أحب البحار التي سأحبأحب الحقول التي سأحب
لكن قطرة ماء بمنقار قبّرة
في حجارة حيفا
تعادل كل البحار


تلك كلمات الأديب الفلسطيني الراحل محمود درويش التي قالها في مدينة حيفا الفلسطينية المحتلة، بلدة المبدعة الكاتبة والباحثة والسينمائية الفلسطينية ساهرة درباس. ليست ممن يعشقن حب الظهور، لذا يكاد المرء لا يسمع صوتها، خصوصاً هنا، في بلاد المقاومة، إلا عندما تشارك في مهرجان سينما، أو تكون عضواً في لجنة تحكيم سينمائية، أو تتسلم جائزة تكريماً لأحد إبداعاتها الفنية العديدة.

لكنها دوماً تظهر لنا، محبي فلسطيننا، من خلال أفلامها العديدة عن فلسطين وعن الجرح العربي في فلسطين، منذ أن أصدرت أول كتبها عن بلدات فلسطينية محتلة، أزالها العدو من خرائط المستعمِرين، لكنها بقيت منحوتة في جلودنا وفي ذاكرتنا وعلى عيوننا مرسومة؛ انظر، ترى فلسطين موشومة في بؤبؤ عيوننا.
بداية نشاط المخرجة ساهرة درباس كانت إصدار كتيبات توثيقية عن ثلاث بلدات فلسطينية مسحها العدو المغتصب من الخريطة، أسمتها «وطن عصي على النسيان». ربما كانت الخطوة الأولى في درب ساهرة، الناجح والراقي، لتحيل الذاكرة الفلسطينية الشفوية إلى أفلام نالت عن بعضها جوائز في إيطاليا وفي مهرجان الجزيرة الوثائقية.
ربما أكون من القلة القليلة هنا التي حظيت بمشاهدة أفلام المخرجة الفلسطينية ساهرة درباس، والتي تفضلت مشكورة بتزويدي قبل فترة بنسخ عنها، وفي مقدمتها فيلمي المفضل «غريبة في بيتي». أفلام ساهرة درباس هي لربما العلامة الفارقة في الإبداع السينمائي الوثائقي الفلسطيني حيث توثق للقرى الفلسطينية التي دمرها العدو الصهيوني، وبعدها لحق مخرجون آخرون. لقد بدأت بتوثيق الذاكرة الفلسطينية الجغرافية والاجتماعية عندما كتبت سيناريو فيلم «حيفاوي» الذي أخرجه درويش أبو الريش عام 1999.
أفلامها الأخرى «حفنة تراب» و«عروسة القدس»، وفيلما «كان بجعبتي 138 باوند - قصة هند الحسيني» و«عنب الكريستال - على الدرب لحياة أفضل» ضمن سلسلة «النساء والحرب والرعاية الاجتماعية في القدس» و«قرية ومذبحة دير ياسين». فيلم «غريبة في بيتي» أبدعته المخرجة الفلسطينية في الذكرى الأربعين لسقوط بقية مدينة القدس لقوات الاغتصاب الصهيونية حيث دعت ثمانية مقدسيين لزيارة بيوتهم في القدس الغربية المحتلة عام 1948، جاعلة من الذاكرة الشفهية صوراً متحركة، لا يمكن لأي لغة تعويضها. رافقتهم إلى بيوتهم التي أخرجوا منها بالقوة العام 1948... تقطع معهم شوارع المدينة المحتلة التي لم تطأ أقدامهم شوارعها منذ ذلك الحين... تراهم يحاولون التعرف إلى المواقع بعد غياب طال أكثر من نصف قرن. يصعدون هذا التل، ويعبرون هذا الشارع إلى المنحنى الثاني، ثم يعرجون ميمنة ثم ميسرة، وبعدها يعودون إلى الطريق القديم... إلى أن يعثروا على منازلهم. يصفون كلاً منها، هنا شجرة كنا نتظلل بظلها في الصيف، وهنا عمود، وهذا اسمنا على بوابة المنزل... وهنا كان جدار أزلته أيها المغتصب.
ألم أقل: إن شكل الوطن في بؤبؤ عيوننا موشوم.
الضحية التي التقت الجلاد وجهاً لوجه لم تذرف الدمع. ترى فيها كل العنفوان والكبرياء: هذا بيتي وأنتم أخذتموه بالقوة مني. هذه بلادي التي أخرجتموني منها. في هذا البيت مستوطنة مهاجرة من ألمانيا، وفي ذاك آخر لا يدري من أين أتى لينقض على وطننا...
ساهرة درباس صورتهم كما هم، يتحدون عدوهم، رغم التباين الهائل في القوة، بكبرياء قلّ نظيره، مثل ذاكرتهم.
متى نلتقي ساهرة درباس في بلاد المقاومة!