ورد كاسوحة *
لم يكن عهد الرئيس اللبناني السابق إميل لحود مجرد صفحة سوداء، كما تسوّق لذلك جاهدة البروباغاندا الإعلامية لقوى 14 آذار. لكن في الوقت ذاته لن يذكره الكثيرون بوصفه عهد الممانعة المطلقة للنفوذ الأميركي والإسرائيلي في لبنان، كما يريد لنا فريق 8 آذار أن نعتقد، فدون ذلك عقبات كثيرة، أهمها أن الممانعة للمشروع الكولونيالي الأميركي في لبنان والمنطقة لا تستوي من دون الاقتران بطموح ديموقراطي حداثي، ومناهض جذرياً لأنظمة القمع والاستبداد السائدة في الشرق الأوسط، وهذا ما لا يمكن توقعه من ممانعة سلطوية رديئة، اختارت لنفسها أن تكون مجرد ترجيع آلي للدعاية البعثية الشقيقة، التي اعتادت أن تعتاش على استثمار القضايا العادلة والمحقة، وتجييرها لمصلحة استقرار نظامها وديمومته.
في كلتا الحالتين تنطوي محاولة اختزال عهد إميل لحود إلى ثنائيات مانوية مثل (السورنة ـــــ مناهضة الأسرلة) على تبسيط شديد وفهم قاصر للمعادلة السياسية اللبنانية، المعقدة والمركبة.
فوصول قائد الجيش الأسبق إلى سدة الرئاسة في عام 1998 كان بمثابة استكمال «طبيعي» لشروط المعادلة السياسية التي فرضها الحل الأميركي ـــــ السوري في اتفاق الطائف، وقد عبّرت هذه المعادلة عن نفسها طيلة حقبة الوصاية المشتركة بصيغة جدلية مفادها: إيقاف الحرب الأهلية وتوحيد الجيش وفرض الأمن والاستقرار والنظام في مقابل وأد الحرية وتدجين النظام الديموقراطي اللبناني (تعطيل المؤسسات، تدمير النقابات، الإفقار المتمادي وتحطيم الطبقة الوسطى، الخصخصة وبيع القطاع العام، قوننة عمل المافيات المشتركة، ضرب استقلال القضاء... إلخ). وإن كان وصوله ـــــ أي العماد لحود ـــــ في ذلك الوقت قد ترافق مع موجة تأييد شعبي عارم في كل أنحاء لبنان، بما في ذلك المناطق المسيحية التي انقلب ولاؤها السابق له بعد سنوات عداء غير مسبوق. وهو عداء من نوع فريد، لا يمكن تفسيره أو فهم تدرجاته وتحولاته الدراماتيكية إلا في ردّه إلى آلية إعطاب الذاكرة وتزييف الوعي، التي لطالما انتهجتها الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان منذ الاستقلال، وذلك لتسهيل إقالة الكتل الطوائفية الشعبية من مهمتها التاريخية في الخروج عن القاعدة السلطوية التقليدية الموالية للخارج الإقليمي والدولي، وبالتالي جرّها بسهولة ـــــ أي الكتل الطوائفية ـــــ ومن دون ممانعة تذكر، إلى منظومة الخيارات الإقليمية والدولية المتنقلة ما بين فرنسا وأميركا والسعودية وسوريا وإيران.
ويمكن في هذا السياق إدراج شعارات وأدبيات «انتفاضة الاستقلال» أو «ثورة الأرز» (صور الجنرالات الخمسة، حملة فل، توصيف العهد الأسود) في قاعدة مفهومية، قد تسهم إلى حد كبير في محاولة فهم الحساسيات الطوائفية المتغيرة للكتل الشعبية اللبنانية، التي حملت إميل لحود إلى سدة الرئاسة قبل تسعة أعوام، ثم ما لبثت تدريجياً أن تخلّت عن خيارها هذا لتلتحق بالقوى التي ناهضتها سابقاً، وهذا ما عنى في حينه ـــــ أي منذ تاريخ الخروج العسكري والأمني السوري من لبنان ـــــ ارتضاءها المضيّ في ركب تلك القوى والتيارات، عملًا بأوامر قياداتها السياسية والطائفية التي اعتادت، مثلما هي دائماً، الالتحاق بالسائد السلطوي المبتذل، حتى تحفظ امتيازاتها ومواقعها في اللوحة الإقليمية المتبدلة. والحال أن الخطاب السياسي لهذه القوى قد تدرج من مرحلة الولاء المطلق للوصاية السورية إلى مرحلة أخرى آذن اغتيال رفيق الحريري بتدشينها، مع ما رافق هذا الإيذان من تحولات جذرية في الولاء السياسي، كان أول ضحاياها عهد إميل لحود، الذي هلل له في بداياته أيما تهليل ذلك الرهط من «الاستقلاليين»، قبل أن يستقر بهم الأمر لاحقاً على سحب الوكالة المعطاة له ولنظام الوصاية الذي يرعاه، حينما أدركوا أن تغيراً ما قد طرأ على الأجندة الأميركية المعدّة لمنطقة الشرق الأوسط، بعد احتلال العراق، أي بعد مرابطة أكثر من مئة ألف جندي أميركي على الحدود الشرقية لسوريا!
عوداً على بدء، يمكن في جردة أولية الركون إلى سمتين أساسيتين ميزتا الحقبة «اللحودية»، ومثّلتا ما يشبه العلامة الفارقة لهذا العهد و«لإنجازاته»، التي آلت في النهاية، نتيجة لمجموعة من العوامل الداخلية والإقليمية، إلى محصلة فقيرة وبائسة للغاية.
دعاوى الإصلاح ومناهضة الحريريّة السياسيّة
تأسيساً على القاعدة اللبنانية السائدة التي تفيد بأن العهود التي أعقبت اتفاق الطائف إنما كانت محكومة بمنطق القسر والإلغاء الذي أملته الهيمنة السورية على لبنان، يمكن القول إن عهد إميل لحود بدا لكثير من اللبنانيين وقتها بمثابة الاستثناء الناقض لتلك القاعدة المشؤومة، خصوصاً أن هذا العهد استهلّ بشعارات لافتة وغير مسبوقة عن محاربة الهدر والفساد وسرقة المال العام وبناء المؤسسات ودعم المقاومة و... إلخ، الأمر الذي أشاع انطباعاً لدى رهط كبير من النخب اللبنانية بأن الأوان قد آن لسحب البساط من تحت أقدام تحالف المال والميليشيات والإقطاع الطوائفي وأمراء الحرب المغطى سورياً وأميركياً وعربياً، وإحالة أعضائه إما إلى التقاعد أو إلى المحاسبة المفضية حتماً إلى السجن، نظراً لفداحة الارتكابات والجرائم التي ألحقها هؤلاء بالشعب اللبناني، سواء في فترة الحرب الأهلية، أو في فترة السلم الخلّبي والهش الذي أعقبها.
وقد أتت حكومة العهد الأولى لتؤكد على صوابية هذا الخيار الإصلاحي، إذ ضمت بين صفوفها مجموعة من أبرز النخب التكنوقراطية اللبنانية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع ...الخ. والحقيقة أن الامتياز الفعلي لهذه الحكومة هو مجيئها من خارج السياق السياسي التقليدي في لبنان، أي من خارج الطبقة السياسية المهترئة التي حكمت هذا البلد منذ الاستقلال، وهو ما ضاعف من رهانات اللبنانيين على هذه الحكومة غير التقليدية، وعلى أعضائها المشهود لهم بالاستقامة والطابع الأكاديمي ونظافة الكف.
لكن هذه الصفات مجتمعة لم تشفع لهم على ما تبدى لاحقاً، ولم تنقذهم من مآزق المعادلة الأميركية ـــــ السورية في لبنان، فهاتان القوتان الوصيتان لم يرقْ لهما وجود حكومة «مدعومة» بقوة من العهد الجديد، وتتمتع بثقة أغلبية الشعب اللبناني، وبالتالي مكلفة من جانبه بالقيام بخطوات تسرّع من وتيرة الإصلاح، الذي إذا ما قدر له أن يتم بالشكل الأمثل، فسوف يصيب حتماً المصالح الحيوية الأميركية والسورية بضرر بالغ، وذلك عبر إلحاق «الأذى» بالحلفاء الأقوياء في لبنان، الذين كانت تمثلهم خير تمثيل الحريرية السياسية وشبكة تحالفاتها في لبنان وسوريا والسعودية وفرنسا. وهذا ما تنقضه حالياً الرواية «الاستقلالية» الآذارية التي تنسب إلى الحريرية السياسية دوراً استقلالياً مزعوماً في مواجهة الهيمنة السورية، في ما يشبه سعياً محموماً من هؤلاء لتلميع وجه الذراع الاقتصادية اللبنانية لحقبة الوصاية البائدة.
إلا أن ردّ أسباب إخفاق حكومة الرئيس سليم الحص في وعودها الإصلاحية إلى العرقلة التي مارستها الحريرية السياسية لا يعفي عهد العماد لحود الأول من المسؤولية المباشرة عن ذلك. وهي مسؤولية تتصل أساساً بعلاقته المميزة ـــــ أي العهد ـــــ مع نظام الوصاية، فضلًا عن سلوكه في مواجهة الحريرية السياسية منحى كيدياً، عاق إلى حد كبير عملية المواجهة القانونية والهادئة التي كانت تنتهجها حكومة الرئيس الحص، سعياً وراء تصفية بؤر الفساد التي كرستها الذراع اللبنانية للوصاية المشتركة نهجاً وحيداً لجمهورية ما بعد الطائف.
لهذه الأسباب مجتمعة لم تستطع حكومة العهد الأولى أن تفي بالتزاماتها تجاه الشعب اللبناني. فكانت الاستقالة في عام 2000، بعد عمر قصير في الحكم لم يتجاوز السنتين، إيذاناً ببداية انحسار وهج العهد الجديد، بعدما أخفق في أولى وعوده التي أطلقها في خطاب القسم الشهير، وأضاع فرصة تاريخية تمثلت في الشراكة مع إحدى أفضل الحكومات في تاريخ لبنان الحديث، وهذه فرصة كان يمكنها، لو اقتنصت على الوجه الأمثل، أن تطيل قليلًا من أمد هذا العهد، الذي بدأ بالأفول باكراً بل باكراً جداً.
التحرير ودعم المقاومة ومناهضة الأسرلة
هبّت المقاومة الإسلامية وعمودها الفقري «حزب الله»، من دون أن تعي ذلك أو تقصده بالضرورة، إلى نجدة حليفها الأول في لبنان، عبر إنجاز استثنائي تمثل في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي الرابض على أرضه منذ عام 1978. وهذا التحرير، إذا ما شاء المرء المفاضلة، يبقى أبرز الإنجازات التي ميزت عهد إميل لحود على الإطلاق، إذ أسهمت الخلفية العقائدية للرئيس القادم من قيادة الجيش الموحد بعد طول انفراط، معطوفة على الخيار الذي يرى إلى التناقض مع إسرائيل كياناً ومجتمعاً وجيشاً، خياراً وحيداً ونهائياً للبنان في بلورة فهم عميق وحقيقي لمدى خطورة مفهوم «الأسرلة» على الداخل اللبناني، وهو المفهوم الذي أسقط كثيراً من اللبنانيين سابقاً من معادلة السياسة، نظراً لعبثيته واستحالة تطبيقه.
وهذا الفهم الواقعي لدور لبنان ومكانته في محيطه العربي المناهض بالضرورة للهيمنة الأميركية المعطوفة على توسعية إسرائيلية ملحوظة ومعلنة، مثّل ما يشبه نقطة الضوء الوحيدة في هذا العهد، الذي عاد مجدداً ليسقط في امتحان الممانعة، عندما اختار لنفسه أن يكون شريكاً لإحدى أردأ الممانعات في المنطقة وأكثرها ابتذالًا وسوءاً، وأعني بها الممانعة السلطوية الشقيقة التي لا بد لها كي تنجح في امتحان المشروعية من المرور عبر المنفذ الديموقراطي، أي الانفتاح على شعبها في الموالاة والمعارضة وإشراكه في معادلة الصراع مع إسرائيل والهيمنة الأميركية من موقع الندّية والشراكة الكاملة في القرار الوطني، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمسألة وجودية ومصيرية مثل تلك المتصلة بتحرير الجولان وإطلاق أسرانا في السجون الإسرائيلية واستعادة ما بقي من أراضينا المحتلة منذ عام 1967.
ومثلما «أنقذ» «حزب الله» حليفه في قصر بعبدا من مأزق استقالة حكومة الرئيس سليم الحص في عام التحرير، عاد ليمدّ له حبل النجاة مجدداً، حين فكّ عنه، جزئياً، الحصار الذي ضرب حوله بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج الحلفاء السوريين من لبنان إلى غير رجعة، إذ مثّلت حرب تموز 2006 ما يشبه الصفعة للفريق الذي راهن على خروج وشيك لنزيل بعبدا بعد «الإنجازات الاستقلالية» في عام 2005، فالصمود الاستثنائي الذي أظهره «حزب الله» في تلك الحرب،
والانتصار الموضعي والرمزي الذي أحرزه على إسرائيل، أسقطا الرهان المعقود من قوى السلطة الملتحقة بالمشروع الأميركي على ما سمّته في أدبياتها: تصفية آخر «بؤر» النفوذ السوري في لبنان. فحرب تموز جاءت لتنتزع من قوى 14 آذار نقطة ثمينة وورقة رابحة، وتضيفهما إلى الرصيد القليل للعهد الموشك على الانتهاء، وهو ما كان كفيلًا بأن يحفظ له ماء الوجه في ما بقي من ولايته.
والأرجح أن هذه الجرعة «التموزية» كانت السبب وراء الشكل الاحتفالي الذي خرج به الرئيس العماد من قصر بعبدا للمرة الأخيرة. وهو الشكل الذي أراد له أن يكون بمثابة الصورة الأخيرة التي تحفظها عنه أعين اللبنانيين وذاكرتهم الجمعية. وهي صورة شاء لها دائماً أن تكون على مثاله، مثال الرجل «القوي»، والراديكالي والماضي في خياراته حتى النهاية، حتى لو كانت نهاية مشوبة بكثير من الخلل والعطب وسوء التقدير.
* كاتب سوري