لطفي حجي *
كان لافتاً للانتباه التعهدات بتعزيز الثقافة الإسلامية وحمايتها وتمكين الحقوق الثقافية للجميع التي أعلنها وزراء الثقافة في الدول الإسلامية في اختتام مؤتمرهم الخامس الذي انعقد بطرابلس الغرب يومي 21 و22 تشرين الثاني الماضي.
وقد تعهّد الوزراء في مجال تعزيز الثقافة الإسلامية وحمايتها «تقديم الصورة الصحيحة للإسلام والثقافة الإسلامية، وذلك من خلال السعي بكلّ الوسائل لحفظها والتعريف بثوابتها وإبراز مرونتها وتسامحها، والتصدّي لكل أساليب الاستهانة بالأمة الإسلامية والتطاول على سيادتها، بما في ذلك سياسة الإملاء والاستلاب الفكري والثقافي». كما تعهّد المؤتمر أيضاً «مقاومة ظاهرة فوبيا الإسلام وتشجيع الحوار والتعايش بين أتباع الأديان».
من؟؟؟؟ المفترض بحسب المشروع أن يعلن وزراء الثقافة في الدول الإسلامية تعهّدات مماثلة، لأنها من صميم عملهم. ولا شك أنها تعهّدات تتكرّر في كلّ مؤتمر لتتوجّه بالاتهام إلى الآخر الذي يُسهم أو يسعى لتشويه الإسلام والثقافة الإسلامية من خلال كتابات ورسوم وسلوكيات تستهدف المسلمين ومعتقداتهم. وليست الأمثلة هي ما ينقص في هذا الصدد.
إلا أنّ واجبنا بالمقابل هو أن نطرح سؤالاً معكوساً عن دور الأنظمة الإسلامية والعربية بالخصوص (وهو ما يهمّنا في هذه المقالة) في تشويه الإسلام، مع إقرارنا بأنّ الثقافة الإسلامية هي ثقافات في الواقع، وأنّ النظرة للإسلام هي نظرات متعدّدة وليست واحدة. لكنّنا سنساير التعميم الذي استعمله الوزراء في مؤتمرهم.
قد يبدو السؤال استفزازياً للبعض، لكنه واقعي، لأن النظرة الموضوعية تبرز أن عدداً من الأنظمة العربية والإسلامية لها يد غير معلنة، قد تختلف من نظام إلى آخر، في تشويه الإسلام ـــــ من حيث لم ترغب ـــــ والإبقاء على صورته النمطية التي يتبنّاها عدد من الغربيّين. وتلك الأنظمة كثيراً ما تعتمد أسلوب مهاجمة الغرب والثقافة الغربية للتغطية على جوانب تقصيرها في تقديم صورة عصرية وواقعية ومغرية عن الإسلام تنصهر ضمن الرؤية الكونيةإنّ ردود الأفعال العنصرية المناهضة للثقافة الإسلامية التي تبرز بين الحين والآخر في الغرب، لا يجب بأيّ حال من الأحوال أن تحجب عنّا رؤية الحقوق والحريات التي يتمتّع بها المسلمون في الغرب، وهي حقوق عادة ما لا يحصلون عليها في بلدانهم الأصلية. وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ العديد من المسلمين فرّوا من القهر السياسي لأنظمتهم إلى حرية الغرب الذي منحهم اللجوء السياسي والجنسيات والحرية الدينية، حيث مكّنهم من حرية ممارسة شعائرهم وإنشاء مدارسهم الخاصة، حتى وإن برزت بعض مظاهر الإقصاء في المدارس العمومية في عدد قليل من البلدان الغربية الذي يبدو فيها النموذج العلماني؟؟؟؟؟ أكثر تشدّداً في رفض ما بات يُعرف بالرموز الدينية.
كما أن تضخيم النظام الرسمي العربي الحديث عن تشويه الآخر للإسلام هو أسلوب سياسي محكم لإبعاد التهمة عن النفس في تشويه الإسلام. قد يبدو ذلك الإقرار صادماً، لكنّه واقع ملموس يعيشه المسلمون منذ عقود تشهد على رفض الأنظمة العربية إحداث إصلاح سياسي شامل يقدّم للعالم بأسره رؤية إيجابية عن المسلمين ونمط عيشهم ونظامهم السياسي.
إنّ المشهد السياسي العربي الإسلامي يزخر بالمظاهر المُسيئة لمقاصد الدين الإسلامي، وهي مشاهد ترفض الأنظمة المتحكّمة تغييرها على الرغم من تعدّد النداءات المتكرّرة منذ أكثر من قرن للإصلاح الديني ولإصلاح النظام السياسي العربي باتجاه الحرية والديموقراطية.
وتدرَك تلك المظاهر بيسر عندما نخرج من دائرة العبادات والشعائر ـــــ التي تبقى من صميم الديانة ـــــ إلى الثقافة بمفهومها الواسع التي لا تقلّ قيمة عن العبادات، بل هي في قراءات معينة للإسلام في مصاف العبادات والشعائر، التي تبدو، حسب تلك القراءات، لا قيمة لها في ذاتها إن لم تغيّر سلوك المسلمين تجاه بعضهم وفي تعاملهم مع الآخر، وإن لم تحفّزهم أيضاً على إعطاء صورة جيدة عن دينهم في أبعاده الاجتماعية والسياسية والحضارية عامة. وقد غُيِّبَت هذه الرؤية عمداً في ثقافة الأنظمة الإسلامية ليتمّ إحلال أخرى ذاتية ضيقة، غَيّبت الأبعاد الإنسانية الواقعية. وواضح أنّ هذه الأخيرة وُضعت عندما كانت العلاقة بين الفقيه والسلطان مختلّة، فكان الفقيه جزءاً من المنظومة السياسية السائدة، لا يستطيع بلورة رؤى مستقلة عنها.
وإذا أردنا تحديد مظاهر الخلل في الثقافة التي تروّج على أساس أنها إسلامية، تكفي الإشارة إلى أنّ الدول الإسلامية عجزت عن التوحّد في الأعياد الإسلامية. فعلى الرغم من أن العيد واحد والهلال واحد، فإنّ المسلمين لم يتوصّلوا إلى حلّ يضع حدّاً لنرجسية أنظمتهم التي يريد كلّ واحد منها أن يتفرّد بالقرار حتى ولو كان على حساب مبدأ إسلامي واضح. والدول الإسلامية لا تحترم الاتفاقيات في هذا الصدد، التي صادقت عليها هي ذاتها. ووصل الانقسام إلى الجاليات المسلمة في الغرب، التي تتعدّد أعيادها في البلد الواحد باتباع قرارات دولها الأصلية. وهذه بالتأكيد صورة غير مضيئة وغير مغرية في الوقت الذي يحافظ فيه أتباع الديانات المسيحية واليهودية على توحّدهم في مثل هذه المناسبات.
فعندما تحرم عدد من الأنظمة التي تسمّى إسلامية المرأة مثلاً من أبسط حقوقها، التي نصّ عليها الدين ذاته، فإنها تعطي صورة مشوَّهة عن الإسلام بالمقارنة مع أنظمة غربية قامت على مبدأ الحقوق والمساواة بين الجنسين. وكذلك عندما تعامل مواطنيها على أساس أنهم رعايا لا حقوق لهم، في عالم تقوم ثقافته على مبدأ المواطنة. وعندما تمعن في هضم حقوق الأقليات، وترفض إسناد الجنسية إلى عدد من مواطنيها وتقيم مواطنة بدرجات متفاوتة، فإنّها تُسهم في تشويه الإسلام الذي دعا إلى المساواة بين الناس. وعندما تخسر الأموال الطائلة لتكريس ثقافة تغرق الإسلام في المسائل الخصوصية والشخصية المحضة، لإبعاد المواطن عن الشأن العام، فإنها تُسهم في تشويه الإسلام الذي من أهم مقاصده اعتناء المسلم بالشأن العام. وعندما تحرم المواطن من حقوقه السياسية الأساسية، مثل الحقّ في الانتخاب والترشّح، فإنها تعطي صورة سيئة عن النظام السياسي التي تدّعي أنه مطابق للإسلام. وعندما تحاكم الناس من أجل أفكارهم وقناعاتهم وكتاباتهم، وتساوي في ذلك بين الحاكم والله، فإنها تُسهم في تشويه الإسلام وتصوّره على أنه قامع للحريات بأصنافها. وعندما تعذّب المعتقلين وتنتهك حرماتهم الجسدية، فإنها تخالف الإسلام الذي حثّ على الحرمة الجسدية، وتُسهم هي في تشويه الثقافة الإسلامية.
ويمكن أن نملأ مجلّدات كاملة بالأمثلة التي تبرز إسهام النظام الرسمي العربي في تشويه الإسلام، برفضه التغيير رغم كثرة النداءات، وإصراره على الإمعان في الخطأ والتصلب.
علاوة على ذلك، يبدو من المفيد الإشارة إلى بعض المفارقات التي وردت في تعهّدات وزراء الثقافة في الدول الإسلامية والتي لا تتماشى مع الواقع في الدول الإسلامية ذاتها. وهي مفارقات تتكرّر على مرّ العقود. فعند التعهّد «بتقديم الصورة الصحيحة للإسلام والثقافة الإسلامية»، يقف المتتبّع مصدوماً أمام كلمة «صحيحة» في الوقت الذي يشاهد فيه تناقضاً صارخاً بين تصوّرات الأنظمة القائمة للإسلام. هل الرؤية الصحيحة هي السنية أم الشيعية؟ هل هي رؤية النظام الليبي الذي احتضن المؤتمر المذكور، أم رؤية النظام السعودي الذي يتزعّم الحديث باسم الإسلام في العالم؟ وإذا كانت هناك رؤية صحيحة واضحة، فلماذا تتصارع الرؤى على أرض الواقع إلى حدّ التقاتل؟ أسئلة يرفض النظام الرسمي الإجابة عنها.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى دعوة الوزراء لإبراز «مرونة الثقافة الإسلامية وتسامحها». هل يستطيعون ذلك في الوقت الذي يقدّمون فيه ببلدانهم نموذجاً متصلّباً يقوم على مطاردة كل من يُبدي تصوراً مغايراً في الثقافة الإسلامية السائدة؟ والأمثلة عديدة، من محمود طه إلى نصر حامد أبو زيد، كما يقوم على محاصرة الأقليات الدينية ومطاردتها بدون موجب قانوني أو شرعي.
ومن ثمّ تأتي الدعوة الأخرى «لتشجيع الحوار والتعايش بين الأديان»، ولنا أن نتساءل: كيف يمكن تحقيق هدف مماثل في الوقت الذي يرفض فيه عدد من تلك الأنظمة الحوار الداخلي بين أتباع الديانة الواحدة من مذاهب مختلفة، وتقوم مناصرة «بحدّ السيف» لمذهب على آخر.
ثغرات عديدة تقودنا إلى القول إنّ الثقافة الإسلامية يمكن أن تدافع عن نفسها وسط الثقافة الكونية متى تخلّى عدد من الأنظمة الإسلامية عن الممارسة الأحادية في تصوّر الإسلام، وابتعد عن اختيار القمع وسيلة وحيدة للتعامل مع أصحاب الأفكار الجديدة والمذاهب المختلفة. وبذلك يمكن الخروج من شمّاعة الآخر المشوّه للإسلام ـــــ من دون أن ننفي وجود هذا البعد ـــــ إلى تحمّل مسؤوليتنا في تشويه الإسلام، حتى وإن كثرت الدعوات لحمايته. لأنّ الإسلام ليس شعارات ترفع، بل مقاصد تُدرك، وممارسات تُعاش على أرض الواقع، وإسهام في الحضارة العالمية يمكن أن تلفت الانتباه لتلك الثقافة.
والسؤال الذي من المفروض أن تلقيَه على نفسها الأنظمة الإسلامية الراهنة، هو بماذا أسهمت في إثراء الثقافة الكونية من منطلقات الثقافة الإسلامية؟
إنه السؤال المَدْخَلُ الذي لا مناص منه لحماية واقعية الثقافة الإسلامية.
والجواب مفاده أن إصلاحاً من الداخل للثقافة الإسلامية تتداخل فيه الأبعاد السياسية والفكرية من شأنه أن يجعلها تدافع عن نفسها وسط ثقافات تتجدّد وتغري فئات واسعة من شبابنا ومثقّفينا.
* صحافي تونسي