يحيى فكري *
ما حدث على الحدود المصرية ـــ الفلسطينية، يجسّد حالة النظام المصري الواقع بين سندان الإمبريالية ومطرقة الجماهير. ويجسّد الحدث كذلك عجز هذا النظام عن تجاوز وضعه المرتبك محلياً وإقليمياً. وهاتان سمتان أساسيتان لقراءة حركته في كل المجالات.
فعلى غرار البوتقة المحكَمة الإغلاق الممتلئة بالماء والموضوعة على أتون من النار، يغلي بها الماء ويبحث البخار المضغوط داخلها عن نقطة ضعف في جدارها لينفجر... هكذا اندفع مئات الآلاف من الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة ليقتحموا معبر رفح ويندفعوا إلى سيناء المصرية. حوالى سبعمئة ألف فلسطيني (حسب التقارير الصحافية) اقتحموا الحدود، كاسرين الحصار المفروض عليهم، وانتشروا في المنطقة الواقعة ما بين رفح المصرية والعريش في شمال سيناء. وقد جاء الحدث ضربة قاصمة جديدة على ظهر النظام المصري، الذي تتوالى عليه ضربات الاحتجاجات الاجتماعية في الداخل، والضغوط الدولية من الخارج، كما جاء ليفتح الباب من جديد أمام حركة شعبية تتصاعد اليوم للتضامن مع الشعب الفلسطيني، هذه المرّة على خلفية ورصيد حركات الاحتجاج السياسية والنضالات الاجتماعية التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية.
منذ نحو ثماني سنوات، في نهايات عام 2000، كانت الأقدار تخبّئ للنظام المصري مأزقاً شديد التعقيد. فمن ناحية، جاء فشل مفاوضات «كامب دايفيد» الثانية وانهيار مشروع «أوسلو» وانطلاق الانتفاضة الفلسطينية، ومعها حركة التضامن الواسعة في مصر، ليقلب التوازن السياسي في الداخل ويفتح الباب أمام عودة الحياة للحركة السياسية وصعود الحركات الشعبية. ومن ناحية أخرى، وضعت الأزمة الاقتصادية التي بدأت تتفاقم في ذلك الوقت، النظام أمام ضرورة الاندفاع في السياسة الليبرالية الجديدة، بما يعنيه ذلك من تحميل فقراء مصر ـــ الغالبية العظمى من الشعب ـــ أعباءً مضاعفة، ما عادوا قادرين على تحمّلها، لمصلحة الاستثمارات ورجال الأعمال. ومن ناحية ثالثة، أتى صعود المحافظين الجدد إلى الإدارة الأميركية ليقضي على مساحات المناورة أمامه ويفرض عليه الانسحاق الكامل أمام السياسة الإمبريالية في المنطقة.
تعامل النظام المصري مع مأزقه بالاستجابة لضغوط الإمبريالية والتحوّل إلى رأس حربة لسياساتها في المنطقة، ودفع قطار الخصخصة والعبث بقوت الفقراء، وأيضاً بتشديد قبضته القمعية لكبح حركة التغيير وتقليص أدوار جناحيها (شبه العلماني «كفاية»، والإسلامي «الإخوان»). إلا أن الحراك السياسي من جانب، والأزمة الاجتماعية من جانب آخر، دفعا قطاعات كبيرة من فقراء المصريّين لخوض نضالات مطلبية متنوّعة خلال العام الماضي، ما زالت تتصاعد حتى اليوم.
وعلى خلفية ذلك، جاء اقتحام الشعب الفلسطيني للحدود المصرية ليكشف بوضوح أمام أعين الجميع، تفاقم مأزق النظام المصري وعجزه عن الخروج منه، وليفضح الادعاءات الكاذبة لمبارك ورجاله عن استقرار الأوضاع.
أدت زيارة بوش الأخيرة إلى المنطقة دوراً بلا شكّ، في تشديد الحصار على غزة وإجبار مبارك على التشدّد في إغلاق المعابر، بينما جاء الاقتحام الفلسطيني للحدود في التوقيت نفسه الذي أصدر فيه البرلمان الأوروبي قراراً ينتقد بحدة الممارسات القمعية للنظام وملف حقوق الإنسان في مصر، هذا القرار الذي أصرّ البرلمان على إبلاغ دول الاتحاد الأوروبي به رسمياً، وبما سيؤثّر حتماً على المعونات الأوروبية واتفاقات الشراكة.
ويأتي هذا القرار بعد وقت قصير من قرار الكونغرس الأميركي المشابه له بتقليص المعونات الأميركية المقدَّمة إلى مصر، لأسباب تعلن أنها تتعلّق بمسائل القمع وحقوق الإنسان. هذه الضغوط المركَّبة تعيد إلى الأذهان أجواء مطلع الألفية. فالإمبريالية تضغط على مصر لإجبار الفلسطينيين على الركوع وقبول مشاريع السلام الوهمية، وهي تمارس لأجل هذا الهدف سبل ضغط متعددة، في مقدّمتها التلويح بالعقوبات الاقتصادية ووقف المعونات، مستخدمةً في ذلك ملف نظام مبارك البائس في حقوق الإنسان.
بينما على الجانب الآخر لم تعد الجماهير مستعدّة لقبول المزيد من الضغوط، أو قادرة على الاستمرار في تحمّل ما تعانيه من جوع، سواء بسبب الحصار في فلسطين، أو الفقر في مصر. لقد كشف مشهد اقتحام الحدود عن حجم الضغط الهائل الواقع على الشعب الفلسطيني، ولم يكن في مقدور النظام المصري التصدي للسيل الجارف المتدفق ومنعه، فهو يعلم جيداً أن الأمر سيحتاج في هذه الحالة إلى مذبحة، لن تقتصر فقط على رفح، وإنما ستمتدّ وبلا أدنى شكّ إلى شوارع القاهرة. لقد أُسقط في يد مبارك بالفعل وأصيب النظام بارتباك واضح ظهر من ردود أفعاله. فقد حاولوا التصدّي بالمنع في البداية وأدانوا محاولات الاقتحام، حتى إن أحد مرتزقة النظام (الصحافي سمير رجب) وصف تلك المحاولات ساعتها بأنها «عدوان سافر»!! إلا أن الأمر لم يكن يحتمل، فقد خرجت تظاهرات واسعة في العديد من المدن المصرية لدعم الاقتحام والمطالبة بفكّ الحصار، كما أن التدفّق الفلسطيني كان من القوة بحيث سيحتاج أي عمل حقيقي لمنعه إلى إهدار دماء كثيرة، وهو أمر لا يقدر النظام على تحمّله، كما أنه لا يضمن استعداد الجنود المصريّين لتقبله. هكذا لم يكن أمامهم إلا الرضوخ مؤقّتاً للأمر الواقع، والخروج بإعلان يدفع إلى السخرية، أنّ مبارك هو من أمر برفع الحصار والسماح للفلسطينيين بالتدفّق!
أمّا الأثر الأهم لما حدث، فكان عودة الحياة إلى روح التضامن مع الانتفاضة وسط الجماهير المصرية. ولم يقتصر الأمر على التظاهرات الواسعة، التي انتهت باعتقال عدّة آلاف، وإنما تجاوزها إلى البدء السريع بحملات لجمع التبرّعات المادية والعينية وخروج قوافل الدعم من القاهرة وعدة محافظات. والمرجّح أن عودة الحيوية داخل مصر في اللحظة الراهنة لحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني، في ظلّ تصاعد الحركات الاجتماعية المطلبيّة، سيؤدّي دوراً هامّاً في تحقيق الربط ما بين المطلبي والسياسي وسط الاحتجاجات الجماهيرية.
هذا الهدف الذي كان الشاغل الأهمّ لقوى المعارضة الجذرية خلال الشهور الأخيرة، يظهر إمكان تحقّقه اليوم من حيث لم يحتسب أحد، بفضل جسارة وبطولة الجماهير الفلسطينية. وهكذا يعود مأزق النظام المصري ليكشف عن نفسه مجدّداً، ما بين ضغوط دولية متشدّدة وأزمة اجتماعية خانقة ووضع إقليمي ينفجر في وجهه، بينما تتصاعد في مواجهته، من أسفل هذه المرّة، حركة تفتح الباب للخلاص، وتعيد الأمل في التحرّر من فساده واستبداده.
* صحافي مصري