strong>هوشنك أوسي *
غنيٌّ عن البيان الأهميَّة والمكانة التي كانت وما زالت تحظى بها المؤسَّسة العسكريَّة في الحياة السياسيَّة التركيَّة، بدءاً بالحقبة العثمانيَّة، وما حققته الانكشاريَّة من «فتوح» للسلطنة، ابتلعت شعوباً وبلداناً وثقافات شرقاً وغرباً، وصولاً إلى العهد الجمهوري الذي أنتجه العسكر التركي على أنقاض «الرجل المريض»، ولغاية يومنا هذا. ومعطيات تاريخ المؤسَّسة العسكريَّة التركيَّة، تشير إلى أن الجنرالات هم الصنَّاع الحقيقيون للسياسة التركيَّة، وما إن يشعرون بأنهم قد ضاقوا ذرعاً بالنسق السياسي التركي السائد، والمعرقل لسلوكهم وأدائهم، حتى ينقلبوا عليه، معيدين إنتاج أنساق سياسية جديدة، تتواءم وإرادتهم. لكن، في الأعوام الأخيرة، تراجعت فرضيَّة الانقلابات التقليديَّة التي كان يشتهر بها الجيش التركي، إلى جانب تعرُّض هذه المؤسَّسة لانتكاسات خطيرة، جعلتها تعيد النظر في أدائها، فيما يشبه «المراجعات النقديَّة»، فتعترف بارتكاب الأخطاء، وفي الوقت عينه، تلوِّح بعزمها على اقتراف المزيد منها!
قبل فترة وجيزة، وتحت عنوان: «استئصال دابر الدعم الاقتصادي والأيديولوجي لحزب العمال الكردستاني»، نظَّم مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجيَّة التابع لهيئة الأركان التركيَّة ملتقى، أدلى فيه قائد هيئة الأركان العامَّة الجنرال ياشار بيوكآنت، ونائبه الجنرال أرغين سايغون، باعترافات هامَّة وانتقادات ذاتيَّة، وللحكومة وللاتحاد الأوروبي، تقاطعت في جزء منها مع اعترافات سابقة كان قد أدلى قادة أركان سابقون لصحيفة «حرييت» قبل فترة. وتشير اعترافات بيوكآنت وسايغون إلى «انحسار دور المؤسَّسة العسكريَّة، وأنها باتت تُحشَر في زاوية ضيّقة»، بحسب قولهما. كما سرد بيوكآنت أخطاء الجيش والدولة التي استثمرها حزب العمال الكردستاني ضدَّ تركيا، قائلاً: «منذ سنة 1984، (بدء الكردستاني الكفاح المسلح)، ولغاية يومنا هذا، لقد أهدرنا الكثير من القيم الإنسانيَّة السامية. ودون استثناء، بمن فيهم نحن. ما ارتدَّ علينا كسلاح فاعل. وهذه القيم، يمكن حصرها في أربع: حقوق الإنسان، الديموقراطيَّة، الحرِّيَّة والسَّلام. الآن، من يوظِّف هذه المفاهيم، هل نحن أم المنظمة الإرهابيَّة؟ وكأن حقوق الإنسان بات محصوراً في حقوق الإرهابيين، كذلك الديموقراطيَّة؟ ضعوا أنفسكم مكان أحد الأجانب حيال هذا المشهد: ثمَّة مجموعة في تركيا، لا تملّ من الحديث عن حقوق الإنسان والحريَّة والديموقراطيَّة والسلام، وثمَّة مجموعة أخرى تناهض وتكافح المجموعة السابقة، وهي: قوى الأمن والبوليس والدولة. ولأننا نفتقد لهذه القيم، صرنا في وضعية الدفاع عن النفس، وأمام من؟ أمام الإرهابيين؟! بالنتيجة، نظهر وكأننا لا نؤمن بحقوق الإنسان والديموقراطيَّة».
ولم ينسَ بيوكآنت أن ينتقد بشدَّة مشروع قانون «العفو/ الندم، العودة للبيت» الذي ذكرت حكومة العدالة والتنمية أنها بصدد إنجازه، ردَّاً على المشروع الذي طرحه العمال الكردستاني، مدخلاً لتخلِّيه عن سلاحه، وطواها على سبعة اشتراطات، هي:
1. الاعتراف الدستوري بالهوِّيَّة القوميَّة للشعب الكردي، وكل الهوِّيَّات الموجودة في البلاد، ضمن الهوِّيَّة العليا الجامعة لمكوِّنات الجمهوريَّة التركيَّة.
2. الاعتراف باللغة الكرديَّة كثاني لغة في البلاد، وضمان حقوق تعليمها، مع احترام الحقوق اللغويَّة والثقافيَّة للأقليَّات الأخرى.
3. قبول المشاركة الكرديَّة في الحياة السياسيَّة في البلاد، وضمان حرِّيَّة الفكر والتعبير والرأي في الدستور، وإلغاء كل البنود التي تفرِّق بين المواطنين، وسنّ بنود جديدة تقوم على المساواة والحريَّة.
4. إعلان عفو عام، وإطلاق سراح كل السجناء السياسيين، ومن ضمنهم، قادة حزب العمال، والإقرار بحقِّهم في النشاط السياسي، وصولاً إلى مصالحة وطنيَّة شاملة، تعيد أواصر الثقة والاحترام بين المجتمعين الكردي والتركي.
5. إلغاء كل المظاهر التي تدلُّ على الحرب في المناطق الكرديَّة، عبر تقليل عدد القوات العسكريَّة ووحدات الحرب الخاصة المتمركزة جنوب شرق البلاد، وحلّ ميليشيات حماة القرى الكرديَّة، المتعاملة مع الجيش التركي، وضمان عودة المهجَّرين والمبعدين الأكراد إلى قراهم ومناطقهم، والعمل على إقامة المشاريع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التنمويَّة بغية تطبيع الأوضاع في تلك المناطق، وضمان فرص العمل والاستقرار فيها.
6. توسيع صلاحيات الإدارات المحليَّة، وتقديم الدعم لها، وإيقاف كل المضايقات والتدخلات في عمل وشؤون هذه الإدارات.
7. تحديد سقف زمني معيَّن ومتَّفق عليه، كي يتسنى بموجبه تخلي المقاتلين الكرد عن أسلحتهم بشكل سلس، وانضمامهم رويداً للحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة.
حيث أشار بيوكآنت إلى أن خطوة كهذه، «ستعطي الأمل والثقة لحزب العمال بأنه سائر نحو النصر. وعليهم أن يفقدوهم أيَّ أمل في ذلك». وفيما يتعلَّق بالمداولات الجارية حول الدستور المدني التركي، الذي يعتكف عليها حزب العدالة والتنمية، عبَّر بيوكآنت عن خشيته من أنه بحجَّة التعديلات والتغييرات الدستوريَّة، سيتم إضفاء الصبغة السياسيَّة على «المنظمة الإرهابيَّة، وشرعنة علنية وجودها ونشاطها». وذكر بيوكآنت أن الإرهاب «نال الشرعيَّة السياسيَّة، بوصوله إلى البرلمان، وهو على وشك أن يحظى بالحراك العلني الدستوري»، في إشارة منه للنوَّاب الأكراد التابعين لحزب المجتمع الديموقراطي DTP.
كما وجَّه الجنرال أرغين سايغون انتقادات شديدة إلى الاتحاد الأوروبي، واتهمه بدعم الإرهاب، قائلاً: «إن العديد من الدول التي من المفترض أنها حلفاؤنا، تؤمِّن ملاذاً آمناً للإرهاب»، وذكر أسماء البرلمان الأوروبي والفرنسي والبريطاني، على أنها تحتضن الدعاية للإرهاب، في إشارة منه إلى المؤتمرات التي تنعقد في قاعاتها حول القضيَّة الكرديَّة في تركيا، وآخرها كان، المؤتمر الذي انعقد في مبنى البرلمان الأوروبي، ما بين 3 ـ 4/12/2007، تحت عنوان: «الاتحاد الأوروبي، تركيا والأكراد»، وحضره العديد من البرلمانيين الأوروبيين، والبرلمانيين الأكراد من حزب المجتمع الديموقراطي، ورئيسه السابق، النائب أحمد ترك، ورئيسه الحالي نور الدين دمرتاش، ورئيس المؤتمر الوطني الكردستاني في المهجر علي أييد، وبعض من حملة جائزة نوبل للسلام كشيرين عبادي، ونوبل للآداب كهارولد بينتر، فضلاً عن العشرات من المثقفين والسياسيين والأكاديميين الأكراد والأتراك والأجانب، بالإضافة إلى حضور جنرال تركي متقاعد. وقد لقي هذا المؤتمر دعماً وتأييداً من كتّاب ومثقفين آخرين كياشار كمال ونعوم تشومسكي. واعتبر سايغون المؤتمر الآنف الذكر، والتي على شاكلته: «دعماً سياسيَّاً لحزب العمال، وشراكة في قتل المواطنين الأتراك». كما انتقد سايغون الإعلام الأوروبي لأنه لا ينعت حزب العمال بـ«الإرهاب»، ويصف أعضاءه بـ«المتمرِّدين أو المناوئين لأنقرة، أو الغريلا، أو المقاتلين، أو المسلحين...».
لا شك، أن هذه التصريحات تشير إلى مدى تدهور سمعة المؤسَّسة العسكريَّة التركيَّة، والحصار المفروض عليها داخلياً وخارجياً، ورغم ذلك، كل هذه الانتقادات الذاتيَّة للعسكر، تنطوي على تلويح صريح بعدم الارتياح لما آلت إليه حالهم، من جهة، ومن جهة أخرى، تعطي تهديداً استباقياً لأيَّة محاولة من قبل الحكومة، قد تصبُّ في خانة الكردستاني، وتوحي أنه المنتصر في معركته، وتظهر الجيش مهزوماً. كما تشير هذه التصريحات إلى أن هذه المؤسَّسة ما زالت مدمنة، ليس على التدخل في السياسة وحسب، بل في الشأن القانوني التركي أيضاً، وتسعى إلى تنميط الإعلام العالمي في ما يتعلَّق بالقضيَّة الكرديَّة، ليكون صورة فوتوكوبيَّة عن الإعلام التركي، ناهيك عن فرض أجندتها السياسيَّة بهذا الصدد على كل دول العالم!
الاعتراف بالأخطاء، ولو كان متأخِّراً، وانتقادها من قبل الجنرالات الأتراك بشكل صريح، هو فعل شجاعة، وخطوة في اتجاه الحل السلمي، على ألّا تكون مصحوبة بالمزيد من التهديد والوعيد على الاستمرار في قرار الحرب، لأنه لا منتصر في الحروب إلا الموت والدمار. والحال هنا، أن كلام الجنرالات الأتراك ووعظهم، ونقدهم الذاتي، كان مدعاة للشكِّ والارتياب أكثر من إثارته للطمأنة، وتعيد إلى الأذهان المثل الأوروبي القائل: «حين يبدأ الذئب بالوعظ، فما عليك إلا أن تخشى على دجاجاتك». وهذا ما أكَّدته المؤسَّسة العسكريَّة والحكومة التركيتان، في بدئهما الهجوم على كردستان العراق في 16/12/2007. والهجوم الجوِّي الأول، كان بـ50 طائرة من طراز «إف 16»، ألقت 200 طن من القنابل على جبال قنديل، على مدى ساعات، ثم تلا ذلك قصف مدفعي تركي ـــــ إيراني عنيف، وما زالت الهجمات مستمرة. خلاصة القول: نجح العسكر التركي في جرّ الحكومة «الإسلاميَّة»، وكل ألوان الطيف السياسي التركي لخنادقه، لكن حجم الهجمات الأخيرة على الكردستاني يشير إلى فشل الحسم العسكري لمصلحته. فلو كانت تلك الطائرات الخمسين، ألقت تلك الكميَّة من القنابل على أنقرة، فماذا كان حلَّ بها؟! وعلى مدى 23 سنة، هل بقي سلاح لم يستخدمه الجيش التركي ضد الثوار الأكراد، حتى المحرَّمة دوليَّاً تمَّ استخدامها؟ ويبدو أن العسكر الذين بنوا تركيا الحديثة، بعنادهم الخاسر، يسيرون بها نحو خرابها.
* كاتب سوري