نسيم ضاهر *
يكاد الفلسطينيّون يقاربون مشارف دولتهم المنقذة من براثن الاحتلال، إثر اندحار مقولة «إسرائيل الكبرى»، فمن يمانع قيام الدولة الفلسطينية، ولماذا؟ وهل مَن يظنّ أن تجسيد حلم أجيال من المُعذَّبين، طرداً وقهراً وشتاتاً، آتٍ من عدم، أو بالعكس أن إنضاجه، توطئة لإتمامه، من السهولة بحيث يكفي إطلاق دفعة صواريخ بدائية لاستجلابه بالقوة وكسر العدو، أو يكتفي لزومه بجولة مفاوضات تنبري للقضايا الشائكة وتحسم موضوعاتها بسحر ساحر طبقاً لإملاءات الطرف الفلسطيني وترجمة ناصعة لحقّ تاريخي غير منازع عليه؟
لم تكن طريق الانبعاث الفلسطيني معبَّدة، ولم تُفرَش لها الورود يوماً، انطلاقاً، بالضبط، من جسامة المشروع الصهيوني وتردّداته.
بُعيْد ما أطلق عليه قدرياً تسمية «النكبة»، إخفاءً للفشل العربي الأصيل في احتواء مفاعيل الهجرة اليهوديّة وتجنّب اندفاعها نحو صيغة دولتية، ومن ثمّ، إخفاق العرب مجتمعة في الأمم المتحدة، إضافة إلى استثمار الوكالة اليهودية حاصل جرائم النازيّة جرّاء معاداة السامية، عاودت طلائع فلسطينية الكفاح انفعالياً، طلباً للثأر، وأيقظت الشتات من القنوط والاستسلام. مذّاك، خبر العمل الفلسطيني، فصائل تاريخية وثورة ومنظّمة تحرير وسلطة وطنية، كل أشكال النضل المسلّح وصيغه وتلاوينه، وجرّب انتفاضتي الحجارة والقدس. امتدت كلّ منهما سنوات، حاصدةً آلاف الضحايا والمآسي يراكم إلماماً دقيقاً بثنايا السياسة الإقليمية والدولية، ومعرفة بأحوال المحاور والصراعات.
الأهم، أن القيادة الفلسطينية وعت، في خضم الامتحان والأزمات، أولوية استقلال قرارها ضمانةً للحضور والاعتبار، وضرورة الكيان الدولتي معبراً إلى الوجود التاريخي الناجِز ونافذة على المستقبل، فوق بحر الآلام.
لا تعوز شعب فلسطيني الكوابيس، حيث وفَّرت له الغلوّ إسرائيل ما يفوق حصّة الأسد من صنوفها، إلّا أنّ تمزُّق نسيجه المجتمعي، بين قطاع وضفّة، جاء يكمل حصار تل أبيب وبمدّه بالعوف غير المباشر، فيما استولى على شطر من أبنائه، يعضدهم ويُؤازرهم الروافض، لغشاوات قومويّة أو جهادية تثقل على دليل الرؤية والمسار، وتصلي المفاوض الفلسطيني والمحادثات ناراً جانبية حادّة. المسألة أساساً، قبل كل شيء ، تتناول موقع الدولة من مفكرة المناهضين، وتعريف ماهيتها المتّكئة على تسوية تاريخية طرفها المقابل دولة عدوّة، يقضي الحلّ النهائي بالعيش إلى جانبها ووضع خاتمة لحالة العداء المديدوبديهيّ أن هذه المقاربة الواقعية تتخلَّّى عن القصووية القائلة بصراع الوجود، وتعترف بأن رفع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، لن يتحقّق كلياً، بل ينبغي التشبّث بأشمل قدر من الممكن المتاح في هذه الدورة الزمنية، والاقتناع بأنّ السلام بوّابة لون من تعويض لاحق للأجيال القادمة، رافعاته كفاءة الفلسطينيين ودورهم المقبل وعامل الديموغرافيا، ومعاهدته حاجة متساوية للفريقين.
ترتاب فصائل الرفض، وأبرزها حركة «حماس»، من مبدأ التسوية، وتخشى ملامسة حلّ مرئي، حفاظاً على طهارة أيديولوجية لا تغيِّر المجريات أو تفتح نافذة على النهاية السعيدة الموعودة من منظارها. وإذا ما طرحنا جانباً الرهان على حروب الألف عام، قلّما نجد لدى «حماس» و«الجهاد الإسلامي» خصوصاً، ما يُشبع اللهفة إلى إنجاز ملموس ودليل مادّي عن تبدّلٍ موضوعي في ميزان القوى. أضحت المناوشة الصاروخية تمريناً يمارسه المقنّعون من قطاع غزة المحرَّر مبدئياً، ثمنه الحصار والشهداء بالعشرات وغلافه إبقاء شعلة المقاومة المسلّحة بأسلوب يطال المدنيين وراء الخطّ الأخضر ويعطي المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية ذرائع إضافية للردّ القاتل العنيف والإغلاق. هكذا، تتوالى «العمليات» الانتقامية، رخوة، عشوائية، عقيمة في المعنى العسكري من الجانب الفلسطيني الضعيف والمعتدّ بجهوزية وسلاح لا يُقاسان بالماكينة الحربية للعدوّ، وتأديبيّة دموية قاهرة تجندل الناشطين والأبرياء بصلف الطرف الآخر. وإذا ما جُرِّدَ هذا المشهد الدرامي المأساوي من قشور الجهادية الملحميّة المجبولة بنازع تأبيد الصراع والتضييق على جهود الحلّ المتعثّر، تبدّت عبثية الحكاية التي تتكفل الضحية بتردادها، وتؤدِّي إلى حرمان جيش الفقراء المُتزايد في القطاع من سبل العيش وأدنى مظاهر الحياة اليومية العائدة للإنسان الفرد والجماعة الكريمة.
يتوخَّى الممانعون وضع العربة قبل الحصان. في الداخل، يصار إلى مفاقمة حالة التوجّس من نيات إسرائيل وطاقم السلطة الوطنية (ومنظّمة التحرير) المفاوض بسواء، والبناء على بطش تل أبيب وسياساتها القهرية، لمزيد من التأزيم والتعقيدات الميدانية وخنق فرص الانفراج النسبي، على خلفية المظالم والاستعلاء الإسرائيلي المُحرِّك لعجلة الاستيطان الفاجرة بكلّ المعايير. وفي المحيط الخارجي، يتناغم أحمدي نجاد، بتغطية من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، مع خطاب «حماس»، ويطرح زوال الكيان الغاصِب من زاوية رؤيوية وقراءة مؤمنة تحرّض، ملوِّحة بالصواريخ البعيدة المدى، وتبرِّئ ذاتها من الانخراط المباشر في العمليات.
كما تحتضن دمشق فصائل الرفض، الحاضرة والغائبة عن الساحة الفلسطينية، وتستقوي، عملياً، باستيلاء «حماس» على غزّة وانفرادها بالقيادة والقرار، لمُشاكسة نهج منظمة التحرير، على جاري عادتها المزمنة، يقينها أنّ صدارة الملفّ الفلسطيني وتقدّمه حركة المباحثات، قمينان بإرجاء التفاوض حول الجولان المحتل، وبالتالي، فهما يستأخران التعاطي مع سوريا من قبل إسرائيل والأسرة الدولية، ويُقعدان نظامها في غرفة الانتظار، في مرتبة ثانوية من الفعل والاهتمام، فضلاً عن تشحيل طموحات سوريا الإقليمية وإبعادها عن واجهة الأحداث وصنع القرار، وحرمانها رصيد وصاية بنته طوال عقود من المفاخرة بالأمانة القومية ومركزية الموقع والنفوذ.
بات التربّص بالمبادرات الدولية، والمفاوضات سِمَة المُؤتلفين حول محور طهران ـ دمشق، الحانقين على نمط العلاقات الدولية في مجمله. إمعاناً في إحراج الجناح الرسمي المفاوض. ذهب كارهوه إلى إسقاط مساعيه بالتعجيز، تحت ستار الثوابت، مطالبين بحلّ نهائي، فوري ومجّاني، لرُزمة القضايا الأكثر صعوبة وتعقيداً، بدءاً بترجمة حقّ العودة، دونما التزام منهم أو مجرّد وعد بالموافقة على النتائج. ومن النافل أنّ الغاية الكامنة وراء هذه المناورة اللولبيّة، تهدف إلى إظهار جبهة الرفض كأنها القيِّم على المقدّسات والمُتمسِّك العنيد بالثوابت، المعصوم عن الخطأ، غير المستعدّ للمساومة. وعليه، تلصق من برجها العاجيّ، تبعة التنازل والمقايضة بالطرف السائر في عملية السلام، لأنها معنيّة حصراً بالمراوحة في المكان والتبرّم من الأقدار.
في لبنان، رغم تجاوب منظمة التحرير الكلِّي مع المراد الوطني، المثبت، نصّاً وروحاً، بين سطور إعلان فلسطين في لبنان، الجريء والوافي، حاضراً وفي مراجعته النقدية للتجاوزات السابقة والارتكابات، يرتفع مستوى التحذير من التوطين، والعزف على الأوتار المذهبية والعنصرية، بداعي العُذرية والذود عن التوازن والسيادة والدستور. تستمرّ حرب الطواحين هذه بهمّة ناصحي المعارضة، وتدور رحاها اللفظية باشتراك فرسان من مشارب مختلفة، اجتمعوا على التنديد بمؤامرة قيد الإعداد، تستحضر فزّاعة وتوليفة لمضبطة اتهام، ومنصة للهجوم على المُتخاذلين والسائرين في ركب أو في فلك الغرب والأسرة الدولية المتواطئة. تتقاطع الدوافع، البريء الساذج منها، والمحكم هندسة وتدبيراً، على محاكمة النوايا ورسم السيناريوات الافتراضية المقوِّضة للإجماع الوطني المُكرّس في دستور البلاد. لكن ناظم الأداء واحد، يتوسَّل مسألة حسّاسة بنوع خاص، نظراً للتركيبة اللبنانية ومنقلبات الديموغرافيا، للانقضاض على التسوية الآيلة إلى إقامة دولة فلسطينية والظنّ بأنصارها، يضع العصي في دواليبها بعنوان لبناني، ويتوقّع الكسب تبعاً لخاصية اللجوء في المخيمات اللبنانية، ذي الغلبة الجليلية المطلّة على تراب فلسطيني شمالي مفقود جعله الاستيطان اليهودي رئة إسرائيل وأحد أكبر مراكز مجمّعها الصناعي.
في هذا السياق، يندرج أيضاً، تصميم حزب الله، قاطرة المعارضة، على إنزال الهزيمة بالولايات المتحدة، راعية المفاوضات وقطب الرباعية الدولية، فتأتي الحملة على التوطين في موازاة بيان تعذُّر عودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية، ما يولّد اليأس والدوران في حلقة مُفرغة، مردودها سلبي، توائِم بين صيغة الدولة الفلسطينية الموعودة واستبعاد فلسطينيي لبنان من الصورة والحسبان، ويكون قيامها مرادفاً للتوطين، خاتمة لملفّه وقنبلة موقوتة معدّة لتفجير لبنان.
من الغرابة مخاصمة أطراف عربية مشروع الدولة الفلسطينية وإعاقته، أيّاً بلغت المآخذ على نواقصه وصانعيه، في غياب بديل أفضل وسياج أفعل واقٍ من الصدمات. في مقدور الممانعين، الممسكين بسجل التحفظات، إيهام الضحية بالخلاص في عهدتهم، لكن البغيض والمحظور دفعها إلى طريق مسدود، والرسملة على استمرار عذاباتها، لقاء افتضاح عدوانية إسرائيل. إن معلم العمل الوطني مطرحه الأرض لا السماء، وبيرق السيادة لا يرفعه الملثّمون، إذ تنتفي حاجة الأقنعة في معرض التحرير ومحضر الأقوياء.
على هذا النحو، اقتُطع القطاع من السلطة الوطنية لينجو من الفساد وتسلّط الأجهزة الأمنية، فوقع في شراك ظلامية ممأسسة تنتهك حرمة التقاتل الداخلي، وتعرِّض أهل غزة وشبابها، بطيش ومثابرة، لقمع إسرائيل وحملاتها التأديبية، بينما يرزح المجتمع المدني تحت وطأة مفاهيم قروسطية، وسطوة المُسلحّين الديَّانين. كذلك، يُستخدم القرار 194، الصادر عن الجمعية العامة في الأمم المتحدة، المشكوك بنزاهاتها، مطيّة لعرقلة المفاوضات، (على علّاتها وصعوباتها ومطبّاتها المفتعلة إسرائيلياً)، من الحاقدين على استقلالية القرار الفلسطيني ومنهج الحكمة، تحت شعار رفض التوطين، وتنضمّ إليهم جوقة انتهازيين محليين وأدوات طيِّعة في لبنان. الغرض من هذه الجلبة غرضية موصوفة اعتادت الاتجار بقضية فلسطين وشقاء أصحابها، لا تخلو من مزيج قوموي مستهلك ووافد نهم إيراني، حليفه العصبية المذهبية والغرائزية الموصولة بالشعبوية والسلاح.
* كاتب لبناني