ناهض حتر *
مرّت علاقة الفلسطينيّين في الأردن، بثلاث مراحل كبرى. امتدت المرحلة الأولى طوال عقدي الخمسينات والستينات، مرحلة وحدة الضفّتين، وفيها لعب الفلسطينيّون دوراً تقدمياً أساسياً في تطوير البنية الأردنية. فقد زوّدوها بالكوادر التربوية والإدارية والفنية والمهنية التي كان المجتمع الفلسطيني قد راكمها في فترة الانتداب البريطاني. وكان دور الفئات الفلسطينية المتمدّنة في الأردن غيره في دول الخليج، أوّلاً، لأنها اندمجت في الدولة والمجتمع من خلال المواطنة، وثانياً، لأنّها طوّرت التجارة والخدمات، وثالثاً، لأنّها اشتبكت مع مجتمع حيّ ناهض كان قد كوّن حركته الوطنية والثقافية.
وهنا بالذات، لعب الفلسطينيّون دورهم الأهم، حين قدّموا كوادر سياسية ونضالية مدربة أسهمت نوعياً، بتأسيس الأحزاب التقدّمية والصحافة الجديدة والحساسية الثقافية والأدبية الحديثة في البلاد. وعلى كل هذه المستويات، كان دور الفلسطينيّين مماثلاً لدور المسيحيّين الأردنيّين، أي إنه كان داخلياً وعضوياً.
في المقابل، أسهمت وحدة الضفتين بانتشال فلّاحي الضفّة الغربية المضطهدين من العائلات الاقطاعية، ومنحهم فرص التعليم وإشغال مواقع قيادية في الدولة ومؤسّساتها المدنية والعسكرية، وهو ما لم يكن متاحاً لأبناء الفلاحين الفلسطينيين في السابق. لقد اعتمدت حكومات وصفي التل في الستينات على أبناء الفلاحين في الضفتين من أجل تفكيك القوى القديمة وتحديث الدولة والاقتصاد والمجتمع وضمان وحدته، في نسخة أردنية من الناصرية (إنشاء القطاع العام الصناعي والخدماتي وتوسيع نطاق التعليم الجامعي والإصلاح الزراعي وخطط التنمية وتوزير أبناء الفئات الشعبية...).
وعلى رغم العديد من الأساطير المنتشرة عربياً، بسبب الدعاوى الفتحاوية، كان المجتمع الأردني ـــــ الفلسطيني، قبل حرب الـ67، في طريقه إلى الاندماج في دولة موحّدة وحديثة. لكن سقوط الضفة الغربية وضرب البنى العسكرية الأردنية من قبل إسرائيل، ومناخ الهزيمة والبحث عن بديل، سمح للتيارات الفلسطينوية، وخصوصاً «فتح»، بإعادة استقطاب فلسطينيّي الأردن على أساس هوية منفصلة. وهنا بدأت المرحلة الثانية التي تميّزت بالصدام بين الدولة الأردنية وفلسطينييها، وامتدت طوال السبعينات وأوائل الثمانينات.
بدعوتها ـــــ ونجاحها ـــــ في الاستقطاب الفلسطينوي، وضعت المنظّمات الفلسطينية نفسها مسبقاً في مسار هزيمة حتمية. فرغم ميزان القوى الداخلي الذي كان يميل لمصلحتها، لم تكن تستطيع الاستيلاء على السلطة في البلاد باسم الفلسطينيّين. وقد انقسمت الحركة الوطنية على أساس الهويتين المنفصلتين، وجرت عملية استقطاب واسعة في صفوف الأردنيين، بما في ذلك القوى التقدمية. وفي المحصلة، استطاعت قوات نظامية قليلة نسبياً وذات تجهيزات ضعيفة ـــــ ومحرومة من ضباطها وجنودها الفلسطينيّين الذين انضموا جماعياً إلى «فتح» ـــــ حسم المعركة مع المنظمات، في غضون أسبوعين من شهر أيلول 1970.
هل كانت هناك ضرورة تنبع من صلب حاجات المقاومة ضدّ إسرائيل، تستدعي تفكيك المجتمع والحركة الوطنية والجيش في الأردن، على أساس هويتين؟ كلا. فبالعكس، كانت العشائر الأردنية توفّر الحاضنة الاجتماعية والغطاء السياسي للمقاومة، وكان أكثر من نصف الشباب المنخرطين في العمل المسلّح أردنيّين، وكان الجيش الموحد يخوض حرب استنزاف حقيقية ضدّ إسرائيل (وقصة هذه الحرب لم تكتب حتى الآن)، وخصوصاً بعدما استعاد ثقته بنفسه بعد تمكنه من صدّ العدوان الإسرائيلي في آذار 1968.
شكّل فلسطينيّو الأردن في عقد السبعينات قاعدة معارضة جماعية تجمعها مشاعر «المظلومية» ومرتبطة بالقيادات الفلسطينية في لبنان. لكن محور نشاطها السياسي، بعد وقف العمليات التي استهدفت الشخصيات والمؤسسات الأردنية في النصف الأول من السبعينيات، كان يدور حول الصراع بين النظام الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية على كرسي المفاوضات مع إسرائيل.
بمعنى آخر، استخدمت «فتح»، الأكثر نفوذاً في صفوف فلسطينيّي الأردن آنذاك، تلك المعارضة في سياق التحشيد السياسي وراءها، ولذلك لم تؤدّ نشاطات المعارضة تلك أي دور في تدعيم المعارضة الاجتماعية والسياسية المحلية التي كانت تتأسّس في الأوساط الأردنية، وأدّى تراكم نشاطها إلى انفجار سلسلة من الهبات الاجتماعية السياسية، ابتداءً من 1989 وخلال عقد التسعينات.
كانت هزيمة المنظمات الفلسطينية أمام العدوان الإسرائيلي على لبنان، عام 1982، نقطة انطلاق للمرحلة الثالثة من علاقة الفلسطينيّين بالأردن، باتجاه المصالحة مع النظام الأردني. إذ لم يعد أمام آلاف العائدين من «التجربة» في لبنان، سوى البحث عن ترتيب أوضاعهم في الأردن، بينما انتشرت عقلية الخلاص الفردي واستخدام رابطة الهوية اقتصادياً. وكفّ فلسطينيّو الأردن عن القيام بدور المعارضة الجماعية. ولم يتراجع هذا الاتجاه الانعزالي والسلبي لدى انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987. بالعكس، نشأ شعور ـــــ له ما يبرّره فعلياً ـــــ بأن الوطنيّة الفلسطينية انتقلت من الشتات إلى الأراضي المحتلة. وعندما أقرّ النظام الأردني بهذه الحقيقة، واتخذ إجراءات فكّ الارتباط مع الضفة الغربية، والتسليم إذن بحقّ «المنظمة» في التفاوض مع إسرائيل، اعتبر المئات من الناشطين من فلسطينيي الأردن ـــــ وبعضهم في تصريحات أو كتابات منشورة ـــــ أنّ الصراع مع النظام الأردني قد انتهى بصورة إيجابية، من جهة أنّ مطلبهم الأساسي قد تحقّق. في المقابل، بدأ يتكوّن اتجاه قوي للمصالحة والبحث عن ترتيب أوضاع فلسطينيي الأردن داخلياً، بالتفاهم مع النظام الذي دخل أزمة سياسية عميقة على خلفية تحوّل الاتجاه العام بين الأردنيّين إلى المعارضة.
لم يشارك فلسطينيو الأردن على أي مستوى في انتفاضة نيسان 1989 التي انفجرت في الريف الأردني وفي صفوف العشائر، وكادت تطيح بالنظام الذي تنبّه، في لحظة الخطر، إلى المفارقة القائمة، مكتشفاً أنّ كتلة فلسطينيي الأردن، باتجاهاتها التصالحية والميركنتيلية، تشكّل قاعدة اجتماعية بديلة، تفتّ في عضد معارضة العشائر وتؤمّن الدعم للانتقال من نظام القطاع العام والرعاية الاجتماعية إلى نظام الخصخصة وحرية التجارة و«الاستثمار».
ولئلّا يحدث لبس هنا، نشير إلى نقطتين للتوضيح: الأولى هي أن أقساماً واسعة من فلسطينيّي الأردن هم من الفقراء. ولكنهم يتمتّعون بهامش معقول من القدرة على المناورة الاجتماعية، بسبب التحويلات من الأقرباء العاملين في الخليج والمغتربات. وتشير المعطيات المصرفية إلى أنّ حجم التحويلات المالية السنوية ـــــ الفردية ـــــ الآتية إلى الأردن، تناهز ملياري دولار (2006) ومن المتوقّع أن يكون مثلها على الأقلّ دخل إلى البلاد مباشرة في جيوب المغتربين. أمّا النقطة الثانية، فتتعلّق بالثقافة الاجتماعية ـــــ بوصفها رؤية للعالم ـــــ إذ يميل فلسطينيّو الأردن الذين يشكّلون معظم عناصر الفئات الرأسمالية والبرجوازية الوسطى في البلاد، إلى ثقافة الـ«بزنس» والبحث عن فرص الإثراء. وهذه الرؤية لا تتحقّق واقعياً بالنسبة للجميع، ولكنّها تحكم السلوك الجماعي.
في انتفاضة آب 1996، حين كان رصاص الأمن يتصدّى للمتظاهرين في المعاقل العشائرية الأردنية في جنوب البلاد، جال رئيس الوزراء آنذاك على المخيّمات، حيث استقبل بحفاوة جماهيرية أرادت أن تبعث برسالة صريحة إلى النظام بقصد التحالف. في الوقت نفسه هدّد «الإخوان المسلمون»، الذين يمثّلون شرائح متوسّطة وشعبية من فلسطينيّي الأردن، المعارضين الأردنيّين، بـ«قطع أياديهم» إذا اقتربت الاحتجاجات من العاصمة عمّان. وكان هؤلاء يدافعون عن التحالف القائم وقتها، بين الملك حسين و«حماس».
وفي عام 1999، عدّ التيار العريض من فلسطينيي الأردن توريث الأمير (الملك) عبد الله الثاني ، بدلاً من عمّه الأمير حسن، انتصاراً داخلياً في الصراع مع الوطنيّين الأردنيّين. وقد أظهر ملك الأردن الشاب، المؤمن باقتصاد السوق، والمتزوج من فلسطينية هي الملكة رانيا ـ التي جرى تقديمها كشخصية عالمية ـ حساسية مزدوجة وذكية إزاء الانقسام الداخلي من حيث تأكيده من جهة على الوطنية الأردنية ورفض الكونفدرالية مع «السلطة» واهتمامه بالجيش، ومن جهة أخرى إطلاقه إشارات إجتماعية وتشجيعه على توطيد التحالف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مع النخب الفلسطينية الجديدة. وهي نخب تكوّنت في القطاع الخاص أساساً.
على هذه الخلفية، طوّرت السلطات الأردنية آليات لاستخدام الكتلة الفلسطينية في السياسة الداخلية. وكان آخرها وأهمّها نقل عشرات آلاف الأصوات من المخيمات إلى الدوائر الانتخابية في كل أنحاء البلاد، ما مكّنها من ضرب الزعامات التقليدية والعشائرية والإسلامية معاً، ومنع اليسار من إمكان المنافسة. وليس من قبيل الصدفة إذن، منح الفتحاوي كمال ناصر، بالذات، حقيبة «التنمية السياسية» في الحكومة الأردنية الجديدة.
ما هي الآليات المضادة التي من شأنها إعادة ادماج فلسطينيي الأردن في الحركة الوطنية والتقدمية الأردنية، في مواجهة حكم الأقلية الأوليغارشيّة والكمبرادور والمشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية في الأردن وعلى حسابه؟ هذا السؤال مطروح على اليسار الأردني، ويمثّل، بالنسبة إليه سؤال وجوده.
• العنوان مقتبس من رواية زكريا تامر «النمور في اليوم العاشر».
* كاتب وصحافي أردني