strong> مصطفى بسيوني *
حملت نتائج انتخابات نقابة الصحافيين المصريين في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر تغييراً محسوساً في طبيعة مجلس النقابة. فقد فاز بمقعد النقيب من الجولة الأولى، وبأغلبية ساحقة، مكرم محمد أحمد، المرشح المدعوم بقوة من الحكومة. وكانت أغلبية مريحة لقوى المعارضة أو ما اصطلح على تسميته تيار الاستقلال النقابي، قد سيطرت على المجلس في الدورة السابقة، بينما تقلص في هذه الدورة عدد المقاعد التي فاز بها هذا التيار إلى أربعة من مقاعد المجلس الإثني عشر.
لا يمكن فهم النتائج التي تحققت في انتخابات نقابة الصحافيين بعيداً عن مجمل ما يجري على الساحة المصرية. كانت الانتخابات السابقة قد جرت في نهاية عام 2003، الذي مثّل نقطة تحول مهمّة في الحياة السياسية المصرية. فهو العام الذي سبقه خروج الجماهير إلى الشارع ـــــ بعد فترة انقطاع استمرت لعقود ـــــ للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، وهو نفسه العام الذي شهد تظاهرات غاضبة لعشرات الآلاف تم خلالها احتلال ميدان التحرير، أكبر ميادين العاصمة وأهمّها، احتجاجاً على غزو العراق، في مشهد لم يتكرر منذ انتفاضة الخبز في كانون الثاني/ يناير 1977.
وما تلا هذا هو ارتفاع الأصوات المطالبة بالتغيير. فتبلورت في عام 2004 الحركات وأبرزها «كفاية» التي مثّلت تجاوزاً نادراً للخطوط الحمراء المتعارف عليها في الحياة السياسية المصرية، بنقدها المباشر لرئيس الجمهورية وحديثها بصوت عال ضد توريث الحكم لنجله جمال.
يمكن اعتبار مجلس النقابة والنقيب اللذين جاءا في 2003 جزءاً من الإرهاصات الأولى لحركة التغيير وتصاعد الحراك السياسي في تلك الفترة في مصر، وهو ما ينطبق على انتخابات التجديد للنقيب التي تجرى كل سنتين، والتي تم فيها إعادة انتخاب جلال عارف، المستقلّ عن السلطة، نقيباً في عام 2005. وبقدر ما عبّرت انتخابات نقابة الصحافيين في 2003 و2005 عن حالة حراك سياسي في مصر، عبّرت انتخابات 2007 عن مأزق حركة التغيير الراهن. إن أهم القضايا التي تصدّت لها الحركة وتبنّتها هي رفض التمديد لرئيس الجمهورية أو توريث الحكم لنجله، تحت شعار «لا للتمديد لا للتوريث»، الدفاع عن استقلال القضاء والتضامن مع القضاة، رفض التعديلات الدستورية التي تمثلت في تعديل المادة 76 ثم تعديل 34 مادة من الدستور، اللذين رأت فيهما حركات المعارضة تمهيداً للتوريث، مكافحة التعذيب والفساد ورفض حبس الصحافيين. وسيكون من الإجحاف الشديد تجاهل ما تحقق. فقد انتزعت حركة التغيير، على الرغم من قانون الطوارئ والقمع الأمني، حق التظاهر وحق التعبير وحق التنظيم التي حرّمت لعقود. لكن الحركة، على صعيد القضايا الملموسة التي نادت بها، لم تحرز تقدماً يتناسب مع الطموحات والآمال التي انعقدت عليها. فرئيس الجمهورية تم التمديد له، وخطوات التوريث تتم في ثبات، والتعديلات جاءت كما أرادها النظام...
المجلس السابق لنقابة الصحافيين يمثل حالة شبيهة بذلك. فبرغم الجهود الكبيرة التي بذلها، وجاءت بالفعل ببعض الثمار في ما يتعلق بهيكل أجور الصحافيين، وزيادة البدل النقدي الذي يتقاضاه الصحافيون الأعضاء في النقابة، ودورات التدريب المهني، لم يحرز تقدماً ملموساً في ما يتعلق بالأوضاع المهنية عموماً. ولقد تحولت النقابه بالفعل في ظل المجلس السابق إلى منبر للحريات والديموقراطية، فسلّم نقابة الصحافيين أصبح مقراً لتظاهرات المعارضين، بل ورمزاً للمعارضة، في ظل غياب هذا الدور عن أغلب الأحزاب السياسية الرسمية.
لكن المفارقه أن الذين يصوّتون في انتخابات نقابة الصحافيين ليسوا هم الذين يتظاهرون على سلّمها. وهذا ما ينقلنا إلى الحديث عن الجمعية العمومية للصحافيين. إن عدد من يحق لهم التصويت هو 5031 صحافياً، وهو عدد قليل بالمقارنة مع عدد العاملين بالفعل في مهنة الصحافة في مصر، إذ تضع النقابة شروطاً خاصة لعضويتها، تجعل الانضمام إليها صعباً. والأهم من قلة عدد المنتسبين هو طبيعة من يحق لهم التصويت. فالأغلبية، أي نحو 3500 صحافي، هم من العاملين بالمؤسسات الصحافية القومية، أي المملوكة للدولة (أخبار اليوم ـــــ الأهرام ـــــ دار التحرير ـــــ الهلال ـــــ روز اليوسف... إلخ). وهذا التكتل الضخم للمؤسسات الحكومية يعبّر عن نفسه في نتائج الانتخابات. فأغلب الفائزين جاءوا من مرشحي هذه المؤسسات. ولا يعني هذا بالطبع أنهم خاضعون كلياً لإدارات مؤسساتهم، لكن بإمكان هذا العدد توفير تكتل أوّلي للأصوات، يدعم مرشحاً أو مرشحين بشكل مؤثر.
وكذلك ساعد في حصول هذه النتيجة الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع الانتخابات، والتي اتسمت بذكاء لا تتمتع به عادة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الانتزاع الناعم للنقابة من أيدي المعارضة. لقد تعاملت السلطة مع منصب النقيب وتشكيل المجلس بطريقتين: مع النقيب، دعمت المرشح «مكرم محمد أحمد» دعماً يصعب على الصحافيين رفضه: فبعد لقاء له مع رئيس الوزراء «احمد نظيف»، أعلن الأخير أنه سيصار إلى زيادة البدل المقدم للصحافيين من الدولة من 330 إلى 530 جنيهاً. وفي ظل مستوى دخول منخفض لأغلب الصحافيين، يصعب رفض هذه المنحة السخية، فاكتسح «مكرم أحمد» الانتخابات بقوة الـ200 جنيه الإضافية. أما المجلس فاكتفت الحكومة بأن يخرج من أيدي المعارضة، ولم تضع لنفسها سقف أن يسقط في أيديها، بما قد يخلق رد فعل عكسياً لدى الصحافيين، فرأت فوز المرشحين غير المنتمين للمعارضة، والذين تغلب على برامجهم النقاط ذات الطابع المهني والاقتصادي البحت، خطوة أولى على طريق انتزاع النقابة من المعارضة. وبالفعل جاءت قائمة الفائزين دون وجوه حكومية صريحة، بل وخسر في الانتخابات بعض من يُعرفون بانتمائهم للسلطة، وأغلب الذين نجحوا مستقلون او مهنيون، وأهم ما طالبوا به من خلال الانتخابات كان تحسين الخدمات المقدمة للصحافيين ورفع الأجور والتدريب المهني وإعلاء القضايا المهنية على اية قضايا أخرى. وكان كل المرشحين قد اتفقوا على رفض حبس الصحافيين. وتبقى الخطوة المقبلة للسلطة هي السيطرة الكاملة على النقابة، وهو ما يعني حرمان الواقع السياسي المصري من أحد أهم منابر حرية الرأي والتعبير.
لكن حال الصحافة المصرية نفسها تجعل عملية استكمال انتزاع النقابه أصعب من المتوقع. فقد كانت أغلب الصحف التي تصدر في مصر إلى وقت قريب هي الصحف القومية المملوكة من الحكومة. وكان ثمّة عدد قليل من صحف المعارضة الحزبية. ومنذ سنوات قليلة، بدأت تظهر الصحف المستقلّة، وتزايدت أعدادها أخيراً. ولا يعكس هذا الواقع نفسه في عضوية النقابة، فالانضمام للنقابة يستغرق وقتاً واستيفاء شروط، وإجراءات معقّدة. كذلك بدأت في الفترة الأخيرة تظهر وتتسع مساحة الصحافة الإلكترونية، وهي وإن لم تكن في حساب نقابة الصحافيين حتى الآن، لا بد من أن تفرض نفسها قريباً. وكذلك الأمر بالنسبة لمعدّي البرامج الأخبارية ومحرري الأخبار في القنوات الفضائية. أي أن نقابة الصحافيين لم تتأثر بعد بالقدر الكافي بالتغييرات الحاصلة في الواقع الصحافي.
استطاعت السلطة قطع نصف المسافة نحو السيطرة على نقابة الصحافيين، وهو ما قد يتجاوز تهديد النقابة بصفتها منبراً للرأي العام إلى تضييق الهامش المحدود أصلاً من حرية الصحافة، في لحظة حرجة من حركة المجتمع التي ما زالت تراوح بين التقدم الى الأمام والتراجع.
* صحافي مصري