يحيى فكري *
هاجم الرئيس مبارك أخيراً حكومة رئيس الوزراء أحمد نظيف علناً، ربما للمرّة الأولى، بخصوص مسألة العاصمة الجديدة. وهي أحد المشروعات المستقبلية التي طنطنت لها كثيراً لجنة السياسات في الحزب الوطني ورجالها (جناح جمال مبارك في السلطة)، والتي كان من المفترض أن ينتهي الإعداد لها والبدء في تنفيذها خلال أعوام قليلة، بحيث يتمّ الانتهاء منها عام 2050! وقد تركّز هجوم مبارك على توجيه الإنفاق على مشاريع من هذه النوعية، بينما يعاني محدودو الدخل في مصر اليوم ضغوطاً معيشيّة حادّة وانهياراً في الخدمات... ثمّ أمر بإغلاق الملف، والالتفات إلى الاحتياجات الاجتماعية الملحّة.
واللافت أنّ تصريحات مثل هذه تردّدت، لأوّل مرة أيضاً، على ألسنة بعض قيادات الدولة قبل أسابيع، خلال مؤتمر الحزب الوطني في مطلع تشرين الثاني الماضي، كتصريح وزير الاستثمار الذي سُئل عن تأثير «الإنجازات» الاقتصادية ـــــ التي يدّعيها ـــــ على حياة عامّة المصريّين، فأجاب بما يعني أن الغالبية ما زالت تعيش تحت ضغوط صعبة، وأن فوائد «الإصلاح» لم تصلها بعد. وبالطبع لم تظهر تلك الميول ـــــ الحديث عن الظروف المعيشية الصعبة لغالبية المصريّين ـــــ في تصريحات مبارك ورجاله بسبب اكتشافهم فجأة لحقائق الأمور، وهم الذين ملأوا حياتنا ضجيجاً على مدى زمن بالحديث عن إنجازاتهم وتحسّن الأحوال، بل ظهرت لأنهم لم يعودوا قادرين على تجاهلها.
فقد فرضت المعارك الجماهيرية المتواصلة في مصر طوال 2007، التي تمحورت في أغلبها بشكل أو بآخر على المطالبة بتحسين الأجور والخدمات، نفسها على أجندة النظام المصري رغماً عنه.
لقد أدّى الاندفاع في السياسة الليبرالية الجديدة بمعدّل سريع، الذي واكب تشكيل حكومة رجال الأعمال عقب التجديد لمبارك عام 2005، إلى قفزات في مستويات الفقر في مصر. فمثلاً وَرد في تقرير الموارد البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في نهاية 2005 أنّ 34 في المئة من المصريّين يعيشون تحت خط الفقر (أي يقلّ دخلهم عن 2 دولار يومياً)، بينما قفزت النسبة خلال نحو 18 شهراً لتصل إلى 41 في المئة، حسب تقرير البنك الدولي الصادر في تموز الماضي. وحسب تقرير أخير لمركز دعم القرار التابع لمجلس الوزراء، فإن 55 في المئة من المصريّين يعيشون في مستوى ما من الفقر، بينهم حوالى 15 مليون مواطن (حوالى 20 في المئة من إجمالي السكان) يعيشون تحت خطّ الفقر طبقاً للمعيار المصري، أي تقل دخولهم عن 120 جنيهاً مصرياً شهرياً (أقل من 0.75 دولار يوميّاً).
وإذا أخذنا في الاعتبار الارتفاع في معدّل التضخّم الذي وصل في الأشهر الأولى من 2007 إلى 10.5 في المئة، وما أدّى إليه من زيادة كبيرة في أسعار جميع السلع والخدمات الأساسية، سيظهر لنا بوضوح مدى البؤس الذي وصلت إليه الأحوال في مصر.
يمكن الأرقام في حدّ ذاتها أن تكشف عن حجم المعاناة التي يعيش فيها فقراء المصريّين. فربّة المنزل المتوسّطة الحال والعامل الفقير والموظّف الصغير في مصر ليسوا في حاجة إلى محلّلين اقتصاديّين يفضحون لهم «إنجازات» نظام مبارك، التي يتجرّعونها يومياً كؤوساً من الذلّ وتدهور الأحوال. لقد وصل الأمر إلى ارتفاع غير مسبوق في معدل الانتحار بسبب الفقر. وحسب تقرير لأحد مراكز حقوق الإنسان، وصلت حالات الانتحار الناتجة من الفقر إلى أربعة حالات شهرياً في المتوسّط. وربما كانت القصّة التي تفجّرت أخيراً بشكل واسع عن هجرة الشباب الفقراء غير الشرعيّة إلى بلدان جنوب أوروبا، وما يتعرّضون له من مخاطر الموت أو السجن بحثاً عن فرصة عمل، كاشفة إلى درجة كبيرة عن الأمر.
ورغم أن مسألة الهجرة هذه ليست بالجديدة، إلا أنّ حادثة غرق 180 شاباً مصرياً، التي وقعت عشية انعقاد مؤتمر الحزب الوطني، وهم يحاولون التسلّل إلى إيطاليا بواسطة مراكب صيد متهالكة، فجّرت الحديث عن الأمر، بعدما غرق معظمهم ولم ينج منهم سوى عدد محدود. جميع هؤلاء من أسر فلاحية تعيش في قرى فقيرة، ومعظمهم تقلّ أعمارهم عن عشرين عاماً أو في أوائل العشرينيات، وجميعهم يعيشون في فقر مدقع. وهذه ليست أول حادثة من نوعها، لكن ربما كانت المرّة الأولى التي يتناولها الإعلام المصري بهذا الاتساع، ليتكشّف من ورائها الحجم المذهل لهذا الوضع البائس، والإحصائيات التي تقول إنّ الثلاثة عشر عاماً الأخيرة شهدت موت تسعة آلاف مصري غرقاً في البحر المتوسّط أثناء محاولتهم التسلّل إلى أوروبا، وهو رقم من عُرف بأمرهم.
ذكرت دراسة اجتماعية صدرت أخيراً عن جامعة القاهرة أن 85 في المئة من الأطفال في الريف المصري (ما بين 6 و15 عاماً) يتسرّبون من التعليم ويتّجهون للعمل بسبب حاجة أسرهم لعملهم. لكنّهم بالطبع لا يجدون عملاً، أو يعملون في شروط في غاية القسوة تجعلهم يعيشون بالكاد على حدّ الكفاف. وهكذا انتعشت تجارة الهجرة غير الشرعية من مصر إلى إيطاليا واليونان وتركيا بواسطة سلسلة من العصابات المنظّمة. وفي حوار صحافي مع مساعد وزير الداخلية، ذكر أن، حسب تقاريرهم الأمنية، نصف مليون مصري يخوضون المحاولة سنوياً، وأن بلدان جنوب أوروبا تقوم سنوياً بترحيل 15 ألف مصري من المتسلّلين غير الشرعيّين إليها، وأن فيها 176 معسكر اعتقال مخصصة لاحتجازهم حتى يتمّ ترحيلهم.
ولا تقتصر المأساة فقط على تلك الحقائق، حيث تحمل المغامرة نفسها خطر الموت بنسبة كبيرة يدركها جيداً الشباب المهاجرون وأسرهم. فالعصابات التي تهجّرهم تحشر كل 70 أو 80 فرداً منهم في مركب متهالك سعته القصوى 20 فرداً، وبعض العصابات لا تطلب استعادة المراكب لأنّها تعرف أن الاحتمال الأكبر هو غرقها. هذا غير ما يتعرّض له من يصلون سالمين إلى السواحل الأوروبية من قصف نيراني بواسطة خفر السواحل، ومن يخرج سالماً من كل ذلك ينتهي به الحال في الأغلب داخل معسكرات الاعتقال، ولا ينجح في المغامرة إلا نسبة لا تتجاوز 5 في المئة.
لقد ظهر من روايات الناجين وأهلهم، أن بعض الأسر دفعت بابنها الثاني للهجرة بعد موت الأول غرقاً أثناء المحاولة، وأن بعض الشباب خاضوا المحاولة أكثر من مرة رغم تعرّضهم للغرق، فلم تعد أمامهم أي فرصة للحياة في مصر، وأصبحت المغامرة بأرواحهم هي الحلّ الوحيد. الانتحار أو المغامرة بالحياة صارا سبيل الفقراء المصريّين للخلاص من شقائهم. هكذا أصبحت الأمور بفضل مبارك ونظامه. لكن ربّما كانت الإضرابات العمّالية المتصاعدة طوال 2007 فاتحة خير، فقد تشقّ طريقاً جديداً للخلاص في عيون الفقراء...
* صحافي مصري