"كيف يمكن لجوادٍ واحد أن يقطع كل هذه المسافة وحده؛ لا أظنه يستطيع. وحده خيالٌ يائس يمكنه ذلك يا بانشو"
من رواية "دون كيخوته" (أو دون كيشوت) للكاتب الإسباني ثربانتس

لا شيء على ما يبدو كان قد حضّر المملكة السعودية لمثل هكذا خبر. جاء خبر قصف الطائرات السورية لموقع يوجد فيه زعيم جيش الإسلام (أحد أكبر التنظيمات الإرهابية في سوريا) زهران علّوش قاصماً على من سمعه في الرياض. يكفي فقط أن نعرف بأنَّ الرجل هو "يد" المملكة الطولى هناك، حتى نفهم بأنَّ الضربة كانت أكبر من أن تحتمل. تكثر الأسئلة –بطبيعة الأحوال- حول ما إذا كان الرجل فعلاً يستحق هذه القيمة التي أعطته إياها السعودية، إلا أنَّ السؤال البالغ الأهمية الآن هو: ماذا بعد علوش؟ كيف ستكون الاحتمالات بعده خصوصاً بعد انتخاب المدعو أبو همام البويضاني وهو بحسب ما تصفه "الجزيرة" الأقوى بين عشرة مرشحين لخلافة العلوش (رغم أن مصادر كثيرة من داخل التنظيم نفسه تشير إلى أنّه الأضعف بين "زملائه" الأمر الذي شجّع علوش على تقريبه إليه).
اختلف علوش عن غيره من قادة المعارضة السورية وخصوصاً الإسلامية-السلفية منها (بالنظر إلى أنّه ليست هناك معارضةٌ سورية إلا سلفية ومسلّحة)؛ بأنه ظهر ومنذ بداية الأزمة "عاري" الوجه، بشكلٍ مباشر (عكس الجولاني الذي يبقى حتى اللحظة Camera Shy). درس عند معظم مشايخ "الطريقة" التكفيرية المعروفين، فدرس على يد ابن باز، والعثيمين والألباني حينما كان في السعودية. أبرز ما يبدو من علّوش خلال مطالعةٍ للقاءاته التلفزيونية (خصوصاً ذلك المنقول عبر الجزيرة بضيافة المذيع "الخبير" تيسير علوني قبل أعوام ضمن برنامج "لقاء اليوم" وتحديداً 2013)؛ بدا الرجل قلقاً من شيءٍ ما، مرتبكاً رغم حرفية علوني العالية. ورغم تدريب الرجل المطوّل كشيخ (أي إجادته على سبيل المثال فن الخطابة، وهو الفن الذي يدرسه ويدّرب عليه المشايخ نظراً لأنّهم عاجلاً أم آجلاً سيخطبون في الناس) بدا أنّه غير قادرٍ على التعامل مع "الكاميرا". كان الرجل في اللقاءات صارماً للغاية، غير "سهل" كما لو أنّه ليس "شعبياً" مع العلم بأنّه يقدّم نفسه وتنظيمه على أساس أنّه "شعبيٌ".
يعرف السعودي جيداً أن الضربة قد حصلت، وأن عليه –إذا ما أراد البقاء قوياً في سوريا- أن يجد بديلاً من القتيل. لا يعمل السعودي على عادة الآخرين، هو يفرّغ وقتاً طويلاً قبل أن يختار حلفاءه/أتباعه، خصوصاً أنه لم يفعّل وجوده المسلّح في أي دولةٍ عربية من قبل، أضف إلى أنَّه لا يقبل المراكز الثانية. إن أكبر دولةٍ خليجية وأكثرها ثراء لا تقبل بأقل من المركز الأوّل، من هنا كان "جيش الإسلام" والأموال السعودية خلفه واحداً من أقوى فصائل المعارضة. قد يعتقد كثيرون بأنَّ تنظيمات النصرة وداعش كانت "الوريث" المتوقّع للنظام، لكن أغلب المحللين كانوا يعرفون بأنَّ "علوش" وعصابته كانوا الأقرب تماماً للدولة البديلة. تأتي النصرة أولاً كتنظيمٍ غير مرغوبٍ به –خليجياً- ذلك أنَّ أفكار النصرة وقادتها لا يمكن الركون إليهم، فالسعودي معتادٌ على "قادةٍ" درسوا وتدربوا وعملوا تحت يديه وعينيه، أما قادةٌ مثل "الجولاني" أو سواه، فهم معتادون على القيام بالأمر كما يحبون ويهوون، ولا يعتبرون أنَّ الملك السعودي ومشايخه لهم حق طاعة من أي "نوع". على الجانب الآخر تبدو داعش مختلفةً البتة، فهي تنظيمٌ يجمع الشامي والمغربي مع بعضهما البعض، فهي تضم مهاجرين وأجانب أكثر من السوريين بين جنباتها، من هنا فإنّ إمكانية تحوّلها لوريثٍ للدولة السورية، هو أمرٌ مفروغ من عدم جدوائيته، فضلاً عن عنفها الشديد ووحشيتها في التعامل مع "المختلفين" (بالتأكيد هذا لا يعني "حنان" علوش وجيشه، فهو كان قد اختطف الناشطة رزان زيتونة ورفاقها سابقاً، فضلاً عن نشره لعائلات علوية فوق سطوح المنازل في الغوطة كدروعٍ بشرية).
في الأيام المقبلة سيحاول السعودي عبر مخابراته العاملة في الوسط السوري أن يجد الشخص الأنسب والأقرب إليهم، بعد ذلك سيصار إلى تعيينه/ تسليمه مفاتيح القيادة، وهو بالتأكيد لن يكون "البويضاني" الغير قادر على قيادة "جيش الإسلام" بنفس الشكيمة التي كان عليها علوش. ستبحث السعودية عن شخصٍ عاش في السعودية، درس فيها، وتتلمذ على يد مشايخ السلفية ذاتهم، وإذا لم تستطع، ستحاول بكل الوسائل أن تجد "سعودياً" يمتلك نفس الصفات لترسله إلى سوريا كي يقود المعركة من الكواليس مع إبقاء البويضاني كواجهةٍ للأمر (وكلا الأمرين صعبٌ للغاية، فالأول يحتاج وقتاً، والثاني قد لا تقبله الأوساط السورية رغم كل المال المدفوع). نورد هنا طبعاً ردة فعل السعودية، لكن ماذا عن ردة فعل "داعش" التي لطالما "حاربت" علوش وفصيله؟ ماذا عن "النصرة" التي زاملته أياماً لأسباب كثيرة أبرزها المال والعطايا السعودية الوفيرة؟ سيسعى داعش كما النصرة إلى تقسيم تركة الفصيل الذي سيكون احتمال انهياره كبيراً، أو على الأقل تقسّمه إلى فصائل أصغر حجماً يتبع بعضها الفصائل الأقوى، أو الدول التي تدفع أكثر؛ مع العلم أن جيش الإسلام يتكوّن أصلاً من فصائل "متناحرة" كثيرة جمعها المال السعودي قبل أي شيءٍ آخر. أما الاحتمال الأكثر "ضعفاً" –مع أنه قد يتحقق إذا ما توافرت السبل- هو أن يصعد أحد قادة التنظيمات الصغيرة المنضوية تحت لواء جيش الإسلام ويقتل أو "يتغلّب" على القيادات الأخرى، فيقتنع السعودي به –تحت الأمر الواقع- وهو أمرٌ مستبعدٌ لعدم ثقة السعوديين أصلاً بما لم يصنعوه هم قبلاً.
في الختام، يأتي مصرع علوش إيذاناً بوقتٍ جديد على سوريا، حيث أن انحسار التأثير "السعودي" الكبير يبشّر بإمكانيات أوسع للحلول، فالسعودي حالما يفقد منظومتي القيادة والسيطرة على الأرض السورية، يبدأ بطرح البدائل، وإذا لم يجد بدائل مناسبة، فإنه سيعود سريعاً لإيجاد حلولٍ مع نظام الرئيس بشار الأسد؛ قد يبدو الأمر "خلبياً" حينما يحكى اليوم، لكن السؤال الأهم يبقى بالتأكيد: اذا ما انهار جيش الإسلام، وفقدت السعودية كل نفوذها في سوريا، فماذا ستفعل؟ إن الاحتمالات الوحيدة ههنا هي إما الاختفاء نهائياً من الساحة السورية (التي يتصارع الجميع كي يكون لهم موطئ قدمٍ فيها لإثبات قوتهم ونفوذهم بالتالي لن يقبل السعودي أن يوجد التركي والقطري وغيرهم ويغيبوا هم)؛ أو دعم النظام السوري تحت حجج ومسميات كثيرة (ليس آخرها محاربة الإرهاب وداعش وسواهما).
* كاتب فلسطيني