نسيم ضاهـر *
مضت عقود ثلاثة على فتح ملفّ المارونية السياسية، وقرابة عقدين على طيّه. استهلّ نقدها بمطلب المشاركة وبيان استئثارها بمواقع القرار وممارسة السلطة، وانتهى إلى تعديلات دستورية شذَّبت صلاحيات رئاسة الجمهورية وأعادت توكيد النظام البرلماني، مستحدثة المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين في التمثيل وتوزيع الحقائب الوزارية وموظّفي الفئة الأولى، مع التفاتة إلى ضرورة المساواة الطائفية في إشغال المراكز الحسّاسة.
غالى القادة ذوو العصب الماروني في تجاهل النقمة المتصاعدة على قاعدة المشروعية، وانغمسوا طويلاً في تفسيرات وتصوّرات جعلت لهم لوناً من الامتياز في مقاربة الشأن السيادي والقوامة على الكيان، أبعدتهم عن خواص الدولة المدنية، وتعارضت مع الجاري من تحوّلات في المجتمع، ولربما تنكّرت أيضاً للطابع الحداثي المؤسّساتي الذي أراده الدستور، وتوجّهات النخب المسيحية ومسلكها في الثقافة والاقتصاد والاجتماع.
جاءت المراجعة قاسية، تخلَّلتها فصول دامية من الاحتراب الأهلي، أطاحت الغث والسمين، بجريرة قصر النظر السياسي، وغيَّبت بل طمست حسنات حقبة حراك سياسي معقول وتنافس لا يخلو من رقيّ في المضمون والخطاب، سواء داخل البرلمان أم خارجه.
دفع جنوح فئوي خاطئ نحو اختزال الحياة السياسية الى التنازع بين الأقطاب المسيحيّين، وحياكتها على مقاسهم، ظنّاً منهم أنّ شواغلهم تختصر مادّة المسألة وترسم الاصطفافات، إلى أن أسكنت الوصاية مجمل الأداء العام فسيح هندساتها، وأسقطت معاييرها الوظيفيّة على النشاط السياسي واللاعبين، رغم تزامن مرحلة الضمور هذه مع ورشَتي تحرير الأرض من الاحتلال والإعمار، ومساكنتها كلا التجربتين، رقابيّاً ومنفعيّاً، ما جمَّدَ المساءلة وقلَّص مساحة التخاطب الحيّ والتفاعل، وشطب أطرافاً ومكوّنات من المعادلة إلى حين.
وليس بمجهول أو خافٍ أن الجانب المسيحيّ، أو الجناح الشريك الآخر في الوطن على وجه الملاطفة، بقي منكفئاً في الواقع عن أهمّ قضيّتين محوريّتين وَسَما السيرورة الجديدة، وتخلّف عن مواكبتها عملياً، واكتفى، عبر رموز معنية بالتآلف والتضامن تحت خيمة دمشق، بمظهرية الحضور في البناء السياسي والإفادة المشاكسة من حواصله وعوائده.
انسحبت القوّات السورية العاملة في لبنان تحت وطأة الضغط الشعبي الداخلي ومفعول القرار الدولي رقم 1559، مفسحة في المجال لإعادة تكوين المشهد السياسي، وخلط الأوراق. وإزاء اختيار سائر قادة 14 آذار مدّ الجسور مع تحالف أمل وحزب الله، بغية الهبوط بأمان على مدرج الاستقلال المستعاد، ونمط محاصصتهم المقترحة المُقتِّرَة للتيار الوطني الحرّ، انفرد العماد عون بالخصومة الانتخابية، وحصد مقداراً وازناً من أصوات المسيحيين وتكتلاً ائتلافياً عريضاً، في مواجهة حلف رباعي مُذموم، قرأ العماد غايته في استضعاف المسيحيّين وتهميشهم، ووجد ترجمة مقولته في استبعاده من التشكيلة الوزارية وإغفال الأحجام والأوزان.
مذذاك، جلس العونيّون في مقاعد المعارضة حيال شركائهم السابقين حصراً، ونفروا من طاقم الرئيس برِّي لأسباب مزاجية محضة، بخلاف صمتهم عن حزب الله. وفي غضون أشهر معدودة، بدأت مُشاكسة منهجيّة متعدّدة الأطراف، داخل مجلس الوزراء وخارجه، توّجت في ورقة التفاهم بين العماد والسيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، ومهَّدَت لانسحاب شيعي لاحق من الحكومة إثر تداعيات حرب تموز عام 2006.
حرّرت استقالة الوزراء الشيعة العماد عون من إشكالية المعارضة الانتقائية، وسمحت له بالقيام بحركة لولبية مفادها الانتقال من ساحة الشهداء إلى ساحة رياض الصلح دون الالتحاق المعلن بقوى 8 آذار، أي، في اللغة العسكرية، التموضع على الجبهة المشتركة بالتنسيق، والاختصاص بقطاع مرسوم. من هذا المحور، عاود العماد القصف المركّز على الغالبية النيابية، وشحن مناصريه بسلاح التعطيل الفتّاك على عتبة الاستحقاق الرئاسي، مُستبشراً بلُحْمَة المعارضة ورسو الخلاص على شخصه باعتباره أقوى المسيحيّين وصاحب المشروعية في تبوّء سدّة الرئاسة. في هذا السياق، ضبط العماد حساباته على جهوزية حزب الله التعبوية، ومعرفته بتفوّق دمشق وطهران على الأسرة الدولية المقطورة أميركياً، في توفير الدعم المباشر العملاني، والثبات على موقف الممانعة واستثمار النفوذ والأوراق.
يعود لكلّ طرف سياسي الحقّ في حشد التأييد وتأليب الرأي العام لمصلحته ضمن ضوابط اللعبة الديموقراطيّة وأصولها. ومن نافِل القول إنّ الدعوات الراهنة بعناصرها من نوعيّة الخطاب ونبرتهِ وضربه على أوتار الغرائز والاستنهاض المذهبي، أعادت السِّجال إلى مربّع عتيق ومنطق بحكم المغلق، بذريعة الأحقّية واسترداد الحقوق المسلوبة، هيّأ له الطرق على أحادية التمثيل والطعن بنتائج الانتخابات. حلّ التفاهم الموقّع في كنيسة مار مخايل بديلاً من السلطة القائمة، واندفع أقطاب حزب الله إلى بيان جماهيرية العماد الكاسِحة في الوسط المسيحي، المكتسبة أصلاً، لو صحّت النسب المساقة تكراراً والمؤيدة باستطلاعات للرأي عديمة الصدقيّة، على خلفية التجييش الظرفي والريبة من مشروع أسلمة لبنان المزعومة، التي ضلع بها الحليف الجديد بصورة غير منتظرة ومتوقّعة من حزب ذي طابع مذهبي، طبقاً للمعطيات.
وأُخرجت وثيقة التيار الوطني الحرّ التأسيسية من التداول، ومن ثمَّ جرى نسيان المبادئ المدنية التي حملتها، ومحو اللمسات العلمانية التي أضفيت عليها، في إخفاء مدروس لكل معلم قد يخدش التعاون الوثيق مع حزب الله. على هذا النحو، امتنع التيار الوطني طوعاً عن الإشارات «السلبية»، وحصر نقد الطائفية بمن خاصمهم ووجد فيهم أبشع السيئات. على أن تتابع الأحداث أظهر حملة منظمة، برعاية وسائل حزب الله الإعلامية ومن على منابره، عمل التيار الوطني من خلالها على استنفار المسيحيين وتخويفهم من الخصوم السياسيين في أشكال حادة غير مسبوقة تخطّت المعهود، وأجهزت على مفهوم المواطنة التي رفع لواءها التيار، فيما فرّطت بأسس الدولة ولامست الانقلاب عليها. تدريجاً، ارتفعت وتيرة الخطاب العوني الاعتراضي، وازداد المنسوب المذهبي في قالبهِ ومفرداته، في مواجهة البحر العربي السنّي وأعوانه والملحقين من ذمّيين، الذين أسقطت عنهم صفات المسؤولية والوطنية، ونزعت عنهم الثقة والكفاءة والأهلية، حاضراً ومستقبلاً.
تمضي السياسات وتتبدّل التحالفات وفق قانون مُثبت بالشواهد، لبنانياً ومن حول الكيان. فمن باب الحكمة والواقعية، ينبغي الاحتياط من بلوغ قعر المساجلات وتجويف المخاطبة من الروية والاتزان. ومن المؤكّد أنّ نبذ الطائفية لا يتلاءم جوهراً مع محمول مضابط الاتهام الشعبوية المسمومة، وإن نطقت بالحرب على الفساد والاستئثار، وتوخَّتْ الخلاصية. ثمة ازدواجية، أضحت واضحة للعيان، تتلاعب بالمعايير، وهي حبلى بالمخاطر على أصحابها، وعلى المراد صدّهم وهزيمتهم، في آن، تلحق أفدح الأضرار بوحدة الوطن ونسيجه الاجتماعي.
فما نفع إقامة الحجّة على الآخرين بالضارّ والهدَّام، والتراجع إلى ما دون المارونية السياسية التي أُدينت يوماً على تقادم نسقها ومضي عهدها، للانزلاق طرداً نحو الهاوية وإعادة إنتاج خطاب زاده الانقسام المذهبي ومواضي المخاوف والتشنّجات؟ ولئنْ وهبت المقاومة حزب الله أوراق اعتماد معتبرة وجعلت حضوره ودوره لازمة عضوية تنبثق من حجمه التمثيلي ووزنه الشعبي القائمين على حقيقة ملموسة وملامح واضحة امتزجت بحاضنة مذهبية جرّاء العقيدة والمعاناة وعاملَي التاريخ والجغرافيا، لا تصحّ مقارنة التيار الوطني بهذه الظاهرة، والدمج آلياً بين رافعات هذا وذاك، والتمادي في أوجه الشبه ومتانة البناء. بل إنّ التيار الوطني يفتقد مقوِّمات أساسية يحظى بها حزب الله، أخصَّها اللّحمة النظرية وتطابق مزاج القواعد وتطلعات بيئتها مع خيارات التيار، وما قد ينجم عنها من نموذج اجتماعي، سياسي واقتصادي على المدى البعيد.
أثبت العونيّون مقدار ولائهم للعماد وتمسّكهم بالعصبية عند المنعطفات. فعل شبابهم ذلك إبَّان مرحلة الملاحقة والقمع، واستمرّ النشطاء على العهد والوعد. لكن دائرة المؤيّدين من خارج التنظيم آخذة في الانحسار على التخوم وهوامش المؤتلفين عبر الشخصيات الوسيطة. في مستطاع العماد التعويل على حلقة المقرّبين، في السرَّاء والضرَّاء، أياً كان مضمون خطابه ومعارج سياساته، لكن هذا الأمر لا ينفي الأعطاب التي أوقعها التحاق ممارسته وخطابه بما يتعدّى التفاهم مع الطرف الشيعي إلى تقويض العلاقة مع سائر المسلمين، ونزعة مصادرة إرادة الناخبين والقول بامتلاكها حصراً، في المقابل. ولقد استدعى أعلاه الندِّية ظاهراً بين طرفي ثنائي التيار ـــــ حزب الله، الإيغال في إبراز العضلات والتشديد على هوية مسيحية قحّة مقرونة بالمخاوف على ضياعها وذوبانها. عند هذا المفصل، أصلى العماد ناراً على جميع مُناوئيه الواقفين عقبة أمام وصوله إلى قصر بعبدا، ورأى أنّ الحركات الأصولية التكفيرية ربيبة الإسلام السياسي بطبعته السنّية ذات البعد العربي، معين له في تنفيذ أهدافه وقبضه منفرداً على السلطة في لبنان.
حرصت المارونية السياسية على قدر من مراعاة الشركاء، وإن ضمن معادلة غير متكافئة بالكامل، استندت إلى دستور الجمهورية وأنصبة الحكم العائدة لكل طرف آنذاك. بدَّلَ الطائف اللوحة نتيجة مخاض طويل وجولات عنف، مُُصحِّحاً الخلل في التوازنات، على قاعدة المناصفة الطائفية وإيلاء السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء المؤلّف من فريقيْن متساويين في العدد. لذا، يتبين أنّ الخطاب العوني اليوم، في بُنيتهِ وطروحاتهِ، يرتدّ إلى ما قبل الطائف في مفهومه للسلطة وقيادة البلاد، ويتوسّل حيثيات عفا عنها الزمن وباتت من مخلفات ماضٍ هدَّدَ بالانشطار. ولا يفيد، في المسألة، تناغم العماد مع حزب الله وإشادته به، أي الارتكاز ضمناً على شريك بعينه للدلالة على الجوهر السياسي للخطاب، لأنّ المندرجات العونية، في القول والممارسة، فاقت كل متوقع حيال مكوّنات الغالبية، ولامست القطيعة مع مرجعياتها الاعتبارية ومنظومتها القيميّة ونموذجها الاجتماعي، وألقت ظلال الشك على انتمائه الوطني لدرجة الضلوع في التآمر والتخوين. يفشل هذا السلوك، الشعبوي المجبول بالمذهبي الفاقِع، في الارتقاء إلى الجامع الوطني، وينفض عن نفسه أولى درجات سلّم الحداثة والتغيير. مُقبل الأيام كفيل بالحكم على صحّة هذه الأطروحة، والكشف عمّا سيؤول إليه المحفار البونابارتي وناتجه من صخر جبل لبنان وغباره.
* كاتب لبناني