيبهم، بحجة ملاحقة المتطرفين، إلى زيادة الشعور بالاضطهاد في صفوف هذه المجموعات. فبعد مواجهة نهر البارد، شنّت القوى الأمنية حملة على السلفيين الشبان، زاعمة أنها تطارد العناصر الهاربة من «فتح الإسلام»، ما أدّى إلى تصعيد التوتر وزيادة شعور السلفيين الشبان بالاستهداف.
أما ثاني العوامل المهمة فهو الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية السنّية. فشرعية المؤسسة التي يرأسها قباني محلّ شكوك من بعض السنّة الذين يعدّونها «جهازاً تابعاً للمستقبل». وقد سبب ضعف المؤسسة غياب قيادة دينية تكون مرجعية لكثير من الشباب السنّي. والأهم أن دار الفتوى لا تشرف مطلقاً على المناهج التربوية في المؤسسات الدينية المختلفة التي يناهز عددها 300 مؤسسة في البلاد. ومن هنا، يُعَدّ ضعف المؤسسة الدينية مُسهماً بشكل مباشر أو غير مباشر في تشجيع الشبان السنّة على التشدد.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى القيادة السياسية لتيار المستقبل. فهي عدّت السلفيين، حتى الأكثر تشدداً بينهم، أدوات نفوذ تستخدمها ضدّ خصومها في أوقات التوتر السياسي. وقد يكون لهذا مفعول عكسي مع تزايد عدد السلفيين المتشكّكين في تحالفهم وولائهم لسعد الحريري نظراً إلى فشله في تزويدهم بالغطاء السياسي عندما احتاجوا إليه. ومع استمرار المداهمات والاعتقالات الأمنية للعناصر السلفية، سيزيد شعورهم بالنقمة. فهذه المجموعات استفادت من إضعاف تيار المستقبل للقيادات السياسية الأخرى في الشمال. ومن هذا المنطلق، إذا لم تغيّر الدولة اللبنانية استراتيجيتها إزاء السلفيين لتصبح أكثر حضوراً في المناطق الموبوءة بالفقر بحيث لا تترك سكانها تحت رحمة الوعود الانتخابية التي لا يُوفى بها أبداً، يبقى خطر تزايد التشدد المتأثر بتنظيم القاعدة في صفوف السلفيين قائماً بالفعل. ولعل الخطر الأكبر الذي تمثّله هذه العناصر المتشددة متعلق بالتوتر المذهبي في البلاد. وقد أظهرت أحداث عام 2007 أن التعبئة المذهبية يمكن أن تستحيل بسرعة توتراً قريباً من توتر الحرب الأهلية. وما دام الصراع السياسي في لبنان من دون حل، ستظل العناصر المتشددة في صفوف السلفيين تتمتع بنفوذ كبير. ولا تزال خطب الجمعة في العديد من مساجد طرابلس تحفل بتعابير تحريضية ضد الشيعة. ولعل انضباط حزب الله هو ما حال دون تحوّل التوتر المذهبي إلى مواجهة مفتوحة بين الطائفتين المسلمتين في البلاد. ففي يوم القدس (5 تشرين الأول)، أصرّ الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله على القول: «لو قتلوا منّا ألفاً، لن نُجرّ أبداً إلى الفتنة».
من جهة ثانية، قام حزب الله بما رأته أغلبية مؤيدي تيار المستقبل «أعمالاً استفزازية»، على غرار «الاستيلاء» على قسم من وسط بيروت والإحاطة بالسرايا الحكومية وإغلاق الطرق الرئيسية والسريعة في بيروت في كانون الثاني 2007. بيد أن كلا الطرفان أدركا خطر الانفجار المذهبي، وقاما بخطوات لتخفيف حدة التوتر والتراجع عن حافة الهاوية.
ختاماً، يتأثر الإسلاميون، شأنهم شأن أي قوة سياسية لبنانية، بالتطورات الإقليمية. وستظل الأحداث في العراق وأفغانستان تثير نقاشات عديدة بين الإسلاميين بشأن دورهم في السياسة والطريقة التي يمكنهم عبرها وضع حد لما يرونه «اعتداءً» مستمراً على المسلمين.
* باحثة مصرية

(هذه الحلقات نسخة مختصرة من دراسة تصدرها قريباً
مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي ومركز كارنيغي للشرق)




الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث