زياد منى *
«كلما ظننّا أن أصدقاءنا الفلسطينيّين قد وصلوا في انحدارهم أخيرًا إلى القاع، اكتشفنا، ويا للأسف، أنّه لا قاع لهم»؛ هذا ما كتبته لي باحثة أميركية سيصدر لها قريباً كتاب عن نضال المرأة الفلسطينية، معبّرة بذلك عن مدى الإحباط والخذلان المحيطين بالشعب الفلسطيني وقضية العرب المركزية وأصدقائه.
وفي الحقيقة سادت طرفة في الحركة الوطنية الفلسطينية في مطلع السبعينيات تلخّص الإحباط الوطني الناجم عن مسارها السياسي والأخلاقي، الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن من دمار، تقول: إنّ «الثورة» الفلسطينية تعلّمت من ثورات العالم جميعها وأخذت ب«إنجازاتها»: فأخذت من لينين أناقته ولبس ربطة العنق، ومن الثورة البلشفية صلح برست ليتوفسك، ومن الثورة الصينية التحالف مع الكومنتانغ، ومن الثورة الفيتنامية محادثات باريس، ومن الثورة الكوبية عدم وجود تنظيم، ومن الثورة الجزائرية التصفيات الداخلية...
من الصعب العثور على أيّ خطأ سياسي أو عسكري أو تنظيمي أو أخلاقي، الذي يمكن العثور على تحذير منه في ألف باء العمل الثوري، لم ترتكبه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ انطلاقتها في عام (1965)، وتحديداً بعد هزيمتها في أيلول الأسود في الأردن على يد النظام الأردني، وبتحديد أدقّ، بدءاً بتبنّيها مشروع النقاط العشرة الساداتي، أي: برنامج التخلّي عن الوطن للكيان الصهيوني لمصلحة سلطة وهمية لن تتحقّق ومنتهية بالتصفيق، مع حلفائها من عرب المحافظين الجدد الصهاينة لمجرم الحرب الجديد إيهود أولمرت.
لكن من الأخطاء الكبرى، التي ترتقي في الواقع إلى مقام الخطايا، التي ارتكبتها إهمال التناقضات الداخلية في الكيان الصهيوني وتوافر إمكانية حقيقية لاستقطاب قسم كبير من سكّانه، وتحديداً اليهود العرب (مزراحيم)، ضدّ المؤسّسة الصهيونية التي هي في الأساس حركة يهود غربيين (أشكيناز)، يحتقرون كل ما له علاقة بالشرق أيّاً كانت ديانته أو هويته أو ثقافته. ومع أن منظّمة التحرير الفلسطينية حقّقت عند تأسيسها مجموعة من الإنجازات الثقافية المهمة، وفي مقدمتها تأسيس مركز الأبحاث الفلسطيني الذي نشر مجموعة مهمة للغاية من الأبحاث العلمية عن الكيان الصهيوني، إلا أن قيادتها التالية تمكّنت من تحويله إلى مركز نفايات فكرية، حيث وصل إلى الدرك الأسفل من جهنّم الفكر بدءاً من عهد صبري جريس.
كان من الممكن للمشروع الوطني الفلسطيني أن يتقدّم على صعيد توسيع التناقضات داخل المجتمع «الإسرائيلي»، لكن افتقاد الحركة الوطنية الفلسطينية لمراكز أبحاث وتخطيط مستقلّة، منع تطوّر مبادرات مهمة للغاية، بل حتى مصيرية. أمّا مركز دراسات محمود عباس، الذي أقامه للدعاية لإقناع اليهود العرب بمغادرة فلسطين إلى بلادهم الأصلية، والذي لم يحقّق أي شيء على الإطلاق، مثل كل مشاريع قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المماثلة، فلم يكن أكثر من حركة استعراضيّة بليدة هدفها التغطية على موقف صاحبه الساداتي الحقيقي الذي تلخّص في مقولة «فاتتنا الطيّارة»، أي: طائرة السادات التي أقلّته إلى القدس المحتلّة في زيارته الاستسلاميّة.
وتمثّل قضية السيدة طالي فحيمه، اليهودية العربية، منطلقاً مهماً للولوج في تناقضات المجتمع «الإسرائيلي» وفهم آلية حركته الداخلية. ومن المؤسف حقاً عدم توافر أي بحث عربي جدّي في الموضوع، وأفضل ما قرأته رسالة ماجستير أنجزتها طالبة يهودية عربية، عراقية، حيث اتخذت من قضية طالي مدخلاً لفهم الـ«مرزاحيم» وتناقضات مجتمع كيان العدو، وسنعمل على نشر ترجمتنا لها فور توافر منبر مناسب لذلك.
من المعروف أن طالي فحيمه، اليهودية العربية، الجزائرية، ألقى الـ«شاباك» القبض عليها بعدما انتقلت للسكن في مخيم جنين، وعرضت أن تكوّن درعاً بشرية واقية للمقاتلين الفلسطينيين فيه. وقد كتب كثير عن دوافع تصرّفها، علماً بأنها كانت ليكودية بامتياز وصوّتت، قبل انتقالها إلى معسكر المظلومين ومن ثمّ اعتقالها، لبطل مذابح صبرا وشاتيلا مجرم الحرب آرييل شارون، حيث حاولت الصحافة الصهيونيّة والصحافة العربية الصهيونية تصوير الأمر كأنه نتاج علاقة شخصية ربطتها بمسؤول كتائب شهداء الأقصى في المخيم زكريا الزبيدي.
أردنا معرفة بعض التفاصيل منها، فتوجّهنا إليها عبر الإنترنت سائلين إياها بداية عن مشاعرها بعد استعادتها حريتها وخروجها من المعتقل الصهيوني بعد قضاء نحو ثلاث سنوات فيه. تفاجئك: لقد خرجتُ من سجن صغير إلى سجن كبير. وما الفرق؟ السجن الصغير مدرسة. فيه تميّز عدوّك من صديقك، لكن في السجن الكبير، أي شخص تحتكّ به يمكن أن يكون عدوّك. لا، أنا لست حرّة في هذا السجن الكبير.
في السجن الصغير تكتشف أشكالاً إضافية من الظلم. فالأسرى الفلسطينيّون يحصلون على معاملة «خاصّة»: فهم «إرهابيّون» معزولون عن أسرى آخرون، يتعرّضون للضرب والاغتصاب، وحقوقهم أيضاً تُغتصب ويمنعون من الاتصال بأهليهم وتُمنع عنهم
الزيارات.
ما الذي تغيّر في طالي فحيمه بعد التجربة العميقة التي مرّت بها؟ مثلاً، هل أثّر هذا في نظرتها لهويتها؟ تجيب: أنا يهودية عربية. هويّتي تبقى كما هي، مهما اعتدى الصهاينة عليّ وحاولوا تشويه سمعتي ونضالي. الهوية ليست هدفاً.

لست يساريّة إسرائيليّة

يسارية إسرائيلية؟ لا، أبداً. أنا لست يسارية، وأرفض وصفي بأني يسارية إسرائيلية! فـ«اليسار» الإسرائيلي مكوَّن على نحو رئيسي من يهود أشكيناز من الطبقة المتوسّطة، يرون أن مهمّتهم هي تلقين «اليهود» والعرب أصول النضال لتحسين ظروف اضطهاد الشعب الفلسطيني وكيفية الخضوع للعدو والقبول بالتخلّي عن الوطن لمصلحة مشروع صهيوني «معتدل».
تسألها: كيف؟ تربيتُ في مدينة صغيرة جلّ سكانها من اليهود العرب الذين وطّنتهم المؤسّسة الصهيونية في بيوت الفلسطينيّين، وكان غذائي اليومي ظلم الفلسطينيّين عبر تبني الفكر الصهيوني. لم نكن نعلم شيئاً عن عظمة الحضارة العربية وتسامحها. كنا نلقَّن يومياً شعوراً بالنقص لأننا عرب مقابل اليهود الأشكناز، الغربيين، «المتفوقين». لذا خجلت في طفولتي من سماع جدّتي تتحدّث بالعربية وتستمع إلى الموسيقى العربية. كان همّي أن أصير أشكنازية «متحضّرة». هكذا تغلّبت تربية المؤسّسة وتعليمها على جذوري، ليس من خلال التفكير المستقل، بل عبر التلقين القسري وغسل الدماغ. كتب التاريخ التي كانت تعلّمنا تحوي الرواية الصهيونية فقط، لذا كنت أؤمن بأنه لا حق للعرب في الوجود في هذه البقعة من الأرض، وكان علي بالتالي التجرّد من أصلي العربي.
هل يمكن أياً كان إدارة الظهر لهويته الأصلية؟ تجيبك: الجهاز الصهيوني متطور جداً، ونجح في تجريد قسم كبير من المجتمع اليهودي في فلسطين من هويته العربية.

العودة إلى «البيت الحقيقي»

وعن انتقالها إلى المعسكر الآخر، ترى أنّ هذا لم يكن سهلاً. طريق الانتقال من «البيت المتوهّم» (الصهيونية) إلى «البيت الحقيقي» (معاداة الصهيونية) بوصفها إنسانةً تعتزّ بالأخلاق القويمة في الحياة وتتمسك بها، لم يكن سهلاً ولا بسيطاً. فمعرفة جذور الصراع الفلسطيني الصهيوني لم تكن سهلة، لأن الإعلام الإسرائيلي لا يوفّر لك أي معلومات. كان عليّ تعلّم كلّ شيء وحدي، حيث اكتشفت أنّني تربّيت على أكاذيب، وأنّني جزء من جريمة كبيرة جداً. عندما اكتشفت ذلك، كان الأمر مؤلماً للغاية، يسبّب لي حتى الآن معاناة يومية.
ما ساعدني في مغادرة البيت المتوهّم الانتقال للعيش بين المقاتلين الفلسطينيين الذين يقاتلون إسرائيل، لا طالبي التعايش معها. زيارتي إلى مخيم جنين كانت نقطة الانعطاف. لم أكن بحاجة إلى كتب تاريخ. مشاهدة الأوضاع في المخيم كانت كافية: الحواجز، العمليات العسكرية الإسرائيلية اليومية فيه، الإقامة بين الأطفال المرتعدين خوفاً من إطلاق النار اليومي... هذا كلّه أقنعني بأنه ليس ثمّة من مسوغ للاحتلال.
آلة الإعلام الصهيوني حاولت تصوير سبب مغادرتها «البيت المتوهم» بأنه شخصي من خلال علاقة عاطفية بزكريا زبيدي مسؤول كتائب شهداء الأقصى في المخيم. قرّرنا ألّا نسألها عن الأخير ونبلغها أنه كان من ضمن قائمة المطلوبين للعدو الذين قبلوا بإلقاء السلاح مقابل ضمانه سلامتهم الشخصية والتوقّف عن مطاردتهم، مع أنّ كثيرين من «المغرضين» كانوا يسألون قبل ذلك عن سبب تمكّنه من الفرار الدائم من قبضة الاحتلال وسقوط كل من كان معه. ولم نكن معنيّين بأن نسألها عن رأيها في ظهوره يوم 02/12/2007 في برنامج تلفزيوني إسرائيلي بثته المحطة الثانية اسمه «فتح لاند» ليقول: «لو أعطينا الفرصة (للذهاب إلى غزة) فأنا أول إنسان يصل إلى هناك لكي نعيد غزة لفتح... لا ليس لفتح، بل للشعب الفلسطيني. نعم أنا على استعداد لمقاتلة حماس وهزيمتها» (للاطلاع على الفيلم المخزي للشعب الفلسطيني ونضاله، انظر الموقعين الآتيين في الإنترنت بالعبرية (http://rapidshare.de/files/37943789/fatah_land.ivr.html) و(http://www.keshet-tv.com/uvda.aspx).
في الحقيقة إن تحويل أبواق التضليل الصهيونية قضية طالي فحيمه من سياسية إلى ثرثرة ونميمة اجتماعية مفيد من ناحية كشفه موقف الحركة الصهيونية الحقيقي من اليهود العرب (مزراحيم) ومن المرأة اليهودية على نحو عام ومن المرأة المزراحي خصوصاً حيث تُعامَل باحتقار تام. فتصوير آلة التضليل الصهيونية انتقال طالي فحيمه من الفكر الصهيوني إلى الفكر المعادي للصهيونية على أنه انتقال اجتماعي يوضح رأيها بأن المرأة عموماً، والمرأة المرزاحي خصوصاً، غير قادرة على التفكير المنطقي حيث تقودها عواطفها إلى «الخيانة». وللمرء الحق هنا في طرح سبب عدم تعرض يوري أفنيري لحملة أبواق التضليل الصهيونية ذاتها عندما ذهب إلى مقر ياسر عرفات إبان حصاره الأخير وصرّح بأنه على استعداد لتكوين درع واقية له! يقول «المغرضون» إن يوري أفنري ألماني، وبالتالي ليس مزراحيم، وهو أيضاً ليس امرأة يهودية، مع أنه وقف إلى جانب طالي فحيمه في معركتها مع القضاء الصهيوني. وعلى أي حال، فإن مطالبه السياسية بالعلاقة مع الفلسطينيين لا تتجاوز مطالب شارون أو أولمرت وغيره من قادة الكيان الصهيوني، وهي أيضاً مطالب طالي فحيمه قبل الاعتقال، حيث تبنّت الآن موقفاً جديداً على نحو جوهري يطالب بدولة واحدة ديموقراطية، أي: لا صهيونية؛ «المؤسسة الصهيونية لن تتمكن من الاستمرار» هذا ما تؤكده طالي.

البعد العاطفي في القضية

أمّا ما يتعلّق بمسألة «البعد العاطفي» فإنها تقول: حتى إذا كان الأمر كذلك، وهو غير صحيح إطلاقاً، فإن ذلك لا يلغي صحّة تعرض الشعب الفلسطيني الدائم للعدوان الصهيوني.
لقد وقفت آلة التضليل الصهيونية ضدّ طالي المرأة المزراحي، لأنها اتهمت بإقامة علاقة جسدية مع شخص غير يهودي، ما يكشف الموقف الصهيوني المعادي للمرأة الذي يعُدُّ جسدها ملكاً للأمّة.
وآلة التضليل الصهيونية وقفت مشهّرة بطالي فحيمه وحرّضت عليها لأنها شعرت بالرعب من إمكان سعي يهود عرب لاستعادة هويتهم القومية الأصلية، المعادية للصهيونية. ولهذا شنّت الدولة الصهيونية حملة هائلة عليها واعتقلتها بأمر إداري، للمرأة الأولى في تاريخ الكيان المغتصِب.
«عندما أعلنت الاستخبارات الحرب عليّ على كل الجبهات الممكنة، كنت في المكان الصحيح والأكثر أخلاقياً الذي يمكّنني من أن أكون فيه، وكان ذلك هو مصدر قوتي. كنتُ مقتنعة تماماً بصحة وأخلاقية طريقي الذي اخترته، وما زلت. صحيح أنني أدفع الثمن غالياً مقابل أعمالي... إنني معزولة، ولا أحد يرغب بتشغيلي. يشتمونني في الشارع ويسمونني «خائنة»، لكنني أجد نفسي في المكان الصحيح. لقد تنازلت عن رخاء العيش الشخصي الذي توافر لي قبل اعتقالي. فقري الحالي هو غنىً. تعلّمت أنه ليست من حرية متوافرة من دون نضال، وأنه علي أن أناضل من أجلها. أن نسعى للحرية وبناء بيت حرّ، أمر واضح اليوم، وهذا ما يمنحني الأمل لأيام أفضل للجميع».
رغم ذلك تقول: «لا يهمني رأي الصهاينة فيّ، الذي يهمني هو أن أكون صادقة مع نفسي. حتى إذا لجأت المخابرات الإسرائيلية أو آخرون يكرهونني لقتلي أقول: أموت لأجل مواقفي التي أنا بها فخورة».
وهل بإمكانها، بسبب هذا الحصار المخيف المفروض عليها، الاستمرار في الحياة «العادية»؟ تقول طالي: «سأكون سعيدة لو تمكنت من العيش في مخيم جنين، لكن الدولة لم تسمح لي بدخول الأراضي المحتلة. في هذه المرحلة سأنتقل للعيش في أم الفحم، مع أن المخابرات (الشاباك) لا تزال تضع العراقيل لإفشال خطتي، لتثقل علي قدر المستطاع. لكني أؤمن بأن هناك ناساً شُجْعَاناً، يجب فقط اكتشافهم. أنتظر عودة رئيس بلدية أم الفحم الشيخ هاشم عبد الرحمن من الحجّ لكي يساعدني في التأقلم في مدينته».
طالي فحيمه تنهي حديثها معنا بملاحظة مؤلمة لكلّ فلسطيني ذي ضمير، تقلقها وتثقل عليها، تتعلّق بالشاهد الكاذب في قضيتها، محمود الغول، الفلسطيني من مخيم جنين الذي أطلق العدو سراحه قبل أسبوعين ضمن الأربعمئة أسير حيث استُقبل بطلاً في مخيم جنين. تعلّق طالي بالقول: «محمود الغول هو الفلسطيني الوحيد الذي أعدّه عدوّاً لي، في المعسكر نفسه مع هؤلاء الذين قيدوني وكبلوني. كان محمود الغول الشاهد المركزي في ملفي في المحكمة. شهادته الكاذبة أفشلت نضالي ضد المخابرات. حتى في المواجهة المباشرة معه في التحقيق، كذب الغول أمامي، وذلك مقابل صفقة مع الشاباك لتحسين شروط سجنه. استقبال شخص مثله كبطل يؤلمني كثيرًا. لذا قررت أن أقدم دعوة ضده في المحكمة الفلسطينية بجنين».
إنّ الانحدار والسقوط المروع للحركة الوطنية الفلسطينية والانقسامات فيها على سلطة وهمية لن تأتي إلا بالمزيد من الدمار للشعب الفلسطيني ولقضية العرب المركزية، يفجع أصدقاءه. طالي فحيمه ترفض الخوض في السجال الفلسطيني الداخلي وتدعو الفلسطينيين للوحدة «لأن الأمر الأهم الآن هو التحرير، لا المواقع والمراكز».
* كاتب فلسطيني