ناهض حتّر *
يتمتع معظم اللاجئين الفلسطينيين في الأردن بالجنسية والحقوق المدنية، وبأوضاع اقتصادية ـــــ اجتماعية أفضل من مواطنيهم الأردنيين. لكن الشعور العام الطاغي في أوساطهم، بما في ذلك أوساط النخب، هو شعور بالضيق الشديد بسبب حرمانهم، لا من الحقوق السياسية، بل من المساواة. ويمكن تلخيص مطالب التيّار غير المتبلور، الذي يعبّر عن هذا الشعور، ويسمى «تيار الحقوق المنقوصة»، بالآتي: ضرورة حصول الفلسطينيين على حصة لا تقل عن النصف في مؤسسات الدولة البرلمانية والحكومية والعسكرية والأمنية، بما يشبه المحاصصة، تحت تأثير الحالتين اللبنانية والعراقية.

والمساواة على أساس المواطنية، بغض النظر عن الأصل، هي مطلب تقليدي للتيار الوطني اليساري الذي يميز بين حقوق المواطن الفرد، التي ينبغي عدم الانتقاص منها لأي سبب، حتى لو كان سليماً من الناحية السياسية، وحقوق الفلسطينيين ككتلة أو كجماعة، وهي حقوق العودة إلى الديار وتقرير المصير في الدولة الفلسطينية.
ويلحظ هذا التمييز أن الاعتراف بحقوق سياسية متساوية للفلسطينيين في الأردن بوصفهم جماعة، يعني إعادة تأسيس الدولة الأردنية بوصفها فدرالية ثنائية الوطنية، بما يحقق صيغة واقعية للوطن البديل. وهو محل رفض إجماعي من جانب الأردنيين على اختلاف توجهاتهم.
لكن النخب الحاكمة، ومنها النخب الفلسطينية، غير مستعدة للبحث في الإطار الديموقراطي للمواطنة الفردية. وذلك لأنها أولاً ترفض المواطنة والديموقراطية على العموم، وثانياً، لأنها تريد استخدام الكتلة الفلسطينية المستبعدة، منقادة من نقطة ضعف وضعها السياسي بالذات، أداة سياسية ضد الحركة الوطنية والاجتماعية، وثالثاً، لأن القيادات الفلسطينية تسعى وراء زيادة حصتها في كعكة الحكم، وترفض بالتالي تفكيك الكتلة الفلسطينية في المواطنة الديموقراطية، بل تعيد إنتاج الروابط الخاصة لتلك الكتلة، لضمان تماسكها وصلابتها، وبالتالي إمكان استخدامها بوصفها كتلة، في تنافسها مع حلفائها داخل النظام أو صراعها مع الحركة الوطنية.
وتتضافر عدّة قوى على منع الاندماج الديموقراطي للفلسطينيين في الأردن، من بينها:
1) السياسة المزدوجة للنظام الذي يريد، في الآن نفسه، توطين الفلسطينيين من دون إدماجهم ديموقراطياً.
2) تيار «الحقوق المنقوصة» الذي يلح، مستقوياً بالأميركيين، على محاصصة توحد في مواجهتها جميع الأردنيين على تناقضاتهم، بل قل في مواجهة مع الفلسطينيين.
3) وأخيراً، المعارضة الإسلامية ـــــ القومية التي تلح على شعار حق العودة، وبالتالي الحفاظ على هوية الفلسطينيين الوطنية الخاصة، لكنها تنهج، في الوقت نفسه، منهجاً توطينياً. وما تريده في النهاية هو تأمين جمهور سياسي خاص بها.
على هذه الخلفية، يتكوّن اتجاه سياسي عام بين فلسطينيي الأردن، يتميز بالتناقض بين تأكيد الولاء للنظام السياسي كمخرج وحيد للحفاظ على المكتسبات الحاصلة وتأمين توسيعها، وفي الوقت نفسه، تأكيد الانفصال عن الوطنية الأردنية، ورفضها، مقابل تطوير هوية فلسطينية محلية، مضمونها وحدة المصالح بين الفئات الاجتماعية المتناقضة، الأمر الذي يقود إلى شق المجتمع الأردني طولياً.
وقد انتهى هذا الوضع المضطرب، مقروناً باليأس من إمكان تحقيق المطالب الفلسطينية في الدولة والعودة وتقرير المصير، إلى إخراج القسم الأكبر من فلسطينيي الأردن، سياسياً، من دائرة الانتماء إلى وحدة الشعب الفلسطيني والكفاح لتحقيق أهدافه الوطنية، وكذلك، من دائرة الانتماء إلى وحدة الشعب الأردني، والكفاح لتحقيق أهدافه الاجتماعية والديموقراطية.
وجرّاء الافتقار إلى علاقة منتظمة ومتجذرة مع سياق سياسي وطني، تنتشر بين فلسطينيي الأردن، على نطاق واسع، القيم الفردية والشطارية والميركنتيلية والهروب والعزلة، والانخراط، بالنسبة إلى الفئات المثرية في نزعات متأمركة، وبالنسبة إلى التجمعات الشعبية في الأعمال السوداء والإدمان إلخ...
ليس لدى فلسطينيي الأردن محركات سياسية ذاتية للإفلات من هذا الوضع المتردي. ولذلك، فإن مسؤولية تمكينهم من تجاوز هذا الوضع تقع على كاهل اليسار الأردني. أولاً، لأن الفئات الشعبية الفلسطينية تتشارك مع نظيرتها الأردنية في هوية اجتماعية واحدة، يمكن أن تصبح أساساً للوحدة الداخلية. وثانياً، لأن هذه الفئات تتعرض للهجمة الليبرالية الجديدة نفسها، وتكمن مصالحها الحقيقية في الاندماج في حركة الاحتجاج الاجتماعي، والنضال من أجل إعادة تأسيس دور الدولة الاقتصادي ـــــ الاجتماعي، وتأمين الحقوق الدستورية والإنسانية الأساسية في الغذاء والدواء والتعليم والسكن والعمل، كما في تكوين المنظمات السياسية والنقابات.
وسوف يفتح هذا الأفق مساراً صعباً ومتعرجاً، يحتاج إلى نضالية صبورة، نحو إدماج فلسطينيي الأردن، اجتماعياً، في الدولة الوطنية الأردنية، على أساس المواطنة الفردية الديموقراطية، ورفض مبدأ المحاصصة.
لكن هذا الأفق ليس ممكناً إلا في إطار إعادة تحديد المستوى الأردني الخاص للصراع مع إسرائيل، وإعادة إحيائه. ويكمن هذا المستوى في القضايا التالية، التي ينبغي طرحها بمعزل عن المسار الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي:
1) قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين والنازحين الموجودين في الأردن. فلا يمكن، وليس منطقياً بالأساس، أن يكون هنالك سلام بين الأردن وإسرائيل من دون حل هذه القضية، باعتبارها قضية ثنائية، تتطلب من الوطنيين الأردنيين، بغض النظر عن أصولهم ، نضالاً مثابراً متصاعداً لحلها.
2) وهذا الحل ممكن في إطار تحديد أهداف واقعية، أي تأخذ بالاعتبار أن قسماً لا يستهان به من اللاجئين الفلسطينيين في الأردن قد تأرْدَن نهائياً في اجتماعه وهويته؛ وضرورة تنظيم الوضع القانوني للاجئين والنازحين المقيمين في الأردن ولا يتمتعون بالجنسية الأردنية. ولا بد من منح هؤلاء، ومعظمهم من الضفة وغزة، الجنسية الفلسطينية، وتمكينهم من الاشتراك في الانتخابات الفلسطينية، بما يحقق الشرط الأول للعودة الفعلية تالياً؛ وضرورة تحديد الراغبين من اللاجئين بالعودة إلى أراضي الـ48، واعتبار عودتهم الفعلية شرطاً للسلام الثنائي.
3) تأمين سيادة الأردن الكاملة على كل أراضيه التي جرى استردادها من دون سيادة في معاهدة وادي عربة 1994.
4) إلزام إسرائيل بتوفير كامل الحصة الأردنية من مياه نهر الأردن، وخصوصاً مياه أعالي النهر وأراضي الزور المحاذية للنهر.
5) تأمين الرقابة الدولية على تفكيك مفاعل ديمونة الإسرائيلي الذي يلوّث البيئة والمياه ،شرقي النهر، ويهدد الأراضي الأردنية أساساً في حال انهياره، لقدمه ورداءة شروط السلامة العامة فيه وحوله.
6) تأمين إعادة الانتشار العسكري الإسرائيلي بالشروط نفسها التي تحكم الانتشار العسكري الأردني.
7) رفع الفيتو الإسرائيلي، بضمانات دولية، عن المشروعات التنموية الاستراتيجية التي لم يعد ممكناً تأجيلها أو تعليقها على مشجب «العملية السلمية»، وخصوصاً قناة البحر الأحمر ـــــ البحر الميت، الضرورية لتأمين المياه المحلّاة والطاقة الرخيصة للاستخدامات المنزلية والزراعية والصناعية.
وهذه جردة أوّلية فقط، من عشرات القضايا الصراعية الأردنية ـــــ الإسرائيلية.
إنّ الاحتلال والاستيطان والقمع والحصار والتجويع من أجل التهجير في الضفة الغربية هي، بالتأكيد، سياسات إسرائيلية تهدد الأمن الوطني الأردني، ولا بد من التصدي الجدّي لها. ولكنني أردت لفت الانتباه إلى القضايا الخاصة بالمستوى الخاص بالأردن من الصراع مع إسرائيل، كإطار لوطنية أردنية كفاحية تشكل قاعدة للاندماج الاجتماعي والديموقراطي، في بلد واحد ذي هوية واحدة، لا يقبل القسمة ولا المحاصصة، وينبغي له أن يقوم أخيراً على المواطنة، لا «التابعية»، وعلى الانتماء لوطن والولاء للدولة، لا الانتماء إلى عصبة والولاء للنظام ووسطائه ونخبه.
* كاتب وصحافي أردني