ياسين تملالي
معارض لـبوتفليقة حُبس لـ«مخالفة القوانين الجمركية»

«سجون الجزائر» ثاني كتب محمد بن شيكو بعد «بوتفليقة، خديعة جزائرية» (2004) الذي أدّى به إلى غياهب السجن بتهمة واهية هي «مخالفة القوانين الجمركية». وكان قد حُكم على المؤلف في 14 حزيران 2004 بالحبس سنتين بتهمة دخول التراب الوطني دون التصريح بوثائق تثبت امتلاكه أموالاً مودعة لدى الخزينة العمومية. وقد برهن محاموه أنّ القوانين السارية لا تُلزم حامل مثل هذه الوثائق التصريح بها لأنّها عديمة الصلاحية خارج البلاد، علاوة على أنّ مصالح الجمارك رفضت رفضاً قاطعاً أن تتأسّس في القضيّة كطرف مدني. غير أنّ هشاشة التهمة واستنكار الرأي العام، لم يجنّبا مدير صحيفة «لوماتان» إدانة قاسية، كانت قصاصاً له على دوره المحوري في حملة سياسيّة واسعة ضدّ ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية ثانية في 14 نيسان 2004.
وكما كان متوقعاً، فقد أثار حفيظة السلطات صدور «سجون الجزائر». وهي إذ لم تتمكّن من منع تداوله في المكتبات، كما فعلت مع «بوتفليقة، خديعة جزائرية»، فقد قامت بحظره في معرض الكتاب الدولي المقام في العاصمة الجزائر من 31 تشرين الأول إلى 9 تشرين الثاني من العام الجاري، ما دفع بالناشر، دار إيناس، إلى مقاطعة المعرض احتجاجاً على احتداد مقصّ الرقابة في دولة تزعم حماية حرية الرأي والتعبير.
ويفتتح الكتاب بتقديم للكاتب الفرنسي جيل بيرو. ويتكوّن من كتابين متوازيَين تتعاقب فصولهما وتتخلّلهما أشعار كتبها المؤلّف وهو رهن الاعتقال، مستهلّهما ببعض قصائد الشاعر التركي ناظم حكمت.
ويروي «الكتاب الأول» الحياة في سجن الحراش وما تحفل به من لقاءات إنسانيّة طويلة أو عابرة. وخصّص فيه محمد بن شيكو فصلاً كاملاً عنوانه «الابتزاز»، للضغوط التي مُورِسَت عليه بهدف حثّه على طلب الصفح من الرئيس مقابل العفو عنه. أمّا «الكتاب الثاني» فهو تأريخ لما يسميه «المؤامرةَ» التي استهدفت «تحطيمه» و«إعدام» جريدته. ويتطرّق فيه بالتفصيل إلى الصراع الذي خاضه في وجه ترشح عبد العزيز بوتفليقة للرئاسة في 2004، وكانت آخر حلقاته بيع ممتلكات «لوماتان» في المزاد بذريعة تراكم الضرائب عليها.
ويتألف «الكتاب الأول» من مجموعة بورتريهات لأشخاص قابلهم بن شيكو خلال حبسه، منهم سجناء اقتسم معهم الأمرّين، واكتشف من خلال تكفّلهم التام به، وهو المريض المحروم من العلاج، أنّ السجن لا يقضي بالضرورة على إنسانية الإنسان، ومنهم حرّاس اعتذروا له محرَجين عن تنفيذ ما يُؤمَرون به من تضييق على حريّته.
ويبدي المؤلف تعاطفاً جمّاً مع من التقى بهم من مساجين، وتفهماً كبيراً للمآسي الشخصيّة التي أوصلتهم إلى عتبات الحراش، كما يدين الفساد المتفشّي في أوساط القضاء من خلال حكايات حقيقية تصوّر إفلات «الأقوياء» من العقاب، مهما كانت جسامة ما اقترفوه، والتنكيل السادي الذي يعانيه «الضعفاء» ممّن لا قدرة لهم على رشوة القضاة.
ويعترف الكاتب بأنه، بحكم «خصوصية» قضيّته، وبفضل تجنّد الصحافة حوله، لم يتعرّض إلى كلّ ما يقاسيه السجناء من اعتداءات وإهانات يوميّة، مؤكداً أنه بتأليفه كتابه هذا لم ينوِ إدانة جلّاديه فحسب، بل كذلك إيصال «صوت من لا صوت لهم» إلى الرأي العام، والتذكير بأنّ المعتقلات الجزائرية ليست «مؤسّسات إعادة تربية» بقدر ما هي «حجر موت»، مهمّتها كسر إرادة ساكنيها واغتيال إنسانيتهم لا «إدماجهم» في المجتمع من جديد، كما تزعم الدعاية الرسمية.
وفيما جاء سرد المؤلّف في «الكتاب الأول» هادئاً تتناسب روتينيّته مع روتينيّة حياة الزنزانة ورتابتها، تميّز «الكتاب الثاني» بنبرة حادّة تبدو صدى لعنف المظالم التي تعرّض لها. ويعترف فيه بن شيكو بأنّ الدافع الرئيسي للحملة التي شنّها على الرئيس في «بوتفليقة، خديعة جزائرية» كان الخوفَ من أن يتمخّض انتخابه عن تسارع وتيرة «مهادنة الأصولية الإسلامية» و«ضياع مكاسب سنوات طويلة من الصراع ضدّ الإرهاب». كما يعترف بأنّ ما شجع «لوماتان» على تصدّر هذه الحملة كان الإيمان بأنّ في أوساط النظام شخصيّات لا تستسيغ مشروع «المصالحة الوطنية» وتنوي عرقلته.
ويُقرّ الكاتب بأنّ اقتناعه بوجود كتلة معارضة لبوتفليقة داخل السلطة، كان فكرة شبه حالمة، عمّقتها دعاية الأجهزة الأمنية الهادفة إلى إيهام الناخبين بأن انتخابات 14 نيسان 2004 منافسة مفتوحة، وأنّ الجيش يساند مرشّح جبهة التحرير، علي بن فليس، لا رئيس الجمهورية. ولا أدلّ على رومانسية هذه الفكرة، يقول محمد بن شيكو، من تنصّل معظم خصوم الرئيس حال انتخابه من اتهامهم له بـ«بيع البلاد للإرهابيّين الدمويّين».
ويستخلص القارئ من مطالعة «سجون الجزائر» أنّه لم يُرمَ بالكاتب في السجن بسبب مساندته لعلي بن فليس، ولكن بسبب مجموع المواقف المعارضة لـ«لوماتان» التي لم يمنعها، حسب قوله، عداؤها للأصولية من التشهير بجور النظام وبتسييره البلاد كملكية خاصّة. ويذكر بن شيكو، من بين هذه المواقف، كشف ممارسة وزير الداخلية يزيد زرهوني التعذيب على مواطن في بداية السبعينيات بهدف إجباره على التخلّي عن صيدليّته، ونشر أخبار موثّقة عمّا عاناه شبّان من منطقة الأوراس من انتهاكات جسدية في مقرّات الدرك لا لشيء، سوى تظاهرهم للتنديد بظروف معيشتهم المزرية.
ويبدو الجزء المخصَّص «لـلمؤامرة» على «لوماتان» مثيراً للجدل، فهو إذ يزعم ثبات الجريدة في مناهضة التعذيب، يضرب صفحاً عن صمتها خلال التسعينيات عمّا كان يتعرّض له المشتبهون في انتمائهم إلى جبهة الإنقاذ الإسلامية من استنطاقات عنيفة وإعدامات عشوائية. كما يتناسى تأييدها للزجّ بآلاف الإسلاميّين المفترضين في المعتقلات الإدارية دون محاكمة، ونعتَها مناضلي حقوق الإنسان في تلك الفترة الدامية بـ«محاميي الإرهاب».
إلا أنّ الكتاب، بالرغم من هذه النقيصة، يسلّط الضوء على بعض خبايا مرحلة حاسمة من «سنوات بوتفليقة» وما عرفته من صراعات ومناورات. وهو إن غضضنا النظر عن توجّهه السياسي، شهادة نادرة عن «سجون الجزائر» وعمّن تغصّ بهم من «أبرياء» و«ضعفاء».
* صحافي جزائري





العنوان الأصلي
les geôles d’alger
الكاتب:
محمد بن شيكو
الناشر
inas editions