ماجد الشيخ *
بين مفاهيم «الصراع الأبدي» في أبعاده الدينية المطلقة إلى حد إفناء الحياة، ومفاهيم الصراع النسبية، بون شاسع تتحدد على تخومه العديد من الأفهومات العلمية التي تستمد من العلم والواقع والعقل تجربة حياة تستحق ويجب أن تعاش، ذلك أن الوعد باستمرار الصراع المطلق، لا ولن يولد أو ينتج سوى شعارات وماهيات عدمية؛ تغمر الفرد كما المجتمع والدولة، لتزوّدها جميعاً بتدفقات إيديولوجية فيها من التزييف والتزوير والنفاق الشيء الكثير. «الصراع الأبدي» الذي وعدت به الحركة الصهيونية يهودها، باستنادها إلى الرؤى التوراتية مرجعيةً لاختراع الدولة، ومن ثم لإقامتها فيما بعد، استناداً إلى وعد بلفور، مثل هذا الصراع وفي الحال الراهن تغيرت معالمه، وإن لم تتغير مرجعياته، رغم تراجعها في ظل تقدم مرجعيات سياسية رجراجة لم تحسم أمورها بعد؛ لأي الاتجاهات سوف تنحاز أخيراً: لمرجعيات «الصراع الأبدي» بمحمولاته الدينية التوراتية والصهيونية، أم لمرجعيات السياسة والاقتصاد والاجتماع، أم للاستدراك الراهن القائل بـ«إسرائيل دولة ووطناً لليهود» في سياق (بروباغندا) الانفصال عن دولة فلسطينية ضمن رؤية الرئيس الأميركي جورج بوش ووعده الراهن، بعد تسعين عاماً من وعد آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني عام 1917؟
أخيراً، وفي سياق الإعداد للقاء أنابوليس، لم تكن المرة الأولى التي تطرح فيها مسألة «يهودية الدولة الإسرائيلية»، وإن كانت هذه المرة تطرح كنوع من الابتزاز؛ ابتزاز الجانب الفلسطيني بتحميله «جمائل» أميركية تحت ادعاء أن واشنطن تسعى لتأمين وجود دولة فلسطينية إلى جانب «وطن اليهود» الإسرائيليين أو «دولة إسرائيل اليهودية»، ما يعني إنهاء حق العودة وطرح احتمالات طرد من بقي من فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب إلى «دولتهم» الفلسطينية، وهذا يعني عملياً البدء بـ«إنهاء» تظهير دولة إسرائيل كـ«دولة ثنائية القومية» أو «دولة كل مواطنيها» وقطع الطريق على إمكان العودة إلى ذلك مستقبلاً. وفي هذا السياق يمكن إدراج الحديث عن فكرة أو أفكار التبادل للسكان ولأراض كنوع من ترانسفير مقنع.
وكانت «يهودية الدولة الإسرائيلية» قد وردت في خطاب للرئيس الأميركي جورج بوش عام 2003 خلال انعقاد قمة العقبة في حزيران (يونيو) قال فيه: «إن من شأن قيام دولة فلسطينية ديموقراطية تعيش في سلام كامل مع إسرائيل أن يدفع إلى الأمام أمن دولة إسرائيل وازدهارها باعتبارها دولة يهودية»، مع أن ذلك كان قد ورد في «إعلان استقلال إسرائيل» في أربعينيات القرن الماضي. وهكذا تكون واشنطن والرئيس جورج بوش قد أديا «قسطهما إلى العلى» بطرح مشكلة «يهودية الدولة الإسرائيلية» بإضفاء «هوية متجددة» لم تطرأ على بال مؤسسيها يومها؛ إلّا كنوع من تحصيل حاصل لكونها «دولة يهودية» من الأساس، رغم وجود قسم من مواطني الأرض الفلسطينية بقوا مثل مخرز يفقأ عين كل من لا يرى أن أصحاب الأرض الفلسطينيين أولئك، هم خبز حياة خميرة الأوائل الذين سكنوا أرض فلسطين منذ الأزل، وإذ بها بعد ستين عاماً بحاجة إلى استدراك يعيد وصمها وتوصيفها لكونها «دولة لليهود»، لا «دولة مواطنيها» محسوماً منها من بقي من «أغيار»، لا يحق لمن اقتلع من أقربائهم وأهاليهم عام 1948 العودة إلى ديارهم، أي إلى المناطق التي نزحوا منها أو بقي يسكنها «الأغيار العرب»، ما يعني سحب البساط من القرار 194 وإنهاء حق العودة، وهذا تحديداً ما تسعى إليه المفاوضات القادمة التي رمى لقاء أنابوليس لبدئها، كما سعت إليه كل المفاوضات التي جرت حتى الآن.
إن الاعتراف بـ«إسرائيل دولة قومية لليهود»، على ما بات يطالب به الإسرائيليون والأميركيون الآن؛ لا يعني سوى التأسيس لما قد يؤدي عملياً إلى نفي وجود حق للشعب الفلسطيني في أرض فلسطين التاريخية، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك، من طرد من بقي من أبناء الشعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب، حتى ولو سلم إسرائيليون أو أغلبيتهم بضرورة «الانفصال» عن «دولة قومية» للفلسطينيين لا تتجاوز مساحتها 22 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، وهي دولة حكم ذاتي أكثر من كونها دولة مستقلة فعلياً، دولة تابعة أو مرتبطة بحكم مركزي أو أكثر يتقاسم حكم الأرض الفلسطينية التاريخية، مع قوى «التقاسم الوظيفي» في دول أخرى مجاورة نزلت عن قوميتها إلى وطنية غير جامعة، عمادها العمل على الضد من وحدة وطنية مفترضة، فماذا يبقى أمامها في مواجهة إملاءات خارجية، لا تنسجم في أهدافها مع أهداف تلك الدول المتمسكة بحدودها التاريخية التي كرستها الاتفاقات الدولية، وفقاً لمصالح القوى الدولية «الحاكمة» والمهيمنة على مستوى النظام الدولي الذي لم نكن يوماً فاعلين أو مؤثرين فيه بالمطلق، قدر ما كنا المفعول بنا وبحقوقنا وبأوطاننا، والمتأثرين به وبأهدافه التي انسقنا إلى «الإيمان» بها و«الدفاع» عنها كأنها أهدافنا القومية الكبرى أو مرامينا الوطنية الصغرى. فلماذا لا يراد للفلسطينيين التخلي عن حدودهم التاريخية، بل التخلي عن تاريخهم وتاريخ أجدادهم قبل أن «يبصموا» على ضياع وطنهم التاريخي مرة وإلى الأبد؟!!.
لذلك لم يكن ينقص «الرؤية الدينية» في الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي عموماً، إزاء الصراع العربي الصهيوني ذلك الاستدراك الراهن القائل بأن إسرائيل «دولة يهودية» أو هي «وطن الشعب اليهودي»، ذلك أن الرؤى الدينية للصراعات على اختلافها، لا ولن تقدم لسبل معالجتها وإيجاد الحلول لها أي إضافة سوى إضافات وضع العصي في دواليب الحلول الممكنة، وتعقيدها ونقلها من نطاق الممكن إلى نطاق الاستحالة، ومن نطاقات الحيوية إلى نطاقات العدم والفناء.
ليس هنالك من صراع أو صراعات بلا نهاية، كل صراع، كل حرب، كل نزاع ، أو كل خروج عن إطار التفاهمات والتوافقات الممكنة، لا بد له من نهاية؛ نهاية متفق عليها، بالتفاوض أو بالتفاهم المتواطأ عليه، أو بأي طريقة أخرى، توصل إلى إمكان العودة إلى التعايش الطبيعي بين القوى البشرية المختلفة، في نطاق المجتمعات والدول، وفي نطاقات الاختلاف والتنوع الإنساني.
وفي الواقع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي تحديداً، وبعد كل تلك السنوات من الصراع العربي ـــــ الصهيوني، ومن سنوات فك الارتباط الرسمي العربي بالقضية الفلسطينية، لا يمكننا الحديث عن استمرار صراع كهذا مدى الحياة؛ حياتنا وحياة أجيال قادمة؛ دون أن نتوقع احتمالات الإقبال أو القبول بمحاولة إيجاد حلول ولو جزئية له، ولو من قبيل تأجيل الحل الشامل والنهائي إلى حين، تكون قد نضجت فيه مقومات موضوعية وذاتية للقبول بمثل هذا الحل، وفي ذات الوقت تكون قد نضجت فيه أيضا مقومات رفض جوانب أخرى، وربما عديدة، من ذاك الحل الذي قد لا يرضي جميع الناس في ذات الوقت. المهم أن يكون هناك ثمة ما يمكن اعتباره المنهج المتكامل للتربية والتدرب على إمكانيات القبول والرفض في الوقت عينه، ذلك حتى لا يكون العدم والفناء هما المرشدان أو الموجهان لخطوات السياسة والكفاح الوطني في كل حين .
من هنا تؤكد "ثقافة" الصراع الأبدي وحالة الذهان والعصاب المؤمنة بـ "الحلول المطلقة" في إطاراتها الدينية، كما في إطاراتها التعصبية الشوفينية القومية، أن صراعها العدمي الإفنائي يهدد الذات ويتهددها بالدمار قبل أي ذات أخرى، رغم الإيمان الوثوقي والإرغامي أحيانا بذرائع التفوق والغلبة الكاذبة والاستعلاء المستمد من ذاك الإيمان المطلق بـ"مقدسات" ليست كذلك؛ إلا لأنها تنبع من ذات تعتبر نفسها مقدسة حتى وهي تبتعد أو وهي بعيدة من نصوصها ومرجعياتها النصيّة المقدسة.
* كاتب فلسطيني