ناهض حتر *
لن نكرّر حكاية معروفة. فالجدل حول المعركة المزدوجة التي يخوضها الجنرال ميشال عون، ضدّ المشروع الأميركي ـــــ السعودي لأسلمة لبنان، وفي مواجهة «فلول الميليشيات المسيحية الفاشية»، هو حديث الساعة. سأحدّثكم لماذا أصبحت نضاليّة عون لاستعادة مكانة المسيحيّة اللبنانية، مهمّة بالنسبة لمسيحيّي الأردن والمشرق كلّه أيضاً.
وربّما كان على مَن يرغب في تسلّم رسالة هذا المقال، أن يضع جانباً (لحظة واحدة) التفاصيل اليوميّة للسياسة اللبنانيّة المحليّة، مستبصراً الفضاء الرمزي الذي فتحته نضاليّة عون، في صلب توتّرها المسيحي بالذات، لنهضة ثقافيّة وسياسيّة جديدة بالنسبة لمسيحيّي المشرق. فهؤلاء الذين تلطّخت صورتهم كمنوّرين عروبيّين ومبادرين في الحركات الوطنية (تلطّخت بسبب جرّ المسيحيّة اللبنانيّة إلى التعصّب والانغلاق والفاشية والإجرام الأهلي، ومن ثمّ إلى «الاكتئاب» والتبعية للاستخبارات الإقليمية والخنوع للحريرية)، استعادوا تلك الصورة، ومعها الثقة بالنفس، مع ظهور خطّ التيار الوطني الحر الجديد بنزعته الوطنيّة، بالمعنيين: التوحيدي والاستقلالي، وتحالفه مع المقاومة الإسلامية، وإلحاحه على دور مسيحي فاعل في إطار الاندماج الندّي فيه، والتواصل التنويري مع المكوّنات الوطنية.
وهذا الخطّ ليس جديداً بالنسبة للمسيحيّة الأردنية. لكنّه أعطاها أفقاً جديداً، وهي التي تعاني من قلق ناجم عن مؤثّرات إقليمية بالدرجة الأولى.
إنّ المسيحيّين الأردنيّين هم في وضع اندماج أصيل وحيوي في تركيبة المجتمع الأردني المبني على أسس غير طائفية. والمسيحية الأردنية ليست أقلّوية، لا على المستوى النوعي (من حيث الأدوار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإدارية والمهنية)، ولا على المستوى العددي. فالأردن العثماني كان بلداً مختلطاً دينياً، يشكّل المسيحيون فيه ما لا يقل عن 25 في المئة من إجمالي السكان، ويتمتّعون بثقل سياسي مترجم في تحالفات مناطقية وتمثيل سياسي
مواز.
وقد انخفضت هذه النسبة، جراء ثلاثة عوامل هي: ضمّ قبائل بدوية من خارج التركيبة الأردنية إلى الإمارة عند تأسيسها عام 1921، وهجرة الفلسطينيين الكثيفة إلى البلد بعد 1948، وهجرة المسيحيّين إلى المغتربات الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة.
نسبة المسيحيّين إلى اجمالي المواطنين الأردنيين الآن لا تزيد على خمسة في المئة. وليس لديهم ما يشكون منه بالنظر إلى أنهم يحوزون نحو ثمانية في المئة من مقاعد البرلمان، ويحصلون على حقائب وزارية ومناصب عليا بما يزيد على نسبتهم العددية الراهنة. أمّا حضورهم في المجتمع المدني والجامعات والأحزاب والنقابات والمهن العليا والصحافة والنشاطات الثقافية... فهو حضور استثنائي.
والمسيحية الأردنية عربية أصولاً وثقافة وهوية، وعروبية اتجاهاً. ومنها برزت قيادات ذات شأن في العمل اليساري والقومي. وهي منتظمة في عشائر، كانت قد أوجدت، منذ القرن السابع عشر على الأقل، تحالفات مع عشائر مسلمة في إطار السياسة المحلية، تقوم على آليات فريدة تنظّم العلاقة السياسية الثنائية على أسس عشائرية غير طائفية. وما تزال هذه التحالفات محترمة حتى اليوم، فلا يشعر المسيحي الأردني بالاغتراب أو المظلومية أو الأقلوية. وقد ينشأ، بالطبع، شعور فردي بالغبن لدى المثقّفين المسيحيّين بالنظر إلى كثرة المستحقّين منهم لشغور المواقع القيادية وضيق حجم التمثيل، أو قد يعرب متطرفون إسلاميون ـــــ من أصول غير أردنية ـــــ عن نزعات طائفية، ولكنها عابرة، ومضطرّة للتراجع تحت تأثير الثقل العشائري.
ومع ذلك كلّه، بل بسبب ذلك كلّه، يشعر المسيحيّون الأردنيون بالقلق إزاء التطورات الإقليمية السلبية، ومنها:
ـ انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية، وانتصار البرنامج الإسرائيلي ومؤدّاه الأخطر على الأردن، المتمثّل في التوطين الدائم للاجئين والنازحين الفلسطينيّين على أرضه، بل ربما هجرة المزيد منهم إلى البلد، ما يعني اضمحلال المسيحية الأردنية في مجتمع مهاجرين، لن يتعامل مع الصيغة الشرق أردنية للعلاقات الإسلامية ـــــ المسيحية المترسّخة تاريخياً.
ـ اضمحلال المسيحية العراقية بعد الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين. فمنذ عام 2003 تعاونت «القاعدة» والميليشيات المذهبية الشيعية، موضوعياً، على التنكيل بالمسيحيّين العراقيّين ودفعهم إلى الهجرة شبه الجماعية.
ـ إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلة من الوجود المسيحي، تحت ضغوط الاحتلال الإسرائيلي واستراتيجيته لتحويل الصراع في فلسطين من عربي ـــــ صهيوني، إلى إسلامي ـــــ يهودي. لكن، وفي الوقت نفسه، فإنّ الديناميات الفلسطينية الداخلية أصبحت ـــــ منذ تأسيس «السلطة» عام 1993، وصعود معارضتها» الإسلامية، وموت اليسار ـــــ ديناميات طاردة للمسيحيّين. وخلال العقدين الفائتين، تمّت «أسلمة» مدن وبلدات ذات صبغة مسيحية تاريخية في الضفة مثل بيت لحم مثلاً. وليس التمويل الخليجي ببعيد عن هذا التحوّل.
ـ وعلى الرغم من أن المسيحية المصرية ليست، من عدّة زوايا تاريخية وثقافية ودينية، جزءاً من المسيحية العربية، فإنّ الاضطهاد الذي يلحق بالمسيحيّين المصريّين مقلق لمسيحيّي المشرق كلّه.
ـ وعلى الرغم من أن المسيحيّين السوريّين هم في وضع مستقرّ وإيجابي حالياً، فإنّ القلق من عدوان أميركي ـــــ إسرائيلي محتمل على سوريا، قد يؤدّي، على قياس التجربة العراقية، إلى كارثة تلحق بالمسيحية السورية.
ـ وأخيراً، نأتي إلى لبنان. وهو بيت القصيد في هذا المجال. فالمسيحية اللبنانية لها ثقل معنوي وسياسي يتعدّى هذا البلد الصغير إلى المشرق العربي كله. ومن النافل القول إنّ اضمحلال المسيحية اللبنانية يثير قلقاً جدياً لدى المسيحيين الأردنيين.
منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، تملّكت المسيحيين الأردنيين مشاعر النفور والازدراء معاً، إزاء الميليشيات المسيحية اللبنانية التي خاضت حرباً طائفية انتحارية، أساءت، مثلما أسلفنا، وخصوصاً في تحالفها مع إسرائيل، إلى صورة مسيحيّي المشرق. ولم تحظ تلك الميليشيات بأي تعاطف من قبل المسيحيين الأردنيين الذين كانوا محرجين أيضاً، لأن الجبهة المقابلة في تلك الحرب، كانت أيضاً طائفية وإجرامية ـــــ ولديها مخبوء مفضوح، تحت الشعارات «القوموية والفلسطينوية»، هو أسلمة لبنان، في نسخة سنية، هي مزيج عجيب من الليبرالية الجديدة والسلفية والشحن المذهبي. وهو مشروع بدأه ياسر عرفات، ثم تابعه رفيق الحريري، وبالمال السعودي في المرتين.
وبالمحصلة، جرى تهميش المسيحية اللبنانية، وعزلها، وإعادة قولبتها على مقاس الحريرية، إلى أن ظهر تأييد الجماهير المسيحية اللبنانية للخطّ الجديد للتيار الوطني الحرّ. ولسوف تطلق نضالية هذا التيار، إذا ما استمرت، حيوية تاريخية جديدة في المسيحية الأردنية والمشرقية. وهذه الحيوية تتضافر مع تلك الشيعية، من أجل إعادة تعريف العروبة، ديموقراطياً، بوصفها رابطة قومية تعددية، تعترف بـ وتمنح الأدوار لمكوّناتها الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية، كما لدولها الوطنية وخصوصياتها المحلية، فلا تعود الغالبية السنية و«المركزية» المصرية والأحزاب القومية والوهّابية، إلى احتكار العروبة.
لئن حُرم عون حقّه في رئاسة لبنان، فقد أعطاه التاريخ لقباً أهمّ. أنه لم يعد جنرال الـ70 في المئة من طائفة لبنانية، بل «جنرال المشرق»!
* كاتب وصحافي أردني