كمال خلف الطويل *
لنتخيل معاً أن هنداً كبرى ضمّت بين جنباتها 500 مليون مسلم من أصل 1400 مليون مواطن... أما كانت أفضل ألف مرة من شظايا باكستان وبنغلادش وهند فيها من المسلمين مائة وثلاثون مليوناً؟
أظنّ الجواب السريع والعفوي هو: نعم. لكانت أفضل وأثوب وأجدى ممّا جنت على الإسلام، وأمم عالمه، فعلّات رهط من التغريبيّين المسلمين زعموا أن التعايش بين الهندوس والمسلمين محال، وأن المناط بهم ـ قدراً ودوراً ـ هو فصم عراه، وهما الأخوة في الأعراق والأعراف والثقافة والتاريخ والعادات، فصماً يكفل للمسلمين كياناً يستقلون به عن الهندوس، وخلفاً مصغّراً لإمبراطورية المغول المسلمة، التي أوردها الاحتلال البريطاني لشبه القارة موارد التهلكة.
ليس من مبالغة توصيف باكستان تلك بأنها القرين الوحيد والتوأم لإسرائيل، لجهة تأسيسهما معاً على قاعدة الدين وحده، وفي العام ذاته، مع احتساب فارقين أساسيّين:
1ـ مسلمو باكستان، بجناحيها الشرقي والغربي، هم أهل الأرض وشعبها وأصحابها، لا مستعمرو استيطان إحلالي وافدون من أربع زوايا المعمورة كما حال إسرائيل.
2ـ مسلمو باكستان شعباً ـ وبعض نخب ـ هم من خيرة المسلمين مشاعر وأهواءً وولاءً... لا تثريب عليهم ولا ضرّ.
لكن مراجعة لسيرة باكستان، الدولة والمؤسّسة، تري كل بصير أنموذجاً فاقعاً لكيان قام في أحضان الاستعمار، واشتغل من حينها، بالقطعة تارة، ومن الباطن طوراً، وفي الجهر والعلن أطواراً أخرى، في خدمة الغرب الأنغلوساكسوني ربما، باستثناء برهة قصيرة لم تطل عن 1972 ـ 1977 عندما حكم ذو الفقار بوتو.

باكستان وحلف بغداد

منذ البدايات ألقى لياقات خان، خليفة المؤسّس محمد علي جناح وحاكم البلاد 48ـ51، بمجاذيفه صوب أشرعة الولايات المتحدة، وهي تشن الحرب الباردة، طلباً لسيادة كونيّة لا ينازعها عليها مخلوق.
ما كان ذلك هو السبب في اغتياله، بل نقمة بشتون الغرب على اقتطاع أرضهم من أفغانستان ـ بلاد البشتون ـ وضمها لباكستان، دون كثير اعتبار لممانعة قبائلهم.
تلت اغتياله فترة اضطراب دامت أعواماً ثلاثة، قبل أن يمسك بمقادير السلطة أوّل وزير دفاع للكيان الوليد: الجنرال إسكندر ميرزا ربيب العسكرية البريطانية في الهند.
دشّن ميرزا التزام باكستان مبدأ الأحلاف الغربية المطوّقة للمنظومة السوفياتية، عبر تأسيسه مع شاه إيران ـ العائد منذ عام على حراب وكالة الاستخبارات المركزية ـ ومع نوري السعيد رجل العراق الملكي القوي وأمثل عميل عقائدي للبريطانيين عرفه تاريخ العرب الحديث، ومع عدنان مندريس زعيم جناح الكمالية التركي المحافظ (الحزب
الديموقراطي) وحارس البوابة الشرقية لحلف الأطلسي... أسّسوا حلف بغداد (المعاهدة المركزية)، لينظم عقد تابعي الأطلسي في غرب آسيا وجنوبها، ويضبط إيقاعهم على نوتته.
استمرّ الدور الباكستاني ضمن الحلف حتى بعد سقوط ما سمي باسمه ـ أي بغداد ـ في أحضان حركة التحرر العربي، أو ما بدا كذلك. تجلّت ممارسة ذاك الدور في:
1ـ الاشتراك في حرب اليمن، تسليحاً وتدريباً لقوات الملكيّين ووحدات المرتزقة.
2ـ حماية نظام آل سعود من حركة القومية العربية، عبر حشد فرقة آلية باكستانيّة مع أسراب طائرات داخل مملكتهم، لتكون حزام الأمان قبل الأخير في حال تهدّدهم بشرّ، أي بعد قوات النظام ـ وبالذات الحرس الوطني ـ وقبل المنقذ الأخير أي القوات المسلّحة الأميركية.
3- حماية نظام آل هاشم من ذات الأخطار، عبر وجود مستشارين وطيارين عسكريين احتياطاً لديه، وهو ما تجلّى للعيان في دور كبيرهم ضياء الحق ـ مستشار الملك العسكري ـ تخطيطاً وإدارة لحرب أيلول 70 على المقاومة الفلسطينية، وفي قصف طائراتهم للفرقة الخامسة الآلية السورية التي سيطرت على الشمال الأردني ما بين18 ـ 25 أيلول.
ومن لياقت، إلى ميرزا، وصولاً إلى أيوب خان عام 1958، كانت حجّة النخبة الباكستانية الحاكمة أن منجاة باكستان وخشبة خلاصها الوحيدة من تفوّق الهند الكمّي هو الارتماء في أحضان الغرب الأنغلوساكسوني، ولا سيما أن النخبة الهندية لجأت إلى حياد بين المنظومة السوفياتية ـ الصينية والمنظومة الأطلسية. والحياد تلك الأيام كان، في التحليل الأخير، انحيازاً مضطرّاً إلى الأولى ـ وهي القريبة في الجوار ـ فراراً من جور الثانية، التي تزوّر عن كل من لا يرتضي التبعية... وذلك رغم أن النخبتين الهندوسية والمسلمة هما صنوان متشابهان لجهة الولع بالإنكليز وسيرتهم.
مع دخول حلف بغداد عام 54، أصبح الجيش الباكستاني هو الأداة الرئيسية للبنتاغون في جنوب آسيا، والقرين الموثوق للجيش الشاهنشاهي المعاد بناؤه وفق عمران أميركي ـ إسرائيلي بعد هزيمة أبو الوطنية الإيرانية الحديثة محمد مصدق، وللجيش التركي المتأطلس حتى النخاعفي القلب من هذا الجيش نشأ جهاز مخابرات للأسلحة المشتركة، نما وترعرع حتى بلغ رشده أواسط الستينيات.
جرّب الجيش الباكستاني حظّه ـ برعاية أميركية ـ صيف 1965، عندما شن حرباً في كشمير على خصمه الهندي أومأت بقدرته على الفعل في الميدان بنجاح لافت.
سمحت واشنطن بتلك الحرب لتختبر مياه هند، ما بعد نهرو، ووعيداً لخلفائه بسوء المصير إن اشتطّوا في حيادهم وفي شراكتهم مع عبد الناصر وصحبه في حركة عدم الانحياز والتضامن الأفرو ـ آسيوي.

ذو الفقار بوتو وتغيير الاتجاه

عام 1963، دلف إلى سلطة أيوب خان ـ وزيراً للخارجية ـ ذو الفقار بوتو: أهمية الرجل كانت في سيرته ورؤيته... هو ربما تأثر بطبائع عصره، وربما استهواه رموز من جيله وجيل سبقه، وربما استهجن أن يُختزل بلده مطيّة لسيّد ومخلباً لغرب.
من هنا ابتداعه لسياسة التقرّب من الصين، متستّراً بأنها شبّت عن طوق موسكو، وبالتالي فلا خوف من نفوذ الأخيرة، وهي الخصم اللدود لمرجعية باكستان الدولية، أي الولايات المتحدة.
لبث بوتو حليفاً لأيوب خان سنوات أربع، صعد فيها نجمه محلياً لحدّ استقطاب جمهور عابر للأعراق ومتّسع الحجم والثقل.
يحسب للرجل أنّه ـ وهو في سنته الأخيرة وزيراً للخارجية ـ حذّر عبد الناصر بنفسه ممّا يُعد له من تدبير يستهدف استئصال شوكته. كان التحذير في أعقاب اقتلاع أحمد بن بلا وسوكارنو ونكروما وبللو، وقبل قرابة عام من حرب 1967 وبعد عقد من حكمه، خرج أيوب خان منكسراً بضغط شعبي لا يلين. كان بوتو من أقوى محرّكيه.
من خلفه ـ يحيى خان ـ كان مثالاً نافر السوء لحاكم، عسكرياً كان أو مدنياً، إن لجهة الخلق أو القدرة. والثابت أن ما كان يعتمل من نفور بين شطري باكستان تحول ـ بفضل إدارته الخرقاء ـ إلى عداء صارخ مسّ عتبة الحرب الأهلية، بل ودلف إليها بسعار خلّف وراءه مئات الألوف من القتلى والجرحى والأسرى وملايين من المهجّرين وأكواماً من الدمار.
والشاهد على أن تلك كانت لحظة سانحة للهند لتنتقم من نكسة 1965، بذريعة عون البنغال المنفصل في الشرق، وبرعاية سوفياتية جليّة، ونالت أربها بامتياز في كانون الثاني 1971 تمزقت باكستان بين شرق وغرب، وانكسرت شوكة العسكرية الباكستانية لحين، ما مكّن صاحب الأغلبية الشعبية في باكستان الغربية ذو الفقار بوتو من الصعود إلى سدّة الحكم، لأول مرة في تاريخ الدولة بعد جناح، بوصفه مدنياً لا منازع أو شريك عسكري له.
والحقّ أنّ فترة 72 ـ 77 هي الفترة اليتيمة التي يصح القول إنها شهدت باكورة استقلال باكستان الحقيقي. اختطّ بوتو سياسة خارجية من أقانيم عدة: نزع فتيل التوتر مع الهند. قيادة تجمع إسلامي ـ عالمثالثي يكون بيضة القبان في صراع الحرب الباردة. امتلاك السلاح النووي رادعاً أكيداً لمصدر التهديد الرئيسي من الهند، وتعظيم العلاقة الوثقى مع الصين.
وكان الميسم العام لعهده، الاستقلال الجزئي ـ والمتنامي ـ عن مقاصد السياسة الأميركية في جنوب آسيا، والعالم على اتساعه. والحاصل أن سياسة بوتو كانت سبب اغتياله «القضائي» على يد «بينوشي» باكستان ـ ضياء الحق، بضوء أخضر أميركي، في تموز 1977 أولاً، ثم في نيسان 1979 ثانياً جزاءً وفاقاً على ما اقترفه من آثام بحق السيد.
واللافت أن خليفته في السياسة ـ ابنته بنازير ـ تعلمت من إعدام والدها الدرس الخطأ: لقد خرجت الفتاة بقناعة أن ما قاد لقتله كان عداءه لواشنطن، ومن ثمّ فالطريق الأسلم والأجدى هو التماهي معها والانصياع لمشيئتها... وهو فعلاً ما اختطّته من نهج، بدءاً من أوّل وزارة ألفتها خريف 1988، وانتهاءً بمصرعها نهاية 2007.
يمكن القول إن عهد قاتله ضياء الحق، الذي امتدّ أحد عشر عاماً (77 ـ 88)، هو مفصلي الطبيعة بكل ما للوصف من معنى: فيه تنامت المخابرات العسكرية المشتركة من جهاز متوسط الحجم إلى عملاق بأذرع يصعب عدّها، وإلى شبكة عنكبوت تتمدد في ثنايا وتلافيف المجتمع والدولة، بل والجوار.
وفيه مارست باكستان إحدى أخطر وظائفها منذ التأسيس، وهو الانخراط حتى الإبطين في عملية استخدام توظيفي للإسلام لمصلحة الولايات المتحدة وحربها الباردة، ما تطلّب «أسلمة» من نوع ما، للدولة بجناحيها المدني والعسكري، وإشرافاً على «جهاد» أفغاني، بدأ قبل الغزو السوفياتي بأشهر ستة، وقصد نصب فخ للسوفيات يحثهم
على الغزو، ومن ثّم الإطباق عليهم في مستنقع ينتقم من مصيدة فيتنام التي روّعت واشنطن قبل عقد من الزمان وأصابتها بعقدة مستحكمة قلّصت شهيّة استخدام القوة من 1973 وحتى 1991. بالمقابل، حادت واشنطن ببصرها عن المشروع النووي الباكستاني الذي أقضّ مضجعها في عهد بوتو، مكافأة للعسكرية الطّيّعة على أدائها الأفغاني، وبحساب أنه ـ أي المشروع ـ يقع، في التحليل الأخير، في خانة الصراع الهندي ـ الباكستاني، ولا صلة له البتة بالصراع العربي ـ الصهيوني.
تولّد من مفاعيل الانخراط الباكستاني المحموم في لجة «الجهاد» الأفغاني أن دبّت في أوصال المؤسسة العسكرية ـ الأمنية حمى «الأسلمة» التي فارت من الكوادر الدنيا والوسيطة إلى قشطتها رويداً رويداً، وتواصلت دون كلل حتى بعد توقف الجهاد بالانسحاب السوفياتي في شباط 1989. ضياء الحق هذا لقي مصرعه في آب 88 في حادث جوي مدبر، وبرفقته رافائيل، السفير الأميركي، ومدير استخباراته.
ليس من يقين بالمعلومات عن المسبّب، لكن احتمال الاستخبارات الهندية لخشية من هيمنة باكستان على أفغانستان بعد الانسحاب السوفياتي، لا يصمد أمام استبعاده لوجود السفير الأميركي، وأما الاحتمال السوفياتي فرغم وروده إلا أنني أستبعد قيام غورباتشوف، وهو الجاثي على قدميه أمام ريغان طلباً للصلح والغفران، بقتل سفيره بدم بارد.

البشتون والاستخبارات الباكستانية

يبقى في الحسبان قرار أميركي بالخلاص من ضياء الحق بعدما استنفد أغراضه وكبرت أحلامه بسعيه إلى الاستحواذ على أفغانستان بالواسطة. لكن، هل يضحّى برافائيل على مذبح السبب الأهم من المهم؟
لم لا، وقد عرف أن نصائحه كانت تصب في قناة «الضياء» صبح مساء؟ قُتل الرجل، وعاش تعاظم نماء الإسلاميين في المؤسّسة العسكرية ـ الأمنية. وبعلم أن isi (جهاز الاستخبارات الباكستانية) يعج بثقل بشتوني هو الأكثر تأثراً بالأسلمة ـ على غرار نظيره الأفغاني ـ وبتأثير أن البشتون يمثلون ربع تعداد سلك الضباط، فلنا أن نخمن حجم ما يعتمل في أحشاء المؤسسة من نفوذ وازن للإسلاميين، معطوفاً على تعاظم أعدادهم بين منتسبيها من البنجاب والبلوش والمهّجرين والسند.
والحاصل أن اهتمام واشنطن بالمسرح الأفغاني تلاشى فور انسحاب السوفيات منه، تاركة إياه نهباً لتنازع لوردات الحرب من «المجاهدين» المموّلين والمسلحين من وكالة الاستخبارات المركزية في أكبر عملية شبه عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية نفذتها المخابرات الباكستانية والسعودية والمصرية.
انتظرت الـ isi سنوات خمساً وهي تحاول أن تثبت أقدام مفضّلها الأول قلب الدين حكمتيار ـ البشتوني ـ بأمل الفوز على خصومه الطاجيك والأوزبك والهزارة، دون كثير نجاح، ثم لم تلبث أن اجترحت سبيلاً فريداً وغير مجرب هو خريجو المدارس الديوبندية الدينية من الأفغان، المعروفون بتقاهم وتشدّدهم وحسن سيرتهم، فأطلقتهم عام 1994 ليلقوا نجاحاً مشهوداً وصل بهم إلى السلطة خلال عامين، وبتفهّم أميركي مصحوب برضا تابعه السعودي.
والأكيد أنّ سنوات حكم «طالبان» الخمس كانت سنوات ذهبية لباكستان في مواجهتها المتفاوتة السخونة مع الهند، وكذلك في تواصلها شبه التماسي مع وسط آسيا.
خلالها تصاعد نمو موجة الأسلمة داخل صفوف العسكرية الباكستانية، ضبّاطاً ورتباء، ما أوصل إلى وضع تساكن ازدواجي بين ضباط عاشوا عمرهم على التماهي مع حلفائهم الأميركيين، قيمياً واستراتيجياً وفكرياً، وبين آخرين وجدوا في الإسلام ضالتهم، ولا سيّما أنه فعل فعله ـ بعونهم ـ في كسر شوكة السوفيات ومن يبدأ بهم ـ السوفيات ـ لا بدّ أن يُثني بخصمهم لو حسن إسلامه في عرفهم.
غصّ حلق الفئة الثانية من سلبية واشنطن نحو مصير أفغانستان ـ ما بعد السوفيات، وتراكمت مع الغصّة كل نوازع الاستياء من سياسات أميركية نحو عالم الإسلام، ليعتمل في صدور منتميها غضب متعاظم زاد طينه بلّة حظر توريد قطع غيار مقاتلات الـ أف 16 عقاباً على التصعيد المحموم ـ ولو الوجيز ـ مع الهند صيف 1990.
أقف هنا لأعرض سردية لوقائع ليست مدموغة ببراهين، وإن فاح منها بعض من رائحة وذاع عنها قدر من معطيات. تقول الرواية إنّ عدداً من ألمع الناقمين من ذوي الرتب الكبيرة في الجيش والـ isi عزم على أمر يحتاج إلى مزيج من الدهاء والكتمان والتخفّي والشراسة والبأس، كلها في إكسير واحد شربوه حتى الثمالة.
في وقت ما من عام 1999 استقرّ عزم هذه العصبة على توجيه ضربة ماحقة للبطن الأميركي الرخو في الداخل، تقوم به خلية من تنظيم «القاعدة»، الذي كان قد أمضى خمسة عشر عاماً في رعاية الـ isi منذ أيام الجهاد الأفغاني وإلى ذلك الحين.
تلك العصبة ضمت الجنرال محمود أحمد مدير الـ isi وقائد القوات الجوية المارشال مصحف مير، والجنرالات مظفر عثماني وجمشيد كياني وعزيز خان ومحمد يوسف... ومن منازلهم الجنرال حميد غول.
بدأ تدريب الخلية نهاية صيف 99 واستمر إلى بدايات 2001. والذائع أن آخر حوالة وصلت إلى الخلية كانت مرسلة من الجنرال محمود أحمد ـ بواسطة سعيد هاشمي من دبي ـ وأنه كان بنفسه في واشنطن في ذات يوم 11 أيلول لضرورات إتقان التمويه، وكذلك لتدبر المسألة إن كان نصيبها الفشل وتكشف من طرفها أمر. هنا تنتهي الرواية.
والطريف أن محمود أحمد كان في جلسة مع شيوخ الكونغرس عندما بدأت هجمات نيويورك وواشنطن، ليسارع عند وصول الخبر إلى ملاقاة نظيره جورج تينيت لبحث ما جرى.
حمل محمود أحمد إنذار بوش بالانصياع إلى قرار الرد الأميركي بالغزو واقتلاع القاعدة وطالبان لصحبه في إسلام أباد.
ورغم موافقة مبدئية من برويز مشرف ـ الموله بمصطفى كمال ـ على الانصياع، إلا أن القرار النهائي بالالتزام اتخذ في الأيام الأولى من تشرين الأوّل 2001 وفي اجتماع عاصف للقيادة العسكرية، انقسم الرأي فيه بين غالبية نسبية تؤيد، وأقلية وازنة ترفض.
خرجت الأقلية إلى منازلها عشية بدء الحرب في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، باستثناء مارشال الجو مصحف مير. لم يكن ذلك رأفة به... تعود الرواية للقول، بل للتغطية على قرار بقتله انتظر التوقيت الأمثل للتنفيذ، وكان في شباط 2003 عشية الحرب على العراق، حين تحطّمت به ـ بفعل فاعل ـ طائرة أقلّته مع عدد من قادة سلاح الجوّ، فضلاً عن زوجته.
مذّاك التاريخ، وحالة الانقسام، التي ظنت واشنطن أنها وئدت بعملية «التطهير»، تتناسل أشكالاً شتى، إذ لا تنحصر القصة في الجنرالات والبريجاديرات وحتى الكولونيلات، بل تهبط إلى أدنى الرتب، حيث تتكاثف أعداد الإسلاميين وتفيض عمن سواهم.
أليس لافتاً أن يدعو محمود أحمد الملا محمد عمر للصمود والقتال، مع نصحه بسبل اشتباك مع الغازي لم يصغِ لها الملا... (هكذا الرواية) فيما برويز ورهطه يتواطأون عليه بالمليان؟
أليست سابقة أن يؤمر الجيش الباكستاني بقتال مواطنيه في الشمال الغربي، قبائل وجماعات، بل ويؤذن للقاصفات الأميركية بإلهاب مناطقهم بنار من جحيم؟
الحاصل أنه كلما ازداد التزام «الأميركيين» بسيّدهم، اشتدّ عزم «الإسلاميين» على إحباط مقاصدهم وتخريب جهدهم. فطوال سنوات ست ونيف وحال التجاذب، بل والنزال، بين الفريقين تتفاقم، حارّة تارةً ولاهبة طوراً.
يندرج في ذلك اغتيال بنازير بوتو، مدلّلة واشنطن، على يد عناصر من الـ isi والقاعدة، وفشل الهجمات المتكررة للجيش على مناطق الغرب والشمال الغربي، وتصاعد قوة طالبان الأفغانية منها أو الباكستانية، فضلاً عن محاولات اغتيال برويز المتكرّرة.
نحن أمام ظاهرة تستحق دقيق الانتباه: في أحشاء العسكرية الباكستانية يمور حراك عنيف، سيحسم بعنف مصحوب بنزاعات أهلية تتّخذ قسمات عدة: منها العقائدي، ومنها العرقي، وحتى المذهبي (والجدير بعلم من يتحدّث عن شحّ السنة على الشيعة بشراكة الحكم، ونبذهم لهم وإقصائهم، أن يأخذ علماً بشيعية محمد علي جناح مؤسس الدولة، وإسكندر ميرزا أوّل ديكتاتور عسكري لها، وذو الفقار بوتو أول رئيس منتخب، وابنته بنازير أوّل حاكمة مسلمة مع العلم أن شيعة باكستان هم في حدود 15 في المئة من الأمة).

إشفاق كياني: حقبة جديدة

اختارت واشنطن الجنرال إشفاق كياني ـ أهم رموز التيار التغريبي في العسكرية الباكستانية ـ ليكون رجلها القوي المعتمد بديلاً قادماً من برويز. تصاحب ذلك مع قرارها الاشتباك المباشر مع القاعدة/ طالبان داخل باكستان، درءاً لاحتمال إطباقهما على قواتها، من الشرق والغرب، عبر السديم الباكستاني ـ الأفغاني، بل وفي محاولة استباقية لنصب فكّي كماشة حولهما عبر الحدود.
خطوة كتلك تعني الكثير: أوّل ما تعنيه أن الاستقطاب واصل الآن إلى ذروته، وما قد احتبس تحت السطح لنصف دزّينة من السنين هو في طريقه إليه فواراً هادراً ومعبأً بالحمم، يلهب بها ظهر الأرض وما عليها. لقد حال الحول على الكيان الوظيفي لباكستان، ليحسم أمره ويحدّد بوصلة على هديها يسير ويهتدي:
أهي في التواطؤ على إيران رعاية لانفصاليّيها البلوش وإسهاماً في حرب واشنطن السرية عليها، وفي التعاقد مع آل سعود شركة أمنية خاصة لهم، وفي خوض حروب واشنطن مرتزقاً بامتياز؟ أم في اعتماد نهج يقترب من مسار 72 ـ 77 لبوتو الأب، ويجنح عن مسار ابنته ـ السندريللا المقتولة، وإسكندر وأيوب ويحيى وضياء، فضلاً عن برويز؟
لن يطول أمد الانتظار. لكن القاطع هو أن باكستان ـ لتاريخه ـ ما كانت إلّا نازلة من نوازل دهمت عالم الإسلام في القرن العشرين، فأثخنت في جسده جراحاً على جراح. أيكون من تصاريف القدر أن يشتق ترياقها من السّم نفسه؟
* كاتب عربي