منهال الأمين *
بعكس ما يحدث الآن، ليس من العدل أن تُناقش جدوى الاعتصام «معه شخصياً» بصفته تجمّعاً أو تحرّكاً يعطّل أو يشغّل (يطلق حراكاً ما)، يُزعج أو يُفرح، يقنع أو «يجنّن»، يجدي أو «يُفشل» (زياد الرحباني ـــــ بتصرف). هذا ما يفترضه منطق العلّة والمعلول (السبب والمسبّب). ذاك أنّ هذا التجمّع من «الخيم الاعتراضية» بات يُحاكَم على ما لم يقترفه، وتلصَق به كلّ المسؤولية عن كلّ المعضلات على أنّه مسبّب أوّل وأخير، واحد أوحد لا شريك له!
وإذا كان ثمّة محاكمة ـــــ مساءلة أجراها أحد لهذا الاعتصام، فانطلاقاً من أنّه لم يتعاطَ ـــــ منظّموه طبعاً ـــــ مع الأحداث وفقاً لحجمه السياسي والحزبي (والطائفي بدون مواربة)، والأهمّ من هذا الواقع الاجتماعي والشعبي ـــــ لا الشعبوي كما أثبت بجدارة الذي انطلق منه. وهذا ما لا يحدث عادة في لبنان مع «أصحاب المصائب والمطالب» المأخوذين بالتفاف ما حولهم، أو من تكوّن «الغلبة» إلى جانبهم، نيابية كانت (أغلبية صافية على الأرجح)، أم شعبية (ليست شعبوية مجدداً)، أم دولية (وبعض الإقليمية التي تثير حنيناً طائفياً عادة) فتوفّر لهم «شرعية» يستظلّون بها ـــــ أو هكذا يفترضون. وكيف بهم أيضاً أن لبّت نداءهم حشود مليونية غير مدّعاة طبعاً في تظاهرتين لا يفصل بينهما سوى 10 أيام (1و10 كانون الأول 2006 نموذجاً). فيطيح هؤلاء البعض في العباد والبلاد توتيراً وتسكيراً وتعميقاً للانقسام الداخلي، وهم لم نعرف حتى الساعة ضدّ من يرفعون عقيرتهم، وعلى من يشهرون سيوف النضال، اللهمّ إلا ما انكشف من عزفهم على الوتر الطائفي الساخن (وقد كان هناك من يعمل ليل نهار لاستغلال الاعتصام وتجييره في هذا المسار: احتلال العاصمة السنية من جانب الغزو الشيعي، إسقاط رئيس الحكومة السنّي...). ولا بأس لو عدنا قليلاً إلى أرشيف «ثورة الأرز»، لنكتشف هذا النهج العنصري البغيض، القائم على تحريض طائفي أبغض منه، والذي يتحكّم بأهل السياسة والإعلام في هذا البلد المسكين. واللافت أن كل من يتناول الاعتصام، ساعة توهيناً بعدم جدواه وساعة تعظيماً لنتائجه المدمّرة، لم ينبر سابقاً للحديث عن تحرّكات معيّنة في تلك البقعة من العاصمة بيروت، التي لا ينبغي أن يغيب عن بال أحد أنها رمز لتأميم الأملاك الخاصة، لمصلحة شركات خاصة هي الأخرى (سوليدير نموذجاً ساطعاً حيّاً)، وبرعاية من «الدولة اللبنانية» التي لا حول لها ولا قوة، إلا ما شاء الحاكم بأمره، المدجّج بالمال والسلطة والإعلام المحرّض.
وهنا نسجّل أنّ التذمّر والتململ «غير البريء» مصدره زبائن وموظّفو هذه الصفقة المريبة التي راح ضحيّتها مئات من أصحاب الحقوق في الوسط التجاري الذين ما زالوا غير مسامِحين بالحق الذي اغتصب باسم الإنماء والإعمار. وهؤلاء المتذمّرون غير الأبرياء أنفسهم، يأنفون من توافد أنصار «القوى الاعتراضية» (المصطلح عائد إلى أدبيات «ثورة» الأرز) من أطراف الوطن المحرومة، إلى هذه المنطقة المحرّمة على الفقراء ـــــ المعترضين ـــــ كي لا يضيفوا إلى المشهد الراقي والحضاري ما ينفّر السياح ويشعر «نخبة» المجتمع بالقرف. وهنا ليست هذه سخرية ولا «ملقسة» بل هي توصيف حقيقي ودقيق للفكر (فكر مدمّر على كلّ حال) الذي يحكم عقول طبقة من الناس، لا تعرف من الوطن إلا أين نستثمر، أين نربح أكثر، أين الزبائن، أين السياح، أين الموارد، أين كل ما يلمع فهو ذهب، وإن كان شرارات الاشتباك الداخلي.
ورئيس الحكومة الحالي (غير الشرعي بدلالة هذا الاعتصام على الأقل) وأحد تجليات «ثورة الأرز»، هو من هذه «القماشة» من رجال الاقتصاد، وقد تربّع على عرش السياسة المالية منذ 15 عاماً، حيث ثبّت أقدامه أكثر فأكثر ببركة زمن الوصاية المصنّف في أدبيات «الثورة» إياها، زمن قهر وإذلال وانتقاص من الديموقراطية وحرية التعبير التي تميّز الصيغة اللبنانية تتوسطها الأرزة، دون النسور والنجوم والسيوف. المدرسة التي تخرج منها السنيورة، هي التي أضفت على شخصيته الكثير من الأساليب الإبداعية في امتصاص دماء الفقراء وعامة الشعب، بموازاة قدرة خارقة على «تشليح» بعض الملّاكين من أصحاب الحقوق.
أمّا الاعتصام الذي يربأ بنفسه حتى الساعة عن هذا المنطق، فإنه مطلبي بامتياز، شاء من شاء وأبى من أبى، ما دامت الصيغة اللبنانية تتّسع لكلّ هذا الحراك فلم لا يعتصم الناس سنة واثنتين وثلاثًا... حتّى تتحقّق مطالبهم أو يؤدّوا قسطهم للعلا، مقابل تعنّت وعجرفة حكّام من هذا النوع العربي الرديء. وهو رغم كلّ ما قيل فيه وعنه وله، سجّل النقاط الآتية:
ـــــ رفع الاعتصام شعار الشراكة الوطنية، محتجّاً على سلطة هي بعرف الدستور غير شرعية لأنها ناقضت مبدأ العيش المشترك (الميثاق الوطني). وهو التزم بهذا الشعار، ولم يستثمر حتى الآن (ولا يبدو أنه سيفعل) فظاعة ما ارتكبته السلطة بحق قاعدته الشعبية خلال عدوان تموز وبعده، بدءاً من التبرؤ من المقاومة (كان هذا موعداً مناسباً لاستقالة الوزراء لولا حجّة التضامن خلال تلك المرحلة الحساسة)، وصولاً إلى الاستخفاف بالمواطن ولقمة عيشه (دعم المازوت نموذجاً) وسرقة المساعدات وتأخير التعويضات، مروراً بالاستهانة به وبجمهوره.
ـــــ إنه ردّ حضاري على الخروج على المواثيق وعدم الالتزام بالتعهدات من حضرات الشركاء والزملاء في الوطن (بعبدا عاليه والحلف الرباعي نموذجاً).
ـــــ اعتصام حقيقي غير فولكلوري مهما حاول البعض أن يبخسه حقه، فيستحضر خيم النايلون والخيش وحبال الغسيل والأراكيل وموائد الهواء الطلق... دلالة على العبثية، متجاهلاً مطالبه المحقّة والعادلة.
ـــــ الاعتصام هو الأطول في تاريخ لبنان بل وفي العالم العربي (وربما عالميًا؟)، وإن كان السنيورة «صمد» ولم يستقل، فلأنه (الاعتصام) لم يتمدّد طولاً ولا عرضاً ولم يتّخذ أشكالاً تصعيدية، ولم ينجرّ إلى منزلقات كان يخطّط له التورط فيها (أحداث الجامعة العربية في 25 كانون الأول 2006 نموذجاً). فالحاكم المعتصم بالسرايا لم يجد من وسائل تحميه إلا النزعة الطائفية. وللأمانة فإنه نجح في أن يكون رئيساً طائفياً، فيما فشل طبعاً في أن يرفع عنه تداعيات الحركة الاحتجاجية (التي قد يكون هو ضحيتها الأولى، والتسوية القائمة حالياً دليل واضح على احتراقه).
ـــــ لا يستطيع أحد أن ينكر أنه ترك أثراً، فقضّ مضجع الحاكم غير الشرعي، وأقلق راحة الفريق الداعم له (طبعاً لم يكن هذا تعدياً على مبدأ تداول السلطة!)، وظلّ يصرخ في وجهه بمطلب استقالته، ليضطر يومياً إلى الدفاع عن نفسه محرجاً أمام الزوار الذين يقصدون القصر الحكومي بروتوكولياً، فيضطرهم مستضيفهم للإدلاء بتصريحات الدعم والتأييد التي تزيده عزلة وبُعداً عن شعب يلفظه.
ـــــ استطاع أن يتجاوز المطبّ الطائفي والصدام مع محيطه غير المتجانس، حيث جهد أصحاب النوايا السيئة في أن يوقعوه فيه، محافظاً على طابعه الاحتجاجي الذي سعى للتذكير دائماً بأن هناك مشكلة في البلد تتمثل في استئثار فئة بالسلطة ومحاولة عزل فئات أخرى.
ـــــ من عوامل قوة الاعتصام أنه يمثل فيما يمثل جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني (دون التورط في النسب المئوية) أو أنه لا يكفي أن يتمثل فيه التيار الوطني الحر وتيار المردة وحزب الله وحركة أمل وطلال ارسلان والرئيس عمر كرامي وجبهة العمل الاسلامي (غير غافلين عن الحساسية السنية)... حيث أثبت الاعتصام بصفته حركة احتجاجية، حفاظه على تنوعه السياسي وترابط مكوناته وتماسكها. ولم يخضع للمنطق القائل إنه لا جدوى من بقائه. ورغم أنه استمر بطريقة شبه رمزية أخيراً، فهو لم يُخلِ الساحة ولم يحقق رغبات المريدين به شراً.
الأهم في ما فعله الاعتصام أنه اخترق البازار الاقتصادي، الذي أنتج نهضة مزيفة تشبه المنشّط الذي سرعان ما يفقد فاعليته، بعد أن يكون مبتلعه قد ظن بنفسه الظنون وبنى عليها الآمال والطموحات الكبيرة، إلا أنه يدرك ولو بعد حين أن كل هذا وهم. لكن كان هنا الاعتصام بتصرفهم هذه المرة، فكان بالواجهة شماعة يعلق عليها الفاشلون فشلهم طيلة 15عاماً من احتكار السلطة، حيث بلغت الأزمة الاقتصادية «خوانيقها» بسبب السياسات الرعناء للبيع والشراء بمقدرات هذا البلد (الخلوي، السوليدير شركة خاصة تتملك البلد بطريقة التأميم، المواطن ضحية الضرائب المفضلة، شلّ النقابات، التمترس الطائفي من خلال الغطاء المذهبي لما يسمى إنماء وإعماراً...).
وأخيراً لم يكن الاعتصام المتّهم الوحيد بل أيضاً المقاومة و«افتعالها» حرباً في تموز «خرّبت» الموسم السياحي... إذاً السياحة هي المستهدفة، والمواطن اللبناني أمام خيارين: إما أن يكون زبوناً دسماً راشداً يدفع وهو ساكت، فيحب الحياة ولا يمقتها. وإما أن يهاجر ويعود إلى هذا البلد «سائحاً» علّه يحظى بشيء من احترام واستقبال لائق... واعتصموا.
* صحافي لبناني