سعد الله مزرعاني*
طُرحت ولا تزال تُطرح أسئلة عن حجم العامل الدولي والإقليمي وتأثيره في مكوّنات الأزمة اللبنانية، بإزاء حجم وتأثير العامل المحلّي فيها. ويزداد الآن، تناول هذا الموضوع ارتباطاً بالهدنة الراهنة في الأزمة اللبنانية. ولمحاولة تحديد سبب هذه الهدنة، بالأولوية: أهو في تطوّرات العامل الخارجي (الإقليمي والدولي)، أم في العامل المحلّي وتوازناته، أم في العاملين معاً؟
هذه الأسئلة ليست جديدة. في فترة حرب السنتين إلى نهاية الحرب اللبنانية، في أواخر التسعينيات (بعد عقد ونصف من الصراع الأهلي الشامل والدامي والمدمّر)، دار نقاش حاد حول طبيعة الصراع وحول اللاعبين الأساسيّين فيه، وحول التسمية المناسبة لذلك الصراع... ويشكّل الأستاذ غسان تويني بدوره المستمرّ وإسهاماته الغنية والمديدة، ومثابرته على عدد من المفاهيم، صوتاً ملحّاً باستمرار على التأكيد أنّ الحرب في لبنان لم تكن حرباً بين اللبنانيّين، بل كانت كناية عن «حروب الآخرين على أرضنا». يحاول الأستاذ تويني من خلال ذلك الإلحاح، التشديد على أنّ عوامل وقوى خارجية (الفلسطيني في مرحلة، والسوري في معظم المراحل)، هي التي أدّت إلى اندلاع الحرب على لبنان واللبنانيّين! طبعاً يقلّل الأستاذ تويني من شأن التناقضات المحلية، إلى درجة عدم الاعتراف بحجم لها يستطيع أن يؤدّي إلى نشوء نزاع شامل ومديد. ويتشارك فريق آخر، مع هذه النظرة في نفي صفة الحرب الأهلية عن الأزمة الوطنية اللبنانية (1975ـــــ1990). هذا الفريق يبالغ إلى حدّ نفي الصفة اللبنانية أيضاً، عن الأطراف التي رفضت سياسة استخدام العنف ضدّ المنظّمات الفلسطينية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، ثمّ انخرطت في معركة لتصحيح الخلل في سياسة الحكم اللبناني آنذاك، ثمّ في النظام اللبناني نفسه، ابتداءً من أواسط السبعينيات (الحركة الوطنية التي ترأّسها القائد الشهيد كمال جنبلاط).
البعض، إذاً، انطلق من نزعة عنصرية أو شبه عنصرية، حيال النزاع الذي اندلع في لبنان (شملت مفاعيل هذه النزعة الفلسطينيّين واللبنانيّين الذين تعاونوا معهم). والبعض الآخر، انطلق من إسقاط الأسباب الداخلية للنزاع أو التقليل منها إلى درجة نفي قدرتها على إحداث نزاع أهلي كبير وممتد، كما أسلفنا. لكنّ الطرفين اجتمعا، بشكل صريح ومثابر، على نفي وجود أزمة كبيرة في العلاقات بين اللبنانيين.
وبمقدار ما كان يُطرَح موضوع الإصلاح والتغيير (البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية عام 1976) كان يزداد التشبّث «بالصيغة اللبنانية» الفريدة، التي يعادل المساس بها، جزئياً أو كلياً، المساس بالكيان اللبناني نفسه!
لقد جرى بالفعل، الربط ما بين النظام السياسي ذي المرتكزات الطائفية والامتيازات والتوازنات المختلّة، وكيان لبنان، أي وجوده نفسه!
وبالعودة إلى وقائع تلك المرحلة، نستطيع الاستنتاج أنّ أحد أهمّ الأسباب في إطالة أمد الحرب الأهلية اللبنانية، وفي زيادة خسائرها وأضرارها البشرية والمادية، قد كان يتمثّل في إصرار الفريق (الذي نُعت بالانعزالي آنذاك)، على رفض الإصلاح، أي رفض المساس حتى بآلية اتخاذ القرار في السلطة اللبنانية. ويفاخر الرئيس الأسبق أمين الجميل، بأنه هو من رفض التوقيع على التغيير طوال قممه الـ11 مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. وقد آثر آنذاك (عام 1988) أن يترك السلطة والبلاد، في غمرة انقسام دام ومدمِّر، كان الأكثر كلفة بكل المقاييس!
موضوع الإصلاح شأن خطير في مسار لبنان والتعامل مع أزماته المتفاقمة. ولئن تمّ فرض تعديل في آلية اتخاذ القرار في مؤسّسات السلطة اللبنانية بعد «اتفاق الطائف» (1989)، فإنّ عناوين الإصلاح الأكثر أهمية، قد حصل تواطؤ شامل على تجاهلها، رغم أنّ مواد دستورية صريحة قد أُقِرَّت بُعيد اتفاق الطائف.
إنّ إحداث التعديل في آلية اتخاذ القرار (خصوصاً نقل القرار من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً)، لم يفِ بالغرض المطلوب، إلا بالنسبة إلى أولئك الذين دعموا الإصلاح شكلاً. أمّا في المضمون، فقد كانوا يعملون من أجل نقل الهيمنة من جهة إلى جهة أخرى، في لعبة تغيير توازنات السلطة، دون المساس بالجوهر الطائفي للنظام السياسي ذي الأساس الطائفي.
تطرّقنا إلى كلّ ما تقدم، من أجل الإشارة إلى أهمية التناقضات اللبنانية ـــــ اللبنانية من جهة، وإلى حجم الخلل القائم في صيغة علاقات اللبنانيّين (أي نظامهم السياسي)، من جهة أخرى.
وفي الطور الراهن من الأزمة اللبنانية، لا يجوز إهمال تأثير عناصر التوتّر والصراع الداخليّين، وقدرة هذه العناصر على إعادة تأزيم الأمور، هذا إذا سلّمنا بأنّ العوامل الخارجية هي التي دفعت أساساً إلى حصول الهدنة التي تظلّل الصراع السياسي الراهن، الذي كاد يتحوّل إلى حرب أهلية شديدة الأذى، فظيعة النتائج.
لقد كانت الموضوعية (وبالتالي التوازن) في تحليل العناصر والعوامل الفاعلة في صراع وتناقض ما، هي المدخل السليم لفهم هذا الصراع، وبالتالي للولوج في محاولات إيجاد حلول مناسبة له. وبالمقابل، كان التخلّي عن هذه الموضوعية تعبيراً عن جنوح فئوي ترتّبت عليه أفدح النتائج. ويبرز هنا الاستنتاج الثمين الأساسي الذي لا يجوز الاستمرار في تجاهله: إنّ مصدر أزمات لبنان هو في الداخل قبل أن يكون في الخارج، وبما يلخّصه المثل الشعبي المعروف: «دود الخلّ منّو وفيه»!!
ويملي الأخذ بهذا الاستنتاج جملة مهمّات يقع تنفيذها على عاتق اللبنانيين بالدرجة الأولى. من هنا أهمية، بل ومصيرية، الكفّ عن تنزيه الوضع الداخلي اللبناني عن الخلل، والكفّ بالتالي عن التمسّك بالنظام الحالي للعلاقات بين اللبنانيّين، والاكتفاء فقط بتعديل التوازنات التي أصبح تعديلها مفتوحاً بالضرورة على اسوأ احتمالات التدهور والكوارث. ولقد أخطأ أولئك الذين، من موقع اليسار، جنحوا إلى الموافقة على أزلية النظام الطائفي اللبناني، اكتفوا بالسعي إلى «تحسين» توازناته، وسارعوا بالتالي إلى الالتحاق بتشكيلاته التقليدية، وبشكل خاص الأكثر طائفية ومحافظة ويمينيّة من بينها. ولا تبرّر شعارات من نوع السعي لتحقيق الاستقلال والسيادة والحرية مثل هذه الصيغ الملتحقة التي ارتكبها بعض اليسار السابق، بذريعة التجديد والتغيير والديموقراطية!
تقودنا هذه المقدّمات إلى الانخراط بشكل أوسع وأعمق، في نقاش ماهية أزمات لبنان، وفي محاولة إيجاد حلول لها. وهناك سببان جوهريان، لمثل هذا التوجه:
سبب مباشر راهن، قائم في ما يمكن أن تؤدّي إليه الصراعات الضارية الراهنة الناشطة في نطاق النزاع على مواقع النفوذ والحصص والتوجهات والتحالفات السياسية (إلى موقع لبنان في الصراع الإقليمي والدولي...)، من مخاطر تطيح الهدنة «الخارجية» وتعيد الاعتبار إلى أكثر الاحتمالات سوءاً...
وسبب يفوق ذلك أهمية، وهو السعي لبلوغ الحلول الجذرية التي يؤدّي إليها إصلاح جذري، أساسه التخلّص من الجوهر الطائفي للنظام السياسي اللبناني، وإقامة نظام مساواة عادي وطبيعي وسليم بين اللبنانيين. هذا النظام المنشود سيكون بالضرورة نظاماً ديموقراطياً، يستطيع دون سواه، أن يؤمّن عوامل الوحدة الحصينة والسيادة الراسخة، ويفتح الطريق أمام أن يمارس اللبنانيون تميزهم، وأن يستثمروا إنجازاتهم (الضائعة والمهدورة) في حقلي المقاومة والديموقراطيّة.
تعثّر انتخاب رئيس هو إنذار خطير. واغتيال ضابط كبير في الجيش اللبناني، إنذار أخطر. لكن، للأسف، فإنّه حتّى لو تمّ إنجاز الانتخاب، أو أمكن تفادي الاغتيال، فالحلّ يبقى في مكان آخر: في الإصلاح الجذري الذي لحسن الحظ توجد بعض عناصره الأساسية في الدستور اللبناني.
* كاتب وسياسي لبناني