أسعد أبو خليل *
يحقّ لغسّان تويني ما لا يحق لغيره. فعمله الصحافي (والسياسي الرديف) يمتد لنحو ستين عاماً، كما يقول هو. وقد ظهر أخيراً على شاشة تلفزيون الجديد ليؤكّد لمن يشكّك في أنّه لا وجود لمؤامرة أميركية في لبنان. وقد جزم بذلك، حاسماً أمراً كان موضع جدل قبل ظهوره المقدام. ومن ضمن «الدلائل» التي ساقها تويني لدحض نظرية المؤامرة الاميركية في لبنان برهانٌ قاطع وساطع، إذ ذكّر بأنّ الولايات المتحدة نفسها لم تُعلن عن مؤامرة لها في لبنان (هو بالفعل قال ذلك، بالحرف وكان جادّاً). وكلام تويني ذو دلالات لأنه يملك جريدة كانت تحتكر، لعقود طويلة، صنع وتقرير الذوق السياسي والفني العام في البلاد، وإن كان احتكارها قد كُسر، لحسن حظ الشعب المسكين، في تسعينيات القرن الماضي عندما تحوّلت الجريدة من أداة ـــــ منفتحة نسبياً ـــــ للبورجوازية الليبرالية في الستينيات، الى جريدة «القوات اللبنانية» المتزمّتة في التسعينيات، أو قل إنها كانت بوقاً لـ«حركة تصحيحية» في «القوّات» في زمن حرب الإلغاء. لكنّ طغيان «النهار» التجاري (والسياسي تالياً) كان نتيجةً مباشرة لإنشاء غير بريء لشبكة أخطبوطية في التوزيع والإعلان في لبنان، وإلا فإنّ الجريدة كانت قد اضمحلّت كما اضمحلّت مجلة الحوادث من قبلها بعد اغتيال مؤسّسها. لكنّ موضوع جريدة «النهار» يحتاج الى دراسة مفصلة في سياق دراسة الثقافة السياسة والشعبية في لبنان.
وغسّان تويني صريح في شرح بعض أهوائه السياسية وميوله. ففي كتاب «سر المهنة» الضخم، نتعرّف إلى علاقة (وإعجاب) تويني بكميل شمعون وشارل مالك وببدايات أنطون سعادة، إذ إن «النهار» لم تروّج للقومية السورية، بل لفينيقيّة لبنانيّة متعصّبة تنظر إلى تاريخ لبنان بمنظار انعزالي ـــــ حتى نستعمل عبارة لم تعد رائجة أبداً مع أنها تفي بالغرض (في لبنان اليوم يصبح توكيد عروبة لبنان الارتهان للحكم السعودي في الوقت الذي كان فيه توكيد عروبة لبنان في الستينيات يتطلب معارضة الحكم السعودي، ويصبح سمير جعجع عروبياً لأن يزوره السفير السعودي في لبنان الذي، على ما يقول لجريدة «الأخبار» وغيرها من الصحف التي تحرص على نقل أقواله، لا يريد إلا الخير للبنان).
والكلام عن «حضارة فينيقية» يَرد بسهولة في لبنان (كما ورد في مقالة في «الحياة» أخيراً لعبده وازن، خرّيج جريدة «النهار»)، مع أنّ الكتابات التاريخية الرصينة (لا في مزاعم سعيد عقل ومي المر المفتقرة الى أدلة تاريخية أو مراجع موثوقة) لا تتحدّث البتّة عن حضارة فينيقية، وليس هناك من دليل على أنّ «الأورما» هي دليل قاطع على وجود حضارة تاريخية (وإن تلمّظ من التهمها التهاماً). حتى قصة اختراع الفينيقيين للأبجدية ملفّقة، وإن كانت تداعب مخيلة من ينزع نحو التاريخ لاختلاق مجد (للبنان) لا يمكن توفره في الحاضر، إلا إذا كانت «تنبّؤات» وردة أو ميشال حايك تُعتبر نتاجاً آخر للعبقرية اللبنانية التي، وفقاً لـ«النهار»، تتوصّل الى «اختراع» دواء شافٍ كافٍ لداء السرطان مرّة في الشهر على أقل تقدير.
والأبجدية كانت نتاجاً للحضارة المصرية القديمة، وإن كان الاخوة في مصر غير مصابين بعقد الشوفينية اللبنانية. وطوّرت الكنعانية الابجدية المصرية واستحدثت أبجدية خاصة بها، ثم تلقفها الفينيقيون. والفينيقية كانت في حقيقة تاريخها مدناً وشعوباً متناحرة متصارعة، لا أمّة متّحدة، ولا دليل أبداً على أن الفينيقيين القدماء نظروا الى أنفسهم على أنهم أبناء (وبنات) أمة واحدة (ذات رسالة مبالغ فيها). لكنّ التاريخ مطواع ليد المخيّلة الوطنية اللبنانية. ويضيف كتاب لويس الحاج المشوّق «في مخزون الذاكرة» الى معرفتنا عن جريدة «النهار»، إذ يكشف بوضوح عن عقيدة جريدة «النهار» السياسية، وكيف كانت تشذّب وتهذّب تصريحات بيار الجميل تجميلاً لصورته المتعصّبة (وطنياً وطائفياً).
وغسان تويني دخل المعترك السياسي أيضاً في سن مبكرة بعد طرده من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقال عنه جورج حاوي في مقابلاته مع غسان شربل (نُشرت في كتاب) إنه يؤيّد الحريات العامة عندما يكون خارج الحكم ويحاربها عندما يكون داخله. وكتاب مراسلاته مع الياس سركيس يدفعك للشفقة على سركيس (الذي عمل بالسر للتحضير لتنصيب بشير الجميل من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي، كما روى لنا في كتاب له كريم بقرادوني). ولكن الفترة التي لا يستفيض تويني في الحديث عنها، مع أنه يستفيض في كل أحاديثه عن كل المواضيع الاخرى، هي عندما شغل منصب منسق المفاوضات اللبنانية مع إسرائيل في عهد أمين الجميّل. وكانت حكومة أمين الجميّل شديدة الحماسة لتلك الاتفاقية آنذاك، وإن حاول الجميّل فاشلاً اليوم النأي بنفسه عن تلك الاتفاقية المشؤومة بالزعم أنه لم يوقعها. لم ننس أن ما منع تبنّي الاتفاقية أو توقيعها هو الانتفاضة العارمة التي اجتاحت لبنان آنذاك، وليس تمنّع الراغب. لم يشرح لنا تويني يوماً سبب وأسلوب «تنسيقه» لتلك الاتفاقية ودوره بالتحديد في تلك المفاوضات التي شكّلت وتشكّل وصمة عار (من وصمات عديدة) في تاريخ لبنان. بعض الوثائق الاميركية المنشورة عن تلك الفترة تظهر بوضوح أن اتفاقية 17 أيار كانت لبنة أساسية في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط (كان لبنان على وشك أن يصبح الدولة العربية الثانية بعد مصر التي توقع اتفاقية سلام مع إسرائيل). أما في ظهوره الاخير، فقد عبّر غسان تويني عن دهشته لقبوله بأداء دور المستشار لأمين الجميّل (رمز الاعتدال، كما تقول أبواق 14 آذار). ولو توسّع تويني في حديثه عن مفاوضات 17 أيار لاستفاد السنيورة وأتباع النضال الحضاري، فهم ينهلون من المصدر نفسه.
ولكنه قال أكثر من ذلك في مقابلته المذكورة. فهو نفى نفياً قاطعاً أن تكون هناك مؤامرة أميركية في لبنان، مستعيناً بنفي أميركا بنفسها (وكأنّ نفي ياسر عرفات لعلاقة بين تنظيم أيلول الأسود وحركة فتح كان صادقاً). والنفي يوازي التأكيد أحياناً، مثل نفي الملك حسين أخبار لقاءاته السرية مع الإسرائيليين (قبل توقيع اتفاقية وادي عربة وقبل تسلسل اللقاءات العلنية) والتي وصلت الى 55 «على الاقل» وفقاً لكتاب جديد صدر للمؤرخ آفي شلايم. ومتى كانت الدول تعلن في مؤتمرات صحافية عن حبك مؤامراتها؟ وهل يكون تأكيد المؤامرات فقط من قبل من يقوم بحبك المؤامرات؟ كما أن إدارة بوش اقتربت من إعلان مؤامراتها أكثر من أي تجارب مؤامراتية سابقة، إذ صرّحت عن نياتها قبل غزو العراق. ويتبع أتباع اليمين العربي (وهم وهنّ مسيطرون على الاعلام العربي بإيعاز سعودي) منطق السخرية من فكرة المؤامرة الاميركية مستعينين (ومستعينات حتى لا ننسى مقدمة برنامج «بالعربي») بالابتذال الذي وسم الخطاب الناصري والبعثي في مبالغته في عزو كل ما يقف في وجهه الى مؤامرة أميركية ـــــ مع أن المؤامرات كانت حقيقية في تلك الحقبة، وإن لم تكن مسؤولة عن صفقة السمنة في الجيش السوري.
لكن حقيقة المؤامرة الاميركية ودورها في لبنان واضحة في تقاسيمها ومعالمها، حتى إن سمير جعجع كان صريحاً الاسبوع الفائت عندما هاجم سوريا لأنها برأيه تقف حجر عثرة أمام إعادة رسم خريطة المنطقة. وهذا يفسر حماسة معلقي جريدة «النهار» بعد الاجتياح الاميركي للعراق، قبل أن يتوضح التعثر الأميركي اللاحق (كانوا ينتظرون وصول جحافل القوات الاميركية الى دمشق لتحريرهم). كما أن وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» للولايات المتحدة التي صدرت في أيلول 2002 (وهي لا تزال منشورة على موقع البيت الابيض على الإنترنت) كانت صريحة للغاية في أهدافها وفي وسائل تحقيق هذه الاهداف. تبنّت الولايات المتحدة بالكامل منطق إسرائيل في الحروب «الاستباقية» (ويُقال إن بوش قرأ كتاب مايكل أورن المنحاز جداً عن حرب 1967 قبل أن يشن حربه في العراق، لكن خبر قراءته ربما اختلقه أولو الدعاية في البيت الابيض لتصويره بمظهر المثقف. ألم يقولوا لنا من سنتين إنه كان يقرأ كتباً وجودية فرنسية؟ وقد يأتي يوم يروّج فيه هاني حمود لخبر قراءة سعد الحريري كتب الفارابي وابن سينا).
وكيف يُنفى خبر التدخل الاميركي في الشؤون اللبنانية، في الوقت الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة طرفاً ضالعاً في صلب الأزمة اللبنانية، وفي حين يدعو السفير الاميركي النواب اللبنانيين الى الحضور «فوراً» الى مجلس النواب؟ وكيف يمكن تفسير التصريحات الاميركية المتكررة، وخصوصاً على منبر الادارة الاميركية المجاني في الـ«ال.بي.سي»، عن تفاصيل الحياة السياسية في لبنان؟ وماذا عن قرارات موقعة من الرئيس الاميركي بحق معارضين لحكومة السنيورة الابدية؟ والسفير الاميركي في لبنان أفتى في مقابلة مع تلفزيون «الحرّة» (الفاشل) بجواز التعديل الدستوري في سنة وبحرمته في سنة أخرى (على طريقة مذهب «البلكفة»، الذي قال عنه الزمخشري في كشافه: قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ـــــ شنع الورى فتستروا بالبلكفة). أمّا نفي غسان تويني، فيثير التساؤل وخاصة أنه يؤكد وجود مؤامرة سورية ـــــ إيرانية في لبنان، معتمداً على تصريح إيراني مناصر لحزب الله (والكل في 14 آذار يتخذ من تصريح لخامنئي عن هزيمة أميركا في لبنان دليلاً قاطعاً على المؤامرة الإيرانية في لبنان، وبصورة غير مباشرة على نفي المؤامرة الأميركية عن بلد شجر البلوط). ولماذا لا تكون التصريحات الأميركية المتكرّرة في مناصرة فريق في الصراع في لبنان دليلاً هي الأخرى على وجود مؤامرة؟ وقد أفتت كوندوليزا رايس ومساعدوها في مواضيع تتعلق بشأن تفسير الدستور اللبناني، لكن التدخل الاميركي لا يكون تدخّلاً لأنّ السفير الاميركي ـــــ «جيف» كما يسمّيه أصدقاؤه في 14 آذار ـــــ ظريف. (والتدخّل بالتدخّل يذكّر: هل لاحظ أحد أن «المجتمع الدولي» يحثّ سوريا على التدخّل في لبنان ـــــ لمصلحة المشروع الاميركي، في الوقت الذي عاب فيه هذا المجتمع على سوريا، لسنتين، تدخلها في لبنان؟ أي إن العيب لا يكمن في التدخل بذاته، وإنما في وجهة هذا التدخل. تدخل، يا محسنون ويا محسنات).
لكن الخطاب الاكثري بحاجة الى نفي وجود المؤامرة الاميركية برمّتها حتى تتركز الانظار على مؤامرة سورية ـــــ إيرانية (لا يبدو النظامان ماهرين في حبك المؤامرات على ما نرى) ولتسويغ التدخل الاميركي في الشؤون اللبنانية (وهذا يفسر أيضاً الإصرار الاميركي على الاعتماد على دور تيري رود لارسن حتى يُقال إن التدخل الاميركي في لبنان ما هو إلا جزء من اهتمام «المجتمع الدولي». ما هو هذا المجتمع الدولي، وما هو تعريفه، لا يُقال لنا؟ هل هو المجتمع نفسه الذي فرض إرادته على الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة لإعادة التصويت على قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية؟ وتيري رود لارسن هو العين الأميركية الساهرة في الأمم المتحدة وقد يأتي يوم يظهر فيه شاهداً في محكمة الحريري «الدولية» ليجزم بأنه شاهد بأم عينه بشار الأسد يقود سيارة الميتسوبيشي الشهيرة.
لكن المجتمع «المخملي»ـــــ كما يسمّي نفسه ـــــ يحترم الرجل الابيض ومؤامراته. فهو يمثل الحضارة والرقي، وليس هناك ما يثير إعجاب الوطنية اللبنانية أكثر من حضارة الرجل الابيض، وهذا يفسّر حنينه الى الاستعمار ورموزه. وثقافة حب الحياة تعارض حتى الدفاع عن الأرض ضد العدوان، لأن الرجل الابيض لا يسمح بمقاومة، أو معارضة، عدوانية إسرائيل. ومن حق غسان تويني أن ينفي وجود المؤامرة الأميركية في لبنان. لكن، من حقنا أن نتساءل عما إن كانت جريدة «النهار» قادرة على ملاحظة المؤامرة الاميركية حتى ولو تجسّدت لها في ذلك المبنى البشع (الذي يعبّر عن الذوق الفني للمهندس المعماري ألبرت شبير) في قلب بيروت. لكن كيف يمكن أن تكون هناك امبراطورية (وحتى المؤرخ المحافظ، نيل فيرغسون، يوافق على إطلاق صفة الامبراطورية على الطور الحالي للولايات المتحدة، كما ان دونالد رامسفيلد شكل لجنة لدراسة التجارب التاريخية للامبراطوريات فور تبوّئه منصبه) من دون أن يكون لها مشروعها في قلب المنطقة التي اختارتها ـــــ يا للحظ العاثر ـــــ مسرحاً لتجاربها؟ وإذا لم يكن للولايات المتحدة دور ومشروع في لبنان، فهل يعني هذا أن الادارة الاميركية تعاملت مع الاحداث في لبنان على امتداد سنتين بناءً على تفجّع شخصي للرئيس بوش لا علاقة له بالسياسة؟ هنا، لا يجوز الإفراط في الحديث عن مؤامرة أميركية في لبنان حتى لا نعزز تلك النظريات التي تزخر بها تحليلات جريدة «النهار» حول مركزية بسكنتا في السياسة الخارجية الاميركية. لكن التركيز الاميركي على الشرق الاوسط وعلاقة الولايات المتحدة بإسرائيل حتّمت التعاطي المكثف مع الموضوع اللبناني كملف رديف لملفات أكثر أهمية. لكن جريدة «النهار» ذكرت الأسبوع الفائت أن لبنان حل في المرتبة الثالثة (و«النهار» مصابة بهوس المراتب لإثبات التفوق الجيني للشعب اللبناني) في دراسة ما صدرت عن مركز ما في كندا حول «الحريات الاقتصادية» ـــــ أي الجشع الرأسمالي.
إلى ساحة القرية، أيّها «الشعب العظيم».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: www.angryarab.blogspot.com)