فرج الأعور *
خُصِّص عدد 30 كانون الأول 2007 من ملحق النهار بكامله للتفجُّع على «الانتفاضة المغدورة»، أي تظاهرة 14 آذار 2005. وشارك في هذا التفجُّع عدد من كتّاب الملحق الدائمين، إلى جانب بعض الأقلام الأخرى. ولم نقرأ في العدد أي شيء مفاجئ أو غير متوَقَّع، وخاصة أن اصطفافات جميع الكتَّاب المذكورين بالنسبة إلى الانقسام اللبناني الحالي معروفة جداً وآراء معظمهم من مختلف القضايا المطروحة في البلد منذ انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990 معروفة أيضاً وبعضها يتكرر في «الملحق» أسبوعياً منذ سنوات.
لكن مقالين من مقالات العدد المذكور، لزياد ماجد والياس خوري، أثارا لديّ الرغبة في التعليق عليهما ومناقشتهما وذلك بسبب الآراء والتحليلات الواردة في المقالين من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب موقف الكاتبين المعلَن من حرب تموز والمتمايز عن باقي مثقفي 14 آذار على الأقل حول تعيين «العدو» في هذه الحرب والوقوف ضده بشكل واضح، بحيث يتيح هذا الموقف انطلاق النقاش من مساحة مشتركة معيَّنة حول هذا الأمر.
يرتكز كلا المقالين على الانبهار الشديد «بالإنجاز المهول» لـ«الانتفاضة» المتمثل بخروج الجيش السوري من لبنان، وكأن خروج الجيش السوري أتى نتيجة لهذه «الانتفاضة» لا نتيجة لتراكم العوامل الناجمة عن تغيُّر السياسة الأميركية في المنطقة العربية وما نجم عن هذا الأمر من ضغط على سوريا أخذ من اغتيال الحريري قوة دفع هائلة أدت في النهاية إلى هذا الخروج. وينسحب الانبهار في المقالين أيضاً على ما حدث يوم 14 آذار 2005 ونزول الجماهير إلى «ساحة الحرية» وبنائهم «مخيّم الحرية» من دون أي نقاش حول كون هذه الجماهير عبارة عن موزاييك ملوّن وغير متجانس ومكوَّن من «جماهير» ثلاث طوائف من الطوائف الأربع الكبرى في معادلة ميزان القوى الطائفي في البلد، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار أن مجمل الدوافع التي دفعت بجمهور كلٍّ من هذه الطوائف الثلاث للنزول إلى الساحة هي دوافع خاصّة بالطائفة ذاتها ولا تتّفق مع دوافع جمهورَيْ الطائفتين الأخريين سوى حول مطلب خروج القوات السورية من لبنان.
هذا مع العلم بأننا نجد في مقال الياس خوري تنبُّهاً مفاجئاً للدافع الطائفي لنزول الجماهير إلى الساحات، ولكن فقط حين يعتب على «الشيعية السياسية» لأنها لم تتفق مع «باقي اللبنانيين»، أي مع الطوائف الثلاث الأخرى، على المطلب ذاته، وبالتالي لم تنزل جمهورها إلى ساحة «الانتفاضة»، بل أنزلته إلى ساحة مقابلة وأفسدت المشهد كله. أما جماهير «الانتفاضة» فلا يعير خوري أي اهتمام لتكوينهم وللقوى التي حشدت أكثريتهم الساحقة (ولا نظن أن الكاتب يمكن أن يدّعي أن أكثرية الحشد الساحقة جاءت من جماهير «اليسار الديموقراطي» العلمانية). ويكتب عن بناء «مخيّم الحرية» كفصل أساسيٍّ من فصول «الانتفاضة» من دون أن يخبرنا مثلاً عن تمويل بناء و«سكن» هذا المخيَّم وعن مدى استقلالية الشباب الذين بنوه وخيّموا فيه وعن نهاية هذا المخيَّم وكيف تفكك (عند قيام الحلف الرباعي) وتحوَّل إلى عدّة مخيَّمات متقابلة ومتنافرة بل ومتقاتلة في كثير من الأحيان.
ويتأسف خوري لكون «الانتفاضة» أبقت على سؤالين أساسيين من دون جواب، الأول يتعلّق بمستقبل لبنان الذي لم تقدِّم «القوى الاستقلالية» أي «رؤية جديدة» له، والثاني يتعلَّق بالبنى الطائفية في البلد والتي بدل أن «تتراجع أمام الزخم البشري الهائل» ازدادت رسوخاً. ولست أدري من أين جاء الياس خوري بالأمل في أن يحصل على أجوبة عن هذين السؤالين من «الانتفاضة». فتاريخ «القوى الاستقلالية» التي قادت «الانتفاضة» معروف. وهذه القوى هي عبارة عن قوى طائفية حاكمة تشكل أجزاء أساسية من النظام الطائفي اللبناني، بعضها حديث العهد في حكم الطوائف ويعتمد بشكل أساسي على أموال النفط كوسيلة للحكم، أما بعضها الآخر فقديم العهد جداً بذلك، وتمتد جذوره إلى ما قبل الاستقلال. لا بل إن أدوار بعض القوى الأساسية التي شاركت في قيادة «الانتفاضة» لا تزال قائمة وممتدّة بشكل مستمر منذ أيام الإقطاع الذي حكم جبل لبنان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولا يزال القائمون على هذه القوى يعتمدون الأساليب ذاتها و«التكتيكات» المتوارثة عن الأسلاف وما تحمله تلك الأساليب من براعة فائقة في تقلُّب المواقف والسياسات والأحلاف الداخلية والخارجية وفي الاستماتة في تأمين مصالح القوى الكبرى والسعي للبقاء دائماً وأبداً على الجهة الراجحة من ميزان القوى الإقليمي، وذلك في سبيل تعزيز حصصهم في النظام وفي كعكة الحكم على حساب أخصامهم المفترضين من القوى الطائفية الحاكمة الأخرى، سواء داخل طوائفهم أو في الطوائف الأخرى. ولم تكن مشاركة هذه القوى في قيادة هذه «الانتفاضة» بعد المحاربة بسيف السلطان السوري والتربع على عروش طوائفهم والتنعُّم بحصصهم المنتفخة من كعكة الحكم لثلاثين عاماً سوى مثال عاديّ آخر من الأمثلة الكثيرة التي توضح طبيعة هذه القوى وفهمها لممارسة السياسة في البلد.
فكيف أمكن الياس خوري إذاً أن يأمل من هذه القوى أن تقدم «رؤية جديدة» لمستقبل لبنان، في حين يعتمد وجود هذه القوى من أساسه على بقاء لبنان على حاله وعلى منع إدخال أي تطوّر على نظامه الطائفي الذي بني في الأصل على قياسها. والشيء نفسه يمكن أن يقال طبعاً عن خيبة أمل الياس خوري لأن البنى الطائفية لم تتراجع أمام «هذا الزخم البشري» في 14 آذار، بل ازدادت رسوخاً (مع تجهيل كامل للفاعل. إذ لم يأتِ على ذكر القوى التي عملت على ازدياد الرسوخ هذا، ربما لأن هذه القوى هي ذاتها التي يطلق عليها اسم «القوى الاستقلالية»). ولا ندري كيف كان يمكن لزخم بشري أمكن تأمينه فقط بواسطة حشد القوى الطائفية الحاكمة لجماهيرها إلى تراجع البنى الطائفية في البلد. وكيف أمكن لخوري أن يتخيَّل أن القوى الطائفية الحاكمة يمكن أن تحشد جماهيرها في سبيل تراجع البنى الطائفية التي تكوّن العمود الفقري لتحكُّم هذه القوى في طوائفها. ولا نريد أن نفترض أن خيبة الأمل هذه عند خوري ناتجة من ازدياد رسوخ البنى الطائفية «للشيعية السياسية» فقط من دون النظر إلى البنى الطائفية الأخرى والتي نأمل منه أن يتفق معنا على خطورتها على البلد وعلى عروبته وعلى إمكان تطوّر نظامه باتجاه العلمنة المنشودة.
ولا يأتي خوري في تحليله على ذكر رهان «القوى الاستقلالية» على الخارج سوى عند انتقاده «للتصوّر الأرعن لما سيقوم به المجتمع الدولي». ويهمّنا جداً أن نعرف أسباب تأخّره لثلاث سنوات طوال في اكتشاف «رعونة» هذا «التصوّر»، وخاصّةً أنه يأتي على ذكر مواقف «القوى الاستقلالية» إياها من حرب تموز والتي «بدت في المراحل الأولى من الحرب وكأنها تقف إلى جانب الموقف الأميركي».
إن هذه المواقف لم تهبط فجأة على قوى «الانتفاضة» عند وقوع حرب تموز، بل أتت متناسقة تماماً مع الخط البياني لرهان هذه القوى منذ اليوم الأول «للانتفاضة» على ما يمكن أن تقوم به أميركا تحت تسمية المجتمع الدولي، وقد كان هذا الرهان ولا يزال رهاناً أرعن بالفعل. لكن رعونة هذا الرهان وما أدّى إليه من اندراج «الانتفاضة» وقواها المحرّكة بشكل كامل في السياسة الأميركية في المنطقة، لا بل في الحرب الأميركية الجارية لاحتلال المنطقة وإعادة رسمها (بحجّة الالتقاء مع المجتمع الدولي)، كانا واضحين وضوح الشمس منذ اندلاع هذه «الانتفاضة» في الرابع عشر من آذار.
ويبدو الدور الحاسم للتفويض الأميركي لسوريا في دخول جيشها إلى لبنان، ولسحب هذا التفويض في انسحاب جيشها من لبنان، واضحاً عند زياد ماجد. لكن المشكلة هي أنه يبدو من مقاله وكأن «بداية التاريخ» حدثت يوم حدث هذا التفويض، حيث لا يأتي على ذكر المرحلة التي سبقت يوم تسليم لبنان بالكامل إلى النظام السوري في عام 1990، وما هو دور القوى الطائفية (ويستوي في هذا الدور جميع هذه القوى من الذين انضموا إلى معسكر «الانتفاضة» والذين انضموا إلى المعسكر المقابل على حد سواء) التي تورطت حتى الأذنين في الحرب الأهلية ومجازرها وفسادها، في تهيئة الأرض ونفوس اللبنانيين لتقبّل دخول الجيش السوري إلى لبنان وتقبّل تسليم لبنان بالكامل إلى النظام السوري في عام 1990، والذي أدّى حسب زياد ماجد إلى عيش لبنان «أرذل العمر سياسياً»، حيث أعيد تركيب المؤسسات حسب أهواء المخابرات السورية وجرى التسلط على الإعلام وهيئات المجتمع المدني وتهميش السلطة القضائية وتدمير الجامعة اللبنانية والنقابات، ناهيك عن استشراء الفساد في كل مفاصل الدولة.
ولكن بالرغم من صحّة وصفه لحالة لبنان تحت حكم النظام السوري، لم نقرأ في المقال رأي الكاتب بأدوار بعض «القوى الاستقلالية» من أعمدة «الانتفاضة» في كل ما سبق. ونرجو أن لا يكون توصيفه الحالي أصبح يختلف مع توصيفنا لهذه الأدوار ولمقدار مساهمتها في عملية التدمير المنهجي لمقومات الدولة اللبنانية والتي بدأت خلال الحرب الأهلية واستمرت بعدها بالوتيرة نفسها.
فما حصل منذ بدء التفويض الأميركي لسوريا إدارة لبنان بالكامل، هو أن النظام السوري حكم لبنان بواسطة توازن قوى سياسي طائفي بين أطراف الحرب الأهلية شبيه بتوازن القوى العسكري الذي كان النظام ذاته يحرص على استمراره بين ذات القوى والطوائف طوال الحرب الأهلية. وهكذا استمرت مرجعية دمشق حاجة ضرورية عند جميع هذه الأطراف بعد نهاية الحرب، تماماً كما كانت مرجعية دمشق أيام الحرب حاجة ضرورية للبقاء. وقد أقيم هذا التوازن السياسي الطائفي بواسطة العصا والجزرة معاً، وتمثلت الجزرة بافتتاح «دكان» داخل الدولة لكل طرف من أطراف الحرب الذين بايعوا الحكم السوري للبلد بمجملهم، والذين شذ عنهم الطرف الماروني فقط والذي كان الطرف الوحيد الذي خرج من الحرب بهزيمة عسكرية. ولكن من المهم جداً التذكير بأنّ هذه الدكاكين من صناديق ومجالس ووزارات خدمات دسمة على أنواعها فُتحت وعُززت من قِبل التحالف ما بين النظام السوري والحكم الحريري الذي تسلّم الدولة منذ عام 1992.
ويحتار المرء في تفسير الآمال العريضة التي وضعها زياد ماجد بهذه «الانتفاضة» التي أشعلها أطراف استفادوا حتى الشبع من الوضع الذي كان قائماً أيام كان لبنان يعيش «أرذل العمر سياسياً»، ولم تقفز من المركب إلا حين استشعرت بمهارتها المعهودة «باللحظة الإقليمية» الجديدة التي أُسست على سحب التفويض المُعطى للنظام السوري لإدارة لبنان. ويحتار المرء أيضاً في أسباب تصديقه بأن «طوفاناً بشرياً» في 14 آذار هو الذي أدى إلى خروج الجيش السوري من لبنان، لا «اللحظة الإقليمية» الآنفة الذكر والتي يستفيض بشرحها في مقاله.
وتتحوّل الحيرة إلى دهشة حين يتحدث زياد ماجد عن «إلهاء الأميركيين في بغداد والرمادي» بلهجة توحي بتسخيف المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي (ونحن لا نتكلم هنا عن الحرب الطائفية البغيضة الدائرة في العراق، بل عن مقاومة الأميركيين فقط)، ونأمل أن لا نصل إلى يوم يحدثنا فيه زياد عن «إلهاء الإسرائيليين» في غزة ونابلس وجنين في فلسطين، وفي بنت جبيل ومارون الراس ووادي الحجير في جنوب لبنان، وخاصّة أن كلامه عن حرب تموز «وما حملته من ضرر على نسيج لبنان الداخلي» أتى من دون أيّ ذكر لعلاقة هذا «الضرر» بموقف قوى 14 آذار من هذه الحرب.
إن المأساة الفعلية التي أظهرتها حرب تموز هي أن فترة ثلاثة أشهر بعد انتهاء هذه الحرب كانت كافية للسرطان الطائفي اللبناني كي يقسم البلد عمودياً ويحصر النقاش على الصعيد الوطني في حقوق الطوائف بعد أن تمكن من طمس السابقة التاريخية التي تمخضت عنها هذه الحرب والمتمثِّلة بالصمود الأسطوري للمقاومة بوجه الجيش الإسرائيلي في ميدان حرب تقليدية، بالرغم من الفارق الهائل بين أحجام الفريقين، والناجم عن تمكّن فريق عربي للمرة الأولى منذ عام 1948 من الوصول إلى التكافؤ النسبي مع إسرائيل، وخاصة من نواحي الجدية في الإعداد للحرب والقدرة على التخطيط وعلى استعمال التكنولوجيا أثناء الحرب، إلى جانب حرفية المقاتل الفرد والاحترام المتبادل بين هذا المقاتل والقيادة.
وتصبح المأساة أكبر حين يتمكن هذا السرطان الطائفي من حجب هذه السابقة التاريخية في الصراع العربي الإسرائيلي، والتي أتت بعد نقطة التحوّل الأخرى التي أحدثتها المقاومة في الصراع العربي الإسرائيلي في عام 2000، عن أعين مثقفي اليسار الملتحق بفريق الرابع عشر من آذار، والذي سماه جوزف سماحة يوماً اليسار الكولونيالي.
* كاتب لبناني