strong> صباح علي الشاهر *
لا لأن العلَم القديم، كما يردّد المُهيّجون، علم الله أكبر، فالعلم الجديد المقترح من برلمان المنطقة الخضراء يحمل هذه العبارة المقدّسة ويبرزها أكثر مما كان يبرزها العلم القديم. ولا لأن من غيّر العلم حذف النجوم التي ـــــ حسب البعض ـــــ ترمز لعروبة العراق، من دونما دليل يُعتدّ به على هذا الادّعاء، فلو كانت النجوم ترمز للعروبة، فلماذا هي غير موجودة في علم السعودية ومصر وليبيا ولبنان وكل دول الخليج؟ وليس ثمة ما يشير تاريخياً إلى أن النجمة الخماسية كانت في يوم من الأيام رمزاً للعرب أو العروبة، لا بل إنّ المتعارف عليه أن النجمة الخماسية كانت وما زالت ترمز للأممية، والعالمية لأنها تشير إلى القارات الخمس، وهي شعار الحركات والأحزاب الشيوعية والثورية، والحركات ذات الطابع الأممي. وإذا كان هناك من يظنّ أن النجمة الخماسية رمز عربي، فهذا البعض لا يشكّل أكثرية العرب، الذين قد يجدون الهلال رمزاً أكثر تعبيراً من النجمة.
رمزت النجوم الثلاث في علم الوحدة إلى الدول الثلاث التي اتّحدت في دولة واحدة، وهي مصر وسوريا والعراق. وكان أمل الوحدويّين أن تزداد النجوم في علم الوحدة، لكن سرعان ما أُجهض هذا الحلم العربي النبيل الذي كان وما زال يدغدغ وجدان العرب الوحدويّين. وهذه النجوم تحديداً ليست هي حتى النجوم التي عرفها العلم العراقي في العهد الملكي، بنجمتيه السباعيّتين اللتين تشيران إلى عدد ألوية (محافظات) العراق في العهد الملكي، والتي كانت 14 لواء قبل استحداث أربعة محافظات، بسلخ دهوك عن الموصل، وسلخ سامراء وتكريت عن بغداد، وسلخ السماوة عن الديوانية، وسلخ النجف عن كربلاء وجعل كل منها محافظة.
نجوم العلم العراقي تحديداً حديثة العهد، وُضعت إثر الوَحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، التي لم تدم طويلاً، علماً بأن مصر عادت لعلمها، وسوريا عادت لعلم الوحدة السورية المصرية بنجمتيه، وظل العراق على علم الوحدة التي انفرط عقدها. وفي ما بعد، أعطى مجلس قيادة الثورة تفسيراً جديداً للنجوم الثلاث بكونها تشير للوحدة والحرية والاشتراكية.
ولا لأن هذا العلم لفّ به ملايين الشهداء، فمثل هذا القول خداع وتجاوز للوقائع، لأن العلم الملكي لفّ به أيضاً شهداء الوطن، ومنهم شهداء الجيش العراقي الباسل في معركة فلسطين. ورغم هذا، فإن هذا السبب لم يحل دون إبداله بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بعلم الجمهورية الذي أبدل بعد انقلاب شباط 1963 بعلم الوحدة المصرية السورية العراقية، والذي لُفّ به ما يقارب مليون شهيد من العراقيين العسكريين والمدنيّين أثناء الحرب العراقية الإيرانية بدون عبارة الله أكبر، ولُفّ أيضاً العديد من الضحايا والشهداء بالعلم الحالي الذي كتبت في وسطه العبارة المقدسة... ولو حسبنا عدد الشهداء الذين لُفوا بالعلم الحالي، لما كوّنوا عشر معشار من لفوا بالعلم السابق الذي كان مرفوعاً زمن الحرب العراقية الإيرانية.
لذا فالتذرّع بهذا السبب للإبقاء على العلم كما ورد على لسان أحد السياسين تذرع متهافت، ولو كان المبرّر على إبقاء العلم الحالي على النحو الذي ذكره هذه السياسي كثير الصخب، لكان الأولى بقاء العلم الذي لفّت به جثامين الملايين، وهو العلم العراقي قبل إضافة «الله أكبر».
ولا لأنّ تغيير العلم، أي علم، أمر لا يجوز، إذ لم يقل أحد، سابقاً ولا لاحقاً، بمثل هذا القول. لقد غيّر العلم العراقي مراراً، ومرّ كل تغيير بهدوء، دون أن يترك اعتراضات ذات شأن، فلماذا الاعتراض اليوم على تبديل العلم العراقي؟
جيلنا يتذكر كيف واجه أوّل تغيير للعلم بعدم رضا وامتعاض، فالعلم العراقي في العهد الملكي لم يكن فيه ما يرمز للملكية، بل كان يرمز للوطن العراقي، وكان بالإمكان الإبقاء عليه، فهو ليس كالشعار الملكي. لكن رغبة التغيير الشكليّة دفعت الثوّار وقتذاك لتغيير العلم، وتغيير زيّ الشرطة، بزعم أن هذا الزيّ ارتبط بأذهان الناس بالبطش، ولم تكن درجة بطش الشرطة يومذاك تحسب شيئاً إزاء بطش شرطة الزي الجديد، الذي فاق كلّ تصور.
وإذا كان يمكن المحاججة في تغيير علم عُدَّ رمزاً لنظام ملكي، وهو عملياً لم يكن كذلك، بعلم ينبغي أن يرمز لنظام مختلف، جمهوري، فما المسوّغ في التغيير المتتالي للأعلام في ظل النظام نفسه؟ هل ترتبط الأعلام بالأحزاب الحاكمة أو بالفئات التي تتقلّد الحكم؟ أيكون لنا علم مع كل حكومة، أم مع صعود كل حزب إلى الحكم؟
ألم يكن هؤلاء الذين استسهلوا إزالة الرموز أو تغييرها هم المؤسّسين لهذا النهج الذي لا يعترف برمز سوى الرمز الذي يخلقونه أو الرمز الذي يصنعونه؟ لقد وصلنا الآن إلى الأمر الأكثر غرابة. نحن اليوم إزاء مهزلة لم تحدث سابقاً، بإزاء علم بيننا وبينه زواج متعة، لمدّة محدّدة، أمدها عام واحد لا غير، محكوم عليه بالإزالة بعد عام من ولادته، أي قبل إتمام الفطام، فكيف يمكن أن يؤخذ علم كهذا مأخذ الجدّ، وكيف نتعامل معه بوصفه رمزاً يستوجب الاحترام والتبجيل، والموت دونه.
نرفض تغيير العلم لأسباب أخرى، غير تلك المتعلقة بإزالة النجوم، ولا حتى بتغيير الألوان، ولا حتى بمدى التغيير والتبديل. لكننا نرفضه لأمر آخر، وهو أنا ارتضيناه علمنا ورفعناه معتزين به، لأنه الرمز الباقي من عراقنا الذي عرفناه وأحببناه، ودافعنا عنه بلداً عظيماً سيداً موحداً، ولأن الذين يستظلّون بظلّ الاحتلال لا يحق لهم تغيير وإبدال رمز سيادة العراق. ينبغي أن لا نسمح للاحتلال بفرض رموزه. تلك هي القضية.
* كاتب عراقي