إسكندر منصور *
سقط البناء من الداخل بعد أن شاخ الأساس. كثيرٌ من البلشفيّين تيتّموا وساروا في اتجاهات مختلفة بعدما فقدوا البوصلة التي قادتهم أكثر من سبعين عاماً. شباب من منابع فكريّة مختلفة، أكثرهم من خلفيّات شيوعيّة وتحديداً من الحزب الشيوعي اللبناني، قرّروا أنّ القديم قد شاخ وسقط، وبسقوطه سقطت أسئلته وأجوبته (هكذا قرّروا). تمحور همّهم حول إمكان جديد يحمل همّ العدالة الاجتماعيّة والديموقراطيّة، فكانت حركة «اليسار الديموقراطي». وُلدت في غمرة الحدث، والحدث كان رفع الوصاية عن لبنان وإطلاق سراحه.
وكان الرابع عشر من آذار وكانت الآلاف في الشوارع، وكان هلال وكان صليب، وكان التيار وكانت القوات، وكانت عمائم بيضاء، وكان يمين ويسار. ومضى النهار ومضى الليل وطلع الفجر وكان سؤال:
هل «طائفة + طائفة + طائفة تصنع وطناً أم تبقى ثلاث طوائف»؟ وجاء الجواب: في حرب تموز وفي انتخابات المتن وبيروت، وفي خطب الوليد و«القدّيس جعجع» و«زاي ما هيّ» والشيخ أمين والياس عطا الله وأهل التفاهم.

الياس عطا الله واليسار الديموقراطي

غاب التمايز في موقف «اليسار الديموقراطي» عن قوى 14 آذار من البداية، لا بل ساد التماهي إلى حدّ الانصهار في جميع الجبهات، السياسيّة والطائفيّة وحتى اللفظيّة، حتى يصعب على السامع أو القارئ أن يميّز بين سمير جعجع والياس عطا الله، أو بين الحريري والياس عطا الله. أمّا بين جنبلاط والياس عطا الله، فحدّث ولا حرج عن التقارب والاندماج، ولو كان الدروز يؤمنون بتقمّص الدرزي خارج طائفته لكان الياس عطا الله واحداً من حكمائهم السابقين.
لقد طغت شخصيّة عطا الله على مجمل ساحة عمل الحركة، أو للتوضيح لقد اختصر عطا الله «اليسار الديموقراطي» في شخصه ونشاطه وعلاقاته، فأعطاها حضوراً مميّزاً نتيجة كونه الوجه الأبرز خلال الإرهاصات الأولى لما عرف لاحقاً بـ«ثورة الأرز»، بالإضافة إلى رصيد غني من خلال دوره في قيادة «جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة» ضدّ الاحتلال الإسرائيلي كونه كان المسؤول المباشر عن عمل المقاومة في الحزب الشيوعي بعد الأمين العام الشهيد جورج حاوي الذي أعلن قيام الجبهة مع محسن إبراهيم في بيت الشهيد كمال جنبلاط.
وربّما كان لطبيعة العلاقة بين الياس عطا الله ووليد جنبلاط والتي كانت قد نشأت وتوطّدت نتيجة للعلاقة المتينة بين الحزب الشيوعي والحزب التقدّمي الاشتراكي منذ الخمسينات من القرن الماضي، أثر في استمرار هذه العلاقة وخصوصاً بعد أن وعى وليد جنبلاط بأن الحزب الشيوعي ليس في «الجيبة» وأنّه في طريق الاستقلال عن الجنبلاطيّة الجديدة المتمثلة بقيادة وليد جنبلاط بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري.
جاء عطا الله إلى «اليسار الديموقراطي» كواحد من المؤسّسين إن لم يكن المؤسّس. فغياب الديموقراطيّة التي وجّه إليها سهام نقده في الحزب الشيوعي أصبحت جزءاً من الممارسة في «اليسار الديموقراطي.» والفرديّة التي طغت على الحزب الشيوعي اللبناني وباقي الأحزاب الشيوعيّة انتقلت عدواها إلى الحركة الجديدة. فحلّ أمين السر مكان الأمين العام، واستُحدث منصب الرئيس فكان نديم عبد الصمد الذي نادراً ما ظهر في السنتين الأخيرتين، الرئيس.
قِيلَ إن الديموقراطيّة كانت ميزة المؤتمر الأخير الذي عقدته حركة «اليسار الديموقراطي». كيف يكون مؤتمراً شرعياً وديموقراطيّاً من دون طرح وثيقة سياسيّة وفكريّة للنقاش وتقييم للتجربة التي مرّ بها لبنان والحركة؟ سنتان وأكثر مضت على حركة 14 آذار وثورة الأرز. أين انتصرت؟ وأين فشلت ولماذا؟ هل كان دور «اليسار الديموقراطي» دوراً ملحقاً تابعاً أم مستقلاً متمايزاً؟ الأسئلة كثيرة ومثيرة، والجواب كان لا وقت للسؤال والمساءلة. إنّه الجديد القديم بكلّ وجوهه جاء ليؤكّد بأنّه ليس هناك ديموقراطيّة من دون ديموقراطيّين.

هل هناك إمبرياليّة؟

حتى أواخر تمّوز 2006، أي بعد نحو ثلاثة أسابيع وأكثر على العدوان، نطقت حركة اليسار كلمة السرّ لتنعت العدوان بأنّه «العدوان الإسرائيلي المدعوم أميركياً». وهذا الوصف الذي جاء متأخّراً لم يُذكَر على لسان القائد الأوحد والأبرز أي النائب الياس عطا الله ولو لمرّة واحدة، بل إنّ الموقف المعلَن على لسان الأخير جاء ليتماهى مع الموقف المعلَن لقادة 14 آذار الرافض حتى الإشارة إلى الولايات المتحدة كقوّة داعمة ومحتضنة ومشجّعة للعدوان على لبنان. بل كانت الولايات المتّحدة بنظرهم تقف كعادتها على الحياد وتعمل ما في وسعها للجم إسرائيل.
هذا الموقف «المحايد» عبّرت عنه علانيّة ودون مواربة وخجل وزيرة الخارجيّة كوندوليزا رايس التي رأت في العدوان خطوة نحو «ولادة شرق أوسط جديد»، ولاحقاً عبّر عنه الرئيس بوش برفضه أي صيغة لوقف إطلاق النار قبل دحر حزب الله والقضاء عليه بحجّة عدم العودة إلى واقع ما قبل العدوان.
إن كنت أفهم موقف قوى 14 آذار من الولايات المتحدة، والفهم ليس تبريراً بل تفسيراً، لم أكن أفهم الموقف الملتبس أحياناً والمتردّد أحياناً لـ«حركة اليسار الديموقراطي». الالتباس والتردُّد كانا في التأخير في تحديد طبيعة العدوان ومداه، أهدافه القريبة والبعيدة، مكامن ضعفه وإمكان دحره. بدلاً من ذلك قرّرت الاستقالة من التفكير وذهبت إلى التحليل السطحي ونسبت العدوان كردّة فعل على عمليّة «الوعد الصادق» بالرغم من موقفنا من هذه العمليّة، أكان نقداً أو تأييداً. (كانت الذكرى الأولى لحرب تموز مناسبة أخرى لتؤكّد حركة اليسار أنّ العدوان جاء في أعقاب عمليّة عسكريّة لحزب الله، وكأنّ تاريخ الحرب على لبنان قد بدأ مع عمليّة «الوعد الصادق».
المسألة ليست شكليّة ولا تدخل في باب الألفاظ «الثوريّة» الفارغة، بل إنّ ذكر الولايات المتحدة كداعم أساسي للعدوان يصبُّ في تحديد طبيعة العدوان وأبعاده وعلاقته في الاستراتيجيّة الأميركيّة الكبرى في الشرق الأوسط من جهة، ويساهم في رسم استراتيجيّة المجابهة من جهة أخرى. إنّها الإمبرياليّة الأميركيّة التي أجازت وأدارت العدوان بكلّ مراحله، من بدايته حتى نهايته، أي حتى وقف الأعمال العدائيّة لأنه ليس هناك وقف إطلاق نار رسمي
حتى الآنالسؤال يدخل في باب الإقرار بأن الأمبرياليّة حقيقة واقعة وناشطة، وليست وهماً من مخلّفات الحرب الباردة. إذاً، وجود إمبرياليّة حيّة وناشطة في كل أرجاء العالم لا وجود له في أدبيات «حركة اليسار الديموقراطي»، إلّا باستثناء بعض مقالات زياد ماجد الصحافيّة وبعض مقالات الياس خوري في ملحق جريدة «النهار» خلال العدوان.
هل نستطيع اعتبار مقالات خوري وماجد، وخاصة في رسالتهما إلى «رفاقنا في حركة اليسار الديموقراطي»، جزءاً من الموقف الرسمي للحركة المناقض لكل نهج وتصريحات عطا الله؟ كان هذا الموقف النقدي نسبياً جنيناً وُلد مع الرسالة ومات.

وملاحظات على السياسة الأميركيّة

في مقابلة مع جريدة «السياسة» الكويتيّة، أكّد عطا الله على أنّ التواصل مع «المجتمع الدولي» مصدر قوّة لقوى 14 آذار، كما أكّد بأننا «لا نتنصّل من صداقات الآخرين ولا من صداقاتنا للمجتمع الدولي». وعندما سُئل هل تتنصلون من صداقاتكم الأميركيّة؟ أجاب عطا الله: «نحن لنا ملاحظات على السياسة الأميركية، وخاصة في موضوع الانحياز لمصلحة إسرائيل وفي الموضوع الفلسطيني». وتابع «وإذا لم نتمكّن نحن والمحور العربي المعتدل وليس محور اللاعربي من إيجاد حلّ عادل للموضوع الفلسطيني فستبقى بؤرة الإرهاب مفتوحة».
طبعاً لا يملك عطا الله ما يقوله عن أميركا سوى «ملاحظات» حول لبنان وفلسطين (ربما ليس له حتى ملاحظات حول السياسة الأميركيّة في العراق). إنّها الشريك والصديق، وعطا الله على حدّ قوله لا يتنصّل من الصداقة والحليف، وما للحليف على حليفه سوى بعض الملاحظات.
إن كان المنطوق به بعض الملاحظات، فالمسكوت عنه في خطاب عطا الله ينبع من خلفيّة فكريّة تتحكّم في أداء «اليسار الديموقراطي». الخلفيّة الفكريّة لهذا الخطاب هو أنه لم يعد هناك من إمبريالية، وأنّ عصر الإمبرياليّة انتهى ولم يبقَ أمامنا سوى المنتصر الأميركي وقيمه، حاملاً لواء الحريّة وحقوق الإنسان والديموقراطيّة وكأنّ ما جرى وما زال يجري في العراق مصدره كوكب آخر.
طبعاً يحق لعطا الله كما يحقّ لغيره أن يتبنّى هذا الاستنتاج. فهذا حق مقدّس لا جدال فيه. ولكن، كيف تصمد هذه القناعة أمام الواقع الملموس لممارسة الولايات المتحدة في لبنان أثناء العدوان، وفي فلسطين والعراق بعد أربع سنوات على احتلاله. هل خلاف الشعوب العربيّة في لبنان وفلسطين والعراق مع واشنطن خلاف شكلي يستدعي فقط بعض «الملاحظات» من قبل العاملين في السياسة البديلة واليساريّة في هذه الدول، أم أنّه خلاف جوهري يدخل في باب حقّ شعوب المنطقة أن تعيش بسلام وحريّة واستقلال وسيطرة على مواردها الطبيعيّة.
هل صحيح أنه ليس هناك من إمبرياليّة؟ إن كان الجواب بالإيجاب فعلينا أن نسأل عن موقع «اليسار الديموقراطي» منها، وعن كيفيّة فهمها ومجابهتها، وإن كان الجواب بالنفي فهنا يكمن الخلل في فكر «اليسار الديموقراطي»، في يساريتها وديموقراطيتها.
ليس صدفة أن الحركة لم تنتج أي بحث نظري أو تقييمي لمسارها خلال السنتين الماضيتين أو لمسار الأحداث في لبنان، حيث غدت مهمتها تصريحاً يومياً يحمّل سوريا وميشال عون كل ما جرى ويجري في لبنان (طبعاً سوريا ليست على الحياد ولها ضلع كبير في ما يجري) وأنّه لولا سوريا وسياسة عون لكان لبنان واحة حريّة وإشعاع ووئام بين الطوائف. أيّ يسار هذا الذي لا تعيره التناقضات الداخليّة، سياسيّة أم طبقيّة أيّ اهتمام (عذراً لإزعاع الياس عطا الله باستخدامنا تعبير الطبقية)، حيث أصبحت المطالب العماليّة مطالب سوريّة، وأي بحث في باريس 3 يعدّ عملاً لتقويض الحكومة وتحدّياً للمجتمع الدولي، والمشاركة في الخطاب الطائفي في معركة المتن الانتخابيّة أصبح خطوة نحو الاستقلال، حيث أعلن عطا الله بأننا أتينا لدعم الشيخ أمين في معركته التي هي «استكمال لمسيرة الاستقلال، من جبران إلى جورج إلى سمير قصير وأخيراً رفيقنا بيار». أي يسار هذا يلعب هذه اللعبة الطائفيّة فيستبعد رفيق الحريري ووليد عيدو من لائحة مسيرة الاستقلال لئلا يؤثر ذلك على درجة التأييد الماروني للرئيس الجميّل.

الاعتدال والتطرّف

نافس الياس عطا الله رايس في الإكثار من ترداد مفردات «الاعتدال» و«المعتدلين»، و«التطرّف» و«المتطرفين» و«المجتمع الدولي».
وبدا لعطا الله في الموقف السعودي خلال حرب تموز تطور جديد، من خلال «هذا الكمّ من الوضوح وتحديد الموقع». كما أنّه يعبّر عن «المحاولات المعتدلة السعوديّة في مواجهة المحور السوري ـــــ الإيراني» في فلسطين ولبنان. وفي ردٍّ على سؤال «أنتم تعلّقون آمالاً على المحور العربي، في حين أنه أثبت فشله أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان ولم ينجح حتى في عقد قمة عربية على مستوى رؤساء الدول؟ قال عطا الله: «كان لدى البعض نية لأن يحوّل القمة العربية في حال انعقادها إلى منبر شتائم». ولهذا يفتي عطا الله بأنه لا يجوز أن يجتمع العرب لبحث العدوان على لبنان وأطفاله خوفاً من أن يكشف الاجتماع تواطؤاً مفضوحاً عند البعض، وعجزاً عند البعض الآخر، في دعم العدوان وأهدافه. متى كان اليسار وخطابه وسيلة تبرير ودفاع عن السياسة السعودية والمصرية وتخاذلهما وصمتهما أثناء العدوان؟ وهما اللذان شكَّلا الغطاء الرسمي العربي للعدوان. نعم عطا الله محقّ في قوله إنّ الموقف السعودي وموقف كلّ «المعتدلين العرب» (التعبير لعطا الله) كان واضحاً. الوضوح تجلّى في تبرير العدوان وتحميل حزب الله المسؤوليّة الكاملة كونه حزباً مغامراً في مصير لبنان، ونحن العرب من دعاة الدقّة، والتفكير ودراسة النتائج لقاء كل موقف يتّخذ.
اختار عطا الله «الاعتدال» على «التطرّف»، الدقة والحسابات في الموقف على المغامرة، التقاعس في الدعم على الحزم والوقوف بجانب لبنان ومقاومته في تصدّيها للعدوان.
وبعكس ما ذهب اليه عطا الله، حاول زياد ماجد أن يكون التمايز في موقف «اليسار الديموقراطي» عن تحالف 14 آذار واضحاً لا لبس فيه وإن جاء نقده متأخّراً، أي بعد وقف الأعمال العدائيّة الإسرائيليّة فكتب:
«(عند) قوى 14 آذار رأينا خوفاً من ذكر أميركا ومسؤوليتها في تغطية العدوان والجرائم الإسرائيلية... لا بل شهدنا اجتماعين لا مبرّر لهما مع رايس و(دايفيد) وولش في السفارة الأميركية، في حين كان ينبغي ترك رئيس الحكومة وحده يفاوض الأميركيين باسم الدولة اللبنانية ويرفض مقولتهم الوقحة بأنّ الحرب الإجرامية ستقوّي لبنان وتريحه من الإرهاب! والأنكى، صدرت تكراراً مواقف عجيبة للعديد من أقطاب 14 آذار، جرى التراجع عنها لاحقاً (ومن دون تبرير)، وضعت شروطاً لوقف إطلاق النار». وفي هذا الإطار كان موقف عطا اللهً ملتبساً. ففي مقابلة مع موقف «إيلاف» بتاريخ 21 تموز 2007 صرّح عطا الله: «أعتقد بأنّ وقف إطلاق النار حتى الآن لم تتوفّر له، عدا إلحاحية الجانب الإنساني، عوامل دقيقة لإيجاده. في البعد اللبناني الحكومة اللبنانية لم تُعطَ حتى هذه اللحظة القدرة على الحركة الكاملة بأنها الجهة المخوّلة والقادرة لبنانياً بأن تحدث اختراقاً في وسط هذه المأساة».
المطلوب واضح، هو أن تسلّم المقاومة كل أوراقها وتضع لبنان وجنوبه ومهجّريه تحت رحمة إسرائيل وأميركا المتطلّبتين تحت اسم المجتمع الدولي (لم أرَ ولم أسمع بيسار وقع في حب تعبير المجتمع الدولي مثل اليسار الديموقراطي، فلم يخلُ جواب إن كان على لسان عطا الله أو غيره من ذكر تعبير المجتمع الدولي عدّة مرات في الإجابة الواحدة).
لقد كان الأجدر بعطا الله بدل الظهور بمظهر المحلّل و«المبرّر» لشروط وقف إطلاق النار المطلوبة أميركياً وعربياً أن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار دون أي تلكّؤ ومواربة كتلكّؤ ومواربة قوى 14 آذار.
إذا كان عطا الله يريد أن تكون كل الأوراق التفاوضية بيد الحكومة الشرعيّة، وهذا موقف فيه الكثير من الصحّة، فلماذا لم يوجّه نقده إلى «الاستقلاليّين» و«المتضامنين» مع ضحايا العدوان الذين قفزوا فوق الحكومة واجتمعوا مع وزيرة الخارجيّة الأميركيّة في سفارة بلادها في عوكر؟
فبينما كان موقف الياس عطا الله مؤيداً للاجتماع الذي عقد في السفارة مع رايس، أو على الأقل لم يستنكره ولو بلغة ملطّفة، كان زياد ماجد ينتقد هذا الموقف وإن جاء نقده متأخّراً. والتأخُّر ليس بريئاً، فإن دلّ على شيء، فهو إمّا قصر نظر في التحليل والرؤية السياسيّة أو التذبذب في الموقف والانتظار حتى انقشاع الطريق. إنّه يضع «رجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة».

بين الياس والياس

في مقابلة بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق «جبهة المقاومة الوطنيّة»، وردّاً على سؤال: هل من كلمة أخيرة؟ أجاب الياس عطا الله:
«أريد أن أذكر شهادة. في الوقت الذي كانت فيه بيروت تخوض أقدس معركة في مواجهة جيش العدو الإسرائيلي الذي فتح أول عاصمة عربيّة، كانت مدينتنا تعيش محرومة من كل شيء، من الكهرباء والماء والطعام ومن أبسط مقومات العيش البدائي، مضافاً إليها شراسة أكبر آلة عسكريّة في المنطقة. في الشطر الآخر من المدينة، كانت تزدهر الحياة وكان يلتفت أحدنا إلى التلال الشرقيّة المحيطة ببيروت حيث تتلألأ أنوار فندق «البستان» الذي كان مرتعاً لقيادة القوّات اللبنانية والكتائب والملتحقين بهما تنتظر بفارغ الصبر لحظة سقوط المدينة. ولكن انتظارهم طال، وأحياناً كثيرة تساءلنا بشكل ساذج كيف يمكنهم تحمّل هذا القدر من الخيانة»؟
كم كنت محقاً يا رفيق. تبدّلت الأدوار وفي حرب تموز عندما كانت سيارات الإسعاف تُقصَف وقرى الجنوب تُحرَق ومباني الضاحية تُدمَّر على من فيها، وأطفال قانا يُقتلون، كانت الأنوار تتلألأ في سفارة ما حيث كانوا يجتمعون ويضحكون ويقهقهون.
كانوا ينتظرون بفارغ الصبر ما وعدتهم به الآنسة رايس: سقوط وسحق المقاومة. في هذه اللحظات كان كثير من اللبنانيّين والعرب وحتى الفنزويليّين يردّدون ما قاله الياس عطا الله: «لكن انتظارهم طال، وأحياناً كثيرة تساءلنا بشكل ساذج كيف يمكنهم تحمّل هذا القدر من (لن أقول الخيانة) الصمت أمام العدوان، والمراهنة عليه، والتبرير للعدوان والاستغلال للعدوان والتشجيع له.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة