strong> أسعد أبو خليل *
هي إكسير الحياة في القرن الواحد والعشرين. عليك أن تعتنقها وإلا بدوتَ أسير عصر البداوة. هي الحل، ولا حلّ إلاها. تتكاثر الأصوات وتتعاظم من كلّ حدب وصوب تلهج بحمدها. الديموقراطية أصبحت أكثر من طوطم للإنسانية المزعومة. إنها مهنة. فهذا يعرّف عن نفسه بأنه «ناشط ديموقراطي»، وتلك تبشّر بالديموقراطية على طريقة الوعّاظ المملّين. حتّى الفاشيّين والأصوليّين المتزمّتين يحدّثونك عن منافع الديموقراطيّة، وهي مثل التفاحة كل يوم، ولا طبيب. حتى عائلة من «يحسب أن ماله أخلده» تتحدّث عن الديموقراطية، في الوقت الذي تُسيّر أمورها من قبل آل سعود. وأيضاً آل سعود مع الديموقراطية: فكتّابهم وأبواقهم ينتقدون غيابها... فقط في سوريا وإيران، على افتراض أنّ الديموقراطيّة بنسقها الشخبوطي عمّت مختلف البلدان العربية قاطبة. وسمير عطا الله يمدح الديموقراطية، وإن لم يجد غضاضة في كتابة مديح مقزّز لمدير الاستخبارات السعودي الأمير مقرن الذي تلقّى التهاني بالأعياد من رئيسيْ مجلسيْ النواب والوزراء في لبنان. ومن علائم العصر ما بعد الحديث، في شقه السياسي السوقي، الحديث والدعوة والتبشير بالديموقراطية.
والديموقراطية اليوم هي مثل الدين: لا تقبل مساءلة أو مجادلة. عليك أن تقبلها بلا كيف، على طريقة ما أجاب القديس أغسطينوس عندما سأله سائل عن الحكمة الإلهية في موت طفل صغير. هي حكمة إلهية، أو بوشيّة.

في معنى الديموقراطية

والديموقراطية تعني أكثر من شيء. فالمعنى اللغوي من اليونانية معروف، وهو لا يعني شيئاً على الإطلاق. فمقولة حكم الشعب تفي بالغرض الأيديولوجي. أي أنها تعرّف الديموقراطية بما تريد هي أن تُعرّف. ومقولة حكم الشعب هي اليوم تُعتبر فضيلة في المزاج العام، باستثناء العقيدة الوهابية أو البعثية أو البوشية في نسقها الشرق أوسطي. وكانت الديموقراطية منبوذة عند فلاسفة الإغريق لأن حكم الشعب يتضمن فكرة مناقضة للنخبوية الموجودة في فكر أفلاطون أو أرسطو (لا ندري ماهيّة الديموقراطية في الفكر المتقدّم لمنظّري «ثورة الأرز» نادر الحريري وميشال معوض). ولم ينحُ مؤسّسو الجمهورية في أميركا نحو الديموقراطية بالرغم من كل الثناء الذاتي الذي لا يشبع منه نخبة وأهل هذه البلاد، على ما روى ألكسيس دو توكفيل في كتابه «الديموقراطية في أميركا». وما فكرة انتخاب الرئيس عبر ما يُسمى «الكلية الانتخابية» ـــــ التي تنيط بنخبة منتخبة (ومعينة إلى حين في التاريخ) أهلية انتقاء الرئيس إلا تعبير عن رفض النخبة المؤسسة (كان جورج واشنطن أكبر مالك أراضٍ في البلاد عند وفاته) ترك أمر الانتخاب في يد عامة الشعب. إنهم الغوغاء، كما كان يصفهم صدّام حسين (توقفت الإشارات السلبية عن صدام في الإعلام السعودي. خطة التحريض المذهبي اقتضت ذلك). صحيح أن أبراهام لنكولن تكلم عن الحكم من الشعب وإلى الشعب... إلخ، لكن هذا يذكر بخطب أهل السياسة والطائفية في بلادنا. وعود ومزاعم فارغة.
والديموقراطية هي أبسط وأقل بكثير مما يُعزى لها. والمبالغة في الترويج لفكرة غير دقيقة عن الديموقراطية يعود إلى الجدال البياني بين الجبارين خلال الحرب الباردة. فكانت الولايات المتحدة مصرّة ـــــ ولا تزال ـــــ على مقارنة الفكرة النظرية للديموقراطية مقابل الممارسة الستالينية أو الخمير حمرية للشيوعية. والنظرية تتفوق على الممارسة، حتى أن الفكر البعثي لا ينبئ في أدبيّاته الأولى مثلاً عن أساليب التعذيب التي ابتُكرت لاحقاً في سوريا والعراق (يبدو أن عراق الاحتلال الأميركي ـــــ الذي يحظى بمباركة الفقيه الأعلى الإيراني بالاضافة إلى مباركة جامعة الدول العربية ـــــ ابتدع ويبتدع أساليب جديدة للتعذيب يؤدي فيها الثاقب دوراً أساسياً تجيده ميليشيا بدر التي، بالإضافة إلى جرائم كثيرة، ارتكبت جريمة تهجير الشعب الفلسطيني من العراق، كما فعل آل الصباح بعد عودتهم إلى الحكم على أثر هزيمة صدام في حرب العراق الأولى)، وذلك بالرغم من محاولة كنعان مكية الضعيفة في كتابه «جمهورية الخوف» لشرح طبيعة وحشية نظام صدام عبر التركيز على جملة وردت في مقالة ما لميشال عفلق. والولايات المتحدة لم تجد حرجاً في إغداق الثناء على ديموقراطيتها قبل حركة الحريات المدنية للسود وللنساء ـــــ أي قبل عقود من إعطاء حقوق نحو نصف السكان، إن لم يكن أكثر. لكن ما هي الديموقراطية، وما هي شروط توفّرها؟
ليست الديموقراطية علاجاً سحرياً، وليست أمّ المفاتيح (على ما قال كارل ماركس عن كتاباته نفسها في واحدة من رسائله ـــــ وعلى سيرة كارل ماركس، فقد سوّغ يساري سابق مواقفه المستجدّة الداعمة للحكم الأبدي لآل الجميل عبر الاستعانة بخلافات ماركس مع الأمميّة في أيّامه، وهو أكد أنّ ماركس لو عاد حيّاً، لانخرط في فريق سعد الحريري في لبنان). فالديموقراطية هي وسيلة لاختيار الممثّلين عن الشعب، وهي أدنى درجة، في المشاركة وفي التمثيل، من الديموقراطية المباشرة عند الإغريق القدماء، وإن وجب التحذير من الانجرار وراء تعظيم التجربة الإغريقية على ما فعل جورج واشنطن، إذ إنهم استثنوا من ديموقراطيتهم النساء والعبيد (والعبد عند الإغريق، كما كان عند العرب، لم يكن على أساس عرقي كما كان في الولايات المتحدة) والمقيمين من غير حاملي الجنسية ـــــ لو علم ميشال المرّ بأمرهم لجنّسهم في دائرة المتن الانتخابية.
وكان هناك محتوى اجتماعي ـــــ اقتصادي لمفهوم الديموقراطية، أقله عند خطيب الإغريق المفوّه بريكليس، على ما جاء في تأريخ ثيوثديس العظيم للحرب بين أثينا وإسبارطة. فبريكليس حدّد ديموقراطية الإغريق بأنها مبنية على كون الغني لا يتمتع بأفضلية في النظام السياسي، كما أن الفقير لا يعاني من معوقات لفقره. وهذا التعريف يناقض ما هو معمول به في هذه البلاد وفي لبنان طبعاً، وإن كان فؤاد السنيورة في تحريره للرغيف من الاحتلال والدعم قد تحوّل إلى أبي الفقير الفعلي، وخصوصاً إذا كان الفقير من أنصار مذهبية الزرقاوي الحادة.
ومن قال إن اختيار ممثلي الشعب (أو ممثلات، حتى لا ننسى غنوة جلول التي أتت، مثلها مثل اليساري السابق الياس عطا الله ـــــ الذي يتعرّض لمؤامرة خبيثة للغاية من منتقديه كما أعلمنا في مقالة عن اليسار الفعلي في جريدة «المستقبل»، وهي جريدة لليسار الحقيقي بنظره ـــــ بإرادة شعبية عارمة) يحل المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ وتجربة الديموقراطية في الدول الإسكندنافية (وهي متقدمة عن غيرها من التجارب) فيها من العبر ما فيها. فالنظام الانتخابي مثلاً تطوّر بصورة مطّردة من أجل توسيع المشاركة الشعبية، ومن أجل زيادة تمثيل المرأة والأقليات في البلاد، على عكس التجربة العنيدة للولايات المتحدة التي تتعامل مع الدستور الأميركي بنفس طريقة التعاطي الجامد للإخوان المسلمين مع الشريعة. والنظام الانتخابي الذي يجنح نحو النسبية (توصلت تلك الديموقراطيات إلى تطوير الأنظمة الانتخابية لأن النظام الانتخابي عندهم لا يخضع لا لأهواء البطريرك الماروني ولا لمسؤول المخابرات السوري في لبنان) نجح في زيادة حصة النساء في التمثيل، كما أنه وسع دائرة التمثيل الانتخابي لكسر احتكار الحزب أو الحزبين كما هو الأمر في هذه البلاد.

هي الحلّ؟

ولماذا هذا الحمد بالديموقراطية؟ وهل هي ستقدّم أم ستؤخّر؟ ولماذا تظهر استطلاعات الرأي في أميركا اللاتينية، كما أشارت مجلة «الإيكونومست» أخيراً، تدنياً ملحوظاً في نسبة تأييد الديموقراطية بين الناس؟ وهناك أكثرية من الشعب في أوكرانيا تعتبر فترة حكم بريجنيف (غير الديموقراطية) فترة ذهبية ـــــ فالمقياس هو المصلحة الاقتصادية، كما تبشر نظرية «الاختيار العقلاني» السائدة في كليات علم السياسة والاقتصاد في البلاد.
وإذا كان الإسلام ليس حلاً، والكل يريد حلاً، فالديموقراطية ليست حلاً هي الأخرى، وخصوصاً أن الديموقراطية ميّالة ـــــ من دون ضوابط ـــــ إلى تمثيل الطبقات العليا في المجتمع. ولبنان هو مثال ليس فقط لاستحالة الديموقراطية، وإنما لعدم محموديّتها. فما معنى الديموقراطية بعد انتخابات الشمال في لبنان مثلاً؟ ما هي الضوابط على حركة رأس المال السياسي في اللعبة الديموقراطية، إذا كان هناك من ضوابط في بلد تتحكم به عائلة من «يحسبُ أنّ ماله أخلده». وقد تحوّلت الديموقراطية الأميركية (وهي مختلفة عن تجربة الأنظمة الأوروبية المتأثرة بالفكر الاشتراكي) إلى حكم النخبة الطبقية، وخصوصاً أن الضوابط على الإنفاق الانتخابي لا تزال ضعيفة جداً، بالرغم من محاولات متعثرة من قبل المحكمة العليا التي أفتت أن حرية صرف الأموال في العملية السياسية مصونة مثل حرية التعبير، وإن كانت قد أضافت في فتواها في هذا الخصوص أنه يمكن أن تخضع لضوابط للحدّ من الإنفاق الانتخابي في حالات محددة. فالثقافة السياسية في الولايات المتحدة مهتمة بتساوي الفرص (التساوي النظري الورقي)، في الوقت الذي تحرص فيه ديموقراطيات أوروبا الغربية على تساوي نتاج التصارع الاجتماعي والاقتصادي، وهذا يفسر اتساع نطاق خدمات الدولة في أوروبا مقارنة بأميركا. (ويمكن للخدمات المذكورة أن تتقلص إذا ما تبوّأ مروان حمادة مناصب وزارية في تلك الدول الغربية). ويمكن للديموقراطية أن تحل المشكلات الاقتصادية لو تزاوجت الديموقراطية مع هدف العدل الاجتماعي، أو ما يسمى الديموقراطية الجذرية. والتركيز على تساوي الفرص، لا على تساوي النتائج، وصفة ناجعة لترسيخ حدة في مستوى التفاوت الطبقي. (التفاوت الطبقي في أميركا من أسوأ النسب، مثله مثل النسبة في العالم العربي. فليفخر بذلك أنصار «المبادرة الفردية» في القيادة الكتائبية).

في الدول النامية

لكن الديموقراطية العادية أو الجذرية مستحيلة في الدول النامية. ولا يعود ذلك لطبيعة ثقافية محدّدة تمنع إقامتها، كما يروّج المستشرقون المتجدّدون (عجباً كيف قرّر يساري سابق في جريدة القدس العربي أنّ برنارد لويس هو «آخر المستشرقين»، مع أنّ الاستشراق أُصيب بانتعاش شديد بعد 11 أيلول). لكنّ موانع الديموقراطية في البلدان النامية هي خارجية. كيف يمكن مثلاً أن تختطّ الديموقراطية صراطاً مستقلّاً في عصر تسيطر فيه الولايات المتحدة على مقدّرات العالم والمؤسّسات الدولية. فالأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات النقدية والمصرفية العالمية تخضع بصورة غير مسبوقة إلى سيطرة الولايات المتحدة الكاملة. فالشعوب في تلك الدول لا يحق لها أن تقرّر مصائرها بأنفسها، ولا تستطيع أن تختار ممثّليها بحريّة. فالفاقة والعوز يُستغلّان، ليس فقط من قبل أثرياء الداخل (المرتبطين دوماً بمصالح الولايات المتحدة) ـــــ ولم يخطئ عدنان عضوم ذو السجل غير الناصع عندما اعتبر رشى صناديق الزيت والسمن الحريرية مخالفة فاضحة لحرية التنافس الانتخابي في لبنان)، وإنّما من قبل الولايات المتحدة أيضاً في كل موسم انتخابي، من أوكرانيا إلى فنزويلا إلى الضنية. فالولايات المتحدة تهدّد الشعوب صراحة بمزيد من العوز إذا ما اختارت ممثّلين غير مرضيّ عنهم، وهي تسخّر لهذه الغاية برامج مساعداتها المسيّسة دوماً، بالإضافة إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وعندما أثّرت صورة بوريس يلتسين المترنّح على حظوظ فوزه في انتخابات التسعينات في روسيا، سارع صندوق النقد، بإيعاز من إدارة كلينتون، إلى إعلان سريع عن قرض بقيمة عشرة مليارات دولار. وتجربة إفقار غزّة باتت مثالاً فاضحاً للتعاطي الأميركي مع حريّة الاختيار الديموقراطي عندما تتناقض مع مشيئتها العليّة. وللولايات المتّحدة برامج سخيّة للتأثير على الانتخابات ونتائجها في كلّ دول العالم النامية. ومؤسسات «دعم الديموقراطية» التابعة للحزبيْن الرئيسييْن هنا ما هي إلى وسائل للتأثير على نتائج الانتخابات، وهي تنفق بسخاء في الدول النامية ـــــ حتى لا نتحدث عن الوسائل السرية التي تتبعها الحكومة الأميركية للتأثير على الانتخابات حول العالم. وقد خسر الرئيس الفنزويلي أخيراً نتيجة استفتاء بفارق نحو ستّين ألف صوت، ومن السذاجة تبرئة الولايات المتحدة من تهمة التدخّل السافر في شؤون فنزويلا منذ صعود تشافيز. والانتخابات الأوكرانية أثناء «الثورة البرتقالية» التي تكسّرت على صخور الصراعات الداخلية والشخصية تأثرت، كما ذكرت مقالات في صحيفة الواشنطن بوست، بمؤسسات دعم الديموقراطية الأميركية. حتى ذلك الحيّز المفترض أن يكون حراً، والذي يمتد بين العائلة والدولة، والمسمّى «المجتمع المدني»، خاضع نتيجة التمويل الخارجي، إلى التأثير الحكومي الغربي، وهو «مجتمع دولي» كما يؤكد لنا جهابذة القانون والعلاقات الدولية في لبنان من أمثال فارس خشان ومحمد سلام، بسبب التمويل.
وعليه، فإنّ منظمات المجتمع المدني تحمل شعارات وتردّد خطابات مستوردة من الغرب. لهذا، فإنّ منظمات الدفاع عن حق مثليّي ومثليّات الجنس مثلاً ـــــ ونقول هذا الكلام من دون الانتقاص من حقوقهم ـــــ تتلقى دعماً من مؤسسات ودول غربية، لكن ما هو حظ الدعم لمنظمات ذات اهتمامات لا تتقاطع مع سياسة الولايات المتحدة؟ هل يمكن مثلاً إنشاء منظمة للدفاع عن حقوق معتقلي غوانتانامو في أي بلد عربي؟ هل ستسارع المنظمات السويدية والألمانية المهتمة بشؤون حقوق الإنسان إلى مدّ المنظمة المذكورة بالمال؟ لهذا، فإنّ برامج ومطالبات المنظمات غير الحكومية هي أيضاً خاضعة لأهواء الحكومة الأميركية، وهذا يفسّر سبب انهماك منظمات حقوق الإنسان بقضايا تتماشى مع التغطية الأميركية الرسمية. فخرق حقوق الإنسان في كوبا مثلاً يحوز اهتماماً فائقاً، في الوقت الذي أهملت فيه منظمات حقوق الإنسان قضايا رقيق آسيا المستورد في دول الإنتاج النفطي العربي.

بين الديموقراطية والحرية

ثم من قال إن الديموقراطية هي صنو الحرية؟ ولنتذكر أن هتلر حقّق نجاحات انتخابية قبل أن يلخص الأمة الألمانية بشخصه غير الكريم. وحقوق المرأة والأقليات في دول أوروبا الشرقية، حتى لا نتحدث عن الحقوق الاقتصادية، تدنّت في دول مثل بولندا والمجر لأنّ الديموقراطيّة أهّلت للكنيسة ولرأس المال الرجعي بأن يؤديا دوراً نافذاً لم يكن لها أن تؤديه في مرحلة النظام الشيوعي، وكلاهما من أعداء حرية المرأة. والديموقراطيّة المعوجّة في مرحلة التحالف المخابراتي ـــــ الحريري تميّزت بعدد من الأثرياء الذين لا صفة سياسية لهم غير الثروة. ولا ينطبق هذا الكلام فقط على آل الحريري، بل على عصام فارس ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وغيرهم (والأخير، على ما يروي مدير حملته الانتخابية الأولى، كان يسأل مساعديه باستمرار عن اتفاق 17 أيار لأنه لم يسمع به من قبل).
والرجعيّات والإكليروس (من كلّ الأديان) تنتعش في ظل الديموقراطية ـــــ هل هناك من ينكر أن الحكم الشيوعي في أفغانستان أحدث إنعاشاً لحريّة المرأة وللعلمانيّة ولمعركة التنوير أكثر من أي نظام آخر في المنطقة، قبله أو بعده؟ والديموقراطية في الخطاب العصري تصبح طقساً انتخابياً لا أكثر. وكانت الفيلسوفة حنة أرندت تقول إن الانتخابات بحد ذاتها ليست جزءاً من السياسة، بل هي «عمل». لكن في زمن بوش يصبح الطقس الانتخابي، إذا ما أدّى إلى صعود حلفاء ووكلاء أميركا، سبباً للابتهاج العالمي، ولقرع طبول زفّة «الحرية». ألم يزعم وليد جنبلاط بعد انقشاع الرؤية أمام ناظريه أن مشهد التصويت في العراق هو الذي دفعه نحو قطار بوش؟ والتعريف البوشي للديموقراطية والحرية يتغافل عن نظريّة المفكّر البريطاني إزايا برلين في تمييزه بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية (والديموقراطية الانتخابية الخالية من مضمون العدل الاجتماعي تقمع الحرية الإيجابية كما يجري باطّراد في هذه البلاد، وفي مملكة الحريري المتشدقة بالديموقراطية وبمحمد علي الجوزو).
طبعاً، هذا لا يعني كلاماً عن دعم أو استمرارية للأنظمة القائمة، المنصاعة للمشيئة الأميركية أو تلك المتدثّرة بشعار الممانعة الفارغ. على العكس، فلا يمكن إلا تسويغ عملية قلب كل الأنظمة القائمة، لكن المعركة الديموقراطية هي المعركة الخاطئة، إذ إن المال والرجعية والطائفية كفيلة بإرجاع عبر النافذة من طُرد من الحكم من الباب العريض. والمعركة ضد الأنظمة القائمة يجب أن تستمر وتتعاظم، إنّما ليس بشعارات الديموقراطية الزائفة وإنما بشعارات اقتصادية واجتماعية وسياسية مستقاة من معارك ضد السلطات المحلية والمركزية على اختلاف أنواعها. وهذا ما عناه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عبر تركيزه على دراسة السلطة في انتشارها وفروعها، وليس في تمركزها. أي أن معركة التغيير يجب أن تهدف إلى نقض السلطة القائمة ونقض الديموقراطية التي غالباً ما تهدف إلى تسويغ وشرعنة حكم قوى ونخب أبعد ما تكون عن
الديموقراطية.
وكان رفيق الحريري يستجدي في أول حكمه سلطات استثنائية من حافظ الأسد، لكنه عاد واكتشف فائدة الانتخابات، وخصوصاً بوجود مساعدات مؤسّسة الحريري الموسمية. هذه هي الديموقراطية. وإذا ما أتَتْكم، لن تختلف عن مجالس «صحوة الأنبار» (وعبد الستار أبو ريشا عرف كيف يتأقلم. فهو سمى ابنه البكر تيمّناً بصدام، ثمّ عاد وغيّر اسمه بعد افتتانه ببوش (وذلك بعد افتتانه لفترة بالقاعدة)، فاتّعظوا. لكن مهما قلنا، فإنّ حكومة السنيورة «منتخبة ديموقراطياً»، على ما يُقال لنا في واشنطن. فلتحيَ الديموقراطية.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com